الفصل السابع

العودة من البحر

السفينة الشراعية ذات الصارِيَين «كورويث كريمر» هي السفينة الشقيقة للسفينة «روبرت سي سيمانز» في المحيط الأطلنطي. صُمِّمَت لمهمة مماثلة، وهي أقدم وأبسط قليلًا في معَدَّاتها، وأجمل نوعًا ما في شكلِها، وتتمتَّع بذلك التميُّز الخاص الذي يبدو أن الأشياء القديمة عادةً ما تكتسِبه بمرور الزمن. أعتلي سطحها الرُّبعي، وأتوقف لأُشاهد سفينة أخرى في طريقها للوصول، أمامنا مباشرةً في الناحية الأخرى من المَرفأ. يبلغ طولها ٢٠٠ متر، وتدور في مكانها وتعود بشكلٍ أنيق إلى مَرساها مثل عربة خبز؛ سفينة من الفولاذ يبلُغ وزنها ٣٠ ألف طن، ترجع ببراعة إلى مكان استراحتها بفضل مهارة قيادة السفينة. لا يُحيط برحلتها المُكتملة الكثير من الضجة، بل مجرد «دوي» معدِني عندما تُفتح الأبواب عند مُقدمة السفينة لتلفظ على الفور سيلًا من المركبات والأشخاص. «خطوط جريمالدي»، هكذا كُتِب بحروف بيضاء طويلة على هيكلِها الضخم، مثل نصٍّ على لوحة إعلانية. لدى آل جريمالدي، الذين ورثوا عن الفينيقيين براعتهم في الملاحة، القدرةُ على نقل البضائع والأشخاص عن طريق البحر إلى أي مكانٍ تلتقي فيه الطرُق السريعة بالشاطئ. في غضون ساعاتٍ قليلة، ستكتمِل مرةً أخرى حمولة السفينة التي أُشاهدها وتعود من حيث أتت. ربما إلى روما. وربما إلى سردينيا، أو تولون، أو إيبيزا. وهذا هو «الشحن البحري القصير»، وهي تجارة ساحلية تتجنَّب الطرُق لتربط بين المدن عبر المسار المباشر في المياه. إنها تجارة قديمة صارت حديثةً بفضل سفينة كهذه؛ فهي سريعة مثل السفن السياحية ولكنها سعة تخزينية كبيرة حيث توجَد بها أماكن تخزين واسعة تجعلها تُشبه أفواه سمك القرش الجَوَّاب، فهي تبتلِع حمولاتٍ هائلة تصل إلى ٣٠٠ سيارة في المرة الواحدة. تُشكِّل مثل هذه السفن النسيجَ الضامَّ لمحيط أوروبا، فهي أرخص من النقل الجوي، وغالبًا ما تكون أسرع من الطرق البرية.

تهبُّ عصفةُ ريحٍ ونفحةٌ مكافئة من الدخان من عبَّارة جريمالدي بينما يُدير قائدها المحرك للمساعدة في الخطوات النهائية للرسو. يدخل المطر تحت مظلتنا، فأتراجع لأظل جافًّا. إنه الصباح الباكر ولا توجَد حركة مرور في رصيف الميناء الخاص بنا، باستثناء عاملة نظافة ترتدي ملابس عمل فاقعة اللون وتكنس قطع الحطام من حول مقاعد المُتنزَّه. تمرُّ بنا وترمقني بتعبير جِدِّي، إنها امرأة طويلة ذات شعر مُتلبِّد داكن ومُدهش وقِرطَين ذهبِيَّين في أذنَيها. في نهاية المطاف نحن في برشلونة.

في مقصورة سطح السفينة تندفع قطرات المطر عبر النوافذ مُكوِّنةً ما يُشبه أنهارًا مصغرة، والأرضية مُبللة بآثار الأقدام. يحتسي أفرادُ فريق العلماء القهوة وينظرون بفتورٍ إلى الرسوم البيانية. تُومئ روزا بالبين برأسها مُرحبةً بي، وتظهر هيئتُها الصغيرة غير واضحة في سُترتها الرياضية القديمة. إنها عالِمة مُحيطات من جزيرة مايوركا الشبيهة بالجنة وهي مُنضمة إلى السفينة هنا بصفتها مُراقِبة؛ فهي كنز للمعرفة المحلية يمشي على الأرض. أقول لها صباح الخير مُبتسِمًا عندما يرنُّ جرس الإفطار في مكانٍ ما بالأسفل، وأسمعُ بابَ غرفة المحرك يُفتَح ويُغلَق استجابةً لذلك، في صرصرتَين لمِقبض الفتح والغلق تتخلَّلهما دَفعة من ضجيج الآلات.

نشرع في هذه الرحلة من مكانٍ يعود فيه التفاعُل بين البشر والمياه إلى أبعد ما يمكن أن تصِل معرفة المرء. بدأت برشلونة كمُخيم لصيد الأسماك في العصر الحجري القديم، وهي اليوم حاضِرة ومعلم ذو صيتٍ للتجارة البحرية والخرسانة المسلحة. خارج الكاتدرائيات والأزقَّة القوطية في المدينة، يوجَد ميناء الحاويات، الذي تزداد مساحاته المرصوفة ازديادًا كبيرًا لمواكبة حاجة التجارة في أوروبا في القرن الحادي والعشرين. علمتُ أن مليونَي حاوية مرَّت من هنا خلال الاثني عشر شهرًا الماضية، وهو ما يُعادل خطًّا من الشاحنات يمتدُّ من باريس إلى فلاديفوستوك.

في وقتٍ لاحق، نذهب للسير على المَمشى في منطقة برشلونيتا، حيث اختفت الحشود وأنزلَ النوادل في مقاهيهم الستائر البلاستيكية في مواجهة عاصفةٍ مُمطرة جديدة. يعدو راكبُ أمواجٍ ذَهابًا وإيابًا بمُحاذاة الشاطئ، بشراعه الوحيد المُنتصِب مثل جَناح يعسوب. تُخبرني روزا بأن ريح اليوم هي ريح يُطلقون عليها بالإسبانية «يفانتادي»، وهي نوع من العواصف الخريفية التي تنشأ عندما يهاجر الهواء الجاف الدافئ شمالًا من أفريقيا ويسحب الرطوبة من سطح البحر. يرتفع الهواءُ غير مُستقر طافيًا، ويبرد، ويُطلق الماءَ على شكل سُحبٍ وأمطار. تتكوَّن نواة ضعيفة من الضغط المُنخفض، وتدور بفِعل تأثير كوريوليس. عادةً ما تتوقَّف هذه الأنماط الجوية في مكانٍ ما في المنطقة بين إسبانيا وسردينيا، مما يؤدي إلى وصول تيارٍ رطب وعاصف من الرياح الشرقية، التي تكون مُزعجة لدرجةٍ تجعلك تُعيد النظر في خططك مهما كانت. تُسمِّي روزا البحر المتوسط «محيط في زجاجة»، فهو بحر داخلي صغير يشهد جميع عمليات الطقس البحرية تقريبًا، التي تؤثر فيها الصفائح التكتونية ويُعززها تنوُّعُ التضاريس المحيطة.

أسمعُ شيئًا مُشابهًا لهذا من شخصٍ آخر أُقابله بعد ذلك بوقتٍ ليس بطويل؛ رجل كرواتي ضخم له شارب يُشبه شوارب راكبي الدراجات النارية وذراعان صُلبتان مثل جذوع الأشجار. يذهب هو وطاقم من الأشخاص الذين لا يقلُّون عنه ضخامةً في طريقهم إلى أمريكا الجنوبية بقارِب سحبٍ جديد، لكنهم يُخططون للعودة إلى الوطن في موسم صيد الخنازير البرية. لكن يبدو أن شغف الكابتن ماركو الحقيقي هو الإبحار، فنقضي ساعةً في مشاركة قصصٍ عن البحر، التي يدور معظمها عن الوقت الذي قضاه في التجول على امتداد ساحل البلقان. يخبرني بأنه مكان مذهل، تتناثر فيه الجزر والمدن الساحلية الجميلة. من المؤكَّد أن الحروب اليوغوسلافية كانت انتكاسة، ولكن الشيءَ الوحيد الذي يجب حقًّا الحذر منه الآن هو رياح البُورَة التي تهب من وقت لآخر. تهب رياح البُورَة عندما يتراكَم الهواء البارد الكثيف فوق السهوب الأوراسية ويصبُّ في البحر الأدرياتيكي عبر ممرات جبال الألب الدينارية. إنها حالة بسيطة من الضغط والتدفق المُقيَّد، مثل فوهة. وسواء كانت بسيطة أو غير ذلك، فرياح البُورَة رياح شرسة، وقد تهب دون سابق إنذار وبسرعة تصل إلى ٩٠ عقدة. فحتى بالنسبة إلى قباطنة الرحلات الاستجمامية، لا يُعد الإبحار الترفيهي ترفيهًا في مثل هذه الظروف.

رياح البُورَة هي النسخة السلافية النظيرة لرياح «الميسترال»، التي تهب على إسبانيا قادمةً من فرنسا عندما يتراكم الضغط العالي فوق القارة وينخفض فوق البحر المتوسط الدافئ. يتدفق الهواء عبر وادي الرون ويخرج عبر خليج ليون في نطاقٍ ضيق، أحيانًا بقوة إعصار، وهي قوة كافية لتهديد السفن، حتى الحديثة الكبيرة منها. تصل رياح الميسترال إلى أقصى الجنوب حتى جزر البليار، حيث تُعرف محليًّا باسم رياح «الترامونتانا». يسعدني ألا أُصادف رياحَ الميسترال شخصيًّا إن تمكنتُ من ذلك. نحن الآن في أوائل شهر أكتوبر، وهو وقتٌ مُبكر بعض الشيء في الموسم للقلق بشأن رياح الميسترال، لكن هبوبها في هذا الوقت ليس مستحيلًا.

من الناحية التصنيفية، تنتمي البُورَة والميسترال إلى الرياح «الهابطة» (من أعلى المنحدر الجبلي)، التي توجَد في أي مكانٍ يمكن فيه للهواء الجبلي البارد أن ينحدِر سريعًا إلى الأرض. لقد سمعتُ عن مثل هذه الرياح من قبل في أماكن أخرى. فقبل وقتٍ طويل من إبحاري بالسفينة المتعدِّدة الصواري «بودوين» في رحلتي المليئة بالأحداث إلى القطب الشمالي، قضت تلك السفينة الحرب العالمية الثانية في جرينلاند في إجراء عمليات مسحٍ لمضيقٍ بحري طويل يُسمى كانجرلوسواك لصالح البحرية الأمريكية. وقد أُرسِلت إلى قبطانها، الذي كان ضابطًا شابًّا يُدعى ستيوارت هوتشكيس، تحذيراتٌ بشأن ما يُسمَّى برياح «الفون»، التي تنشأ عن تياراتٍ هوائية هابطة من المناطق الداخلية الجليدية المرتفعة. ينضغط الهواءُ الذي تجلبه الرياح الشرقية القطبية فوق الغطاء الجليدي وترتفع حرارته فعليًّا وهو يندفع إلى أسفل عبر الوديان بسرعة كبيرة. كان النذيرُ الأول لرياح «الفون» هو الارتفاع المفاجئ في درجة الحرارة عند مستوى سطح البحر، مصحوبًا بارتفاع قراءة البارومتر. هذا بالضبط ما رآه الملازم هوتشكيس وأفراد طاقمه عصر أحد أيام خريف عام ١٩٤٣، وبذلوا قصارى جهدهم للاستعداد، حيث أمَّنوا المعَدَّات غير المربوطة وأرسلوا حبالًا إضافية إلى الشاطئ. وبالفعل هبَّت الريح كما كان متوقعًا في غضون ساعة، حيث بلغت سرعتها ٨٠ عقدة مهددةً بتحطيم قاربهم الصغير على رصيف الميناء. كانت أُولى علامات الكارثة عندما بدأت أدوات التثبيت — مسامير حديدية طويلة وأوتاد خشبية صُلبة تُسمى «دُسُر» — تنفك من هيكل السفينة تحتَ وطأة العاصفة. كل ما استطاع الرجال أن يفكروا فيه هو إعادة تثبيتها في أماكنها، وهذا ما فعلوه، حيث كانوا يتناوبون على الانحناء فوق جانب السفينة بمطرقةٍ ثقيلة في كل مرةٍ ترتد فيها سفينتهم المعذَّبة بعيدًا عن الرصيف. ذات يوم أثناء تناول الغداء قال لي ستو: «كانت تجرِبة مُمتعة للغاية»، ربما مُتسلِّحًا بالهدوء ورباطة الجأش اللذَين تشكَّلا لدَيه بتقادُم هذا الحادث.

أسماءُ الرياح في البحر المتوسط مُستمَدة إلى حَدٍّ كبير من خصائصها الجغرافية. فلكلمة «يفانتادي» Llevantade جذور في الفعل الإسباني llevar (يرتفع)، وهي واحدة من عائلةٍ من الرياح التي تهب من الشرق. تذكُر روزا رياحًا تأتي من مكانٍ آخر على البوصلة، ولها أسماءٌ مألوفة تُذَكِّرُني بمقدار النشاط الدائر في هذه المنطقة المزدحمة حيث تلتقي قارتان ومحيط. أما رياح «البونينت» فتعني الغرب في اللغة الإسبانية وتشير إلى نسائم لطيفة تهب من المحيط الأطلنطي، متدفقةً عبر مضيق جبل طارق. وهناك أيضًا رياح «السيروكو»، التي تهب من أفريقيا محمَّلةً بالرمال وتتحول إلى رياح رطبة وضبابية لامتصاصها لبخار الماء كلما تقدَّمت شمالًا. تُشكل الجسيمات الدقيقة من الرمال المحمولة جوًّا نواة للتكاثف، حيث تجلب ذراتٍ صغيرة للغاية من الصحراء الكبرى إلى أوروبا مع الأمطار. يُطلَق على رياح السيروكو في ليبيا اسم: «العريفي» (العَطْشى)، وفي كرواتيا اسم: «اليوجو» (الجنوب).

في غضون أيام قليلة، اختفت رياح يفانتادي، ولم تترك وراءها سوى تموُّج ثقيل يُقابلنا ونحن نتباطأ بالقُرب من حواجز الأمواج عند مدخل المَرفأ. وبصعوبةٍ، يحاول طلَّابنا المُنضمون حديثًا السير في خطوطٍ مُستقيمة بينما يُوجِّههم الطاقم من مهمة غير مألوفة إلى أخرى. في سكون منتصف النهار، تُصبح الشمس ساطعةً على الفور، وتطفو السفن الأخرى حولَنا مثل مناطيد وسط ضبابٍ دخاني. لا رياح على الإطلاق للإبحار، ما يجعل المياه ملساءً مستوية لا تقوى على حمْل السفن.

تقول روزا: «مرحبًا بكم في البحر المتوسط. يومٌ واحد من العواصف، وتسعة أيام من الهدوء.»

أفترض أننا نشهد نسيم البحر المتوسط غير المعلوم الاسم، الذي لا رياح فيه.

تُجيب: «أها، نعم. إنه El sin viento (انعدامُ الريح).»

ترتكز الطاولات في غرفة الطعام بالسفينة على حوامل ثنائية المحاور لتجنُّب الحركة، وهو نظام تقليدي فعَّال ولكنه مُثير للقلق للوهلة الأولى. تترنَّح السفينة إلى اليسار وتميل الطاولات يمينًا. وتبقى البطاطس المهروسة، والسلطة، والمرق، وعصير الليمون في أماكنها ما دام لم يلمس أحد الطاولة. هذا مشهد غير باعث على الراحة لشخصٍ في المراحل المبكرة من دُوار البحر. الحضور على الغداء قليل بشكل ملحوظ، وقد أخذ بعضُ الحاضرين كَمياتٍ قليلة جدًّا من الطعام. يأكلون بسرعةٍ وبصمت، ثم يستأذنون في المغادرة، ويتحرَّكون بسرعةٍ نحو السلالم المؤدية إلى الهواء النقي. يؤكِّد الطب أن دُوار البحر هو ببساطة نتاج عدم التوافُق بين العين والأذن الداخلية، ولكنه يُمثل لمَن يُصابون به موجةً عاتية من اليأس تجتاح المرء، من دُوار، وإرهاق، وانعدام رغبة حادٍّ في أي شيءٍ باستثناء النوم أو التقيؤ. ومثلما هو الحال في دُوار المرتفعات، يُمثل دُوار البحر فترة عدم تأقلُم تنتهي عندما يتوفَّر لك الوقت الكافي للتأقلُم. بعد بضعة أيام يصبح معظم الناس بخير. وبعضهم، على نحوٍ غير مُتوقَّع، لن يُعانوا من الدُّوار على الإطلاق. فذلك الفرد الذي لا يلفتُ الأنظار عادةً، والقادم من دولةٍ لا يرى فيها البحر، يباشر شئونه بسعادة، كزعيمٍ يظهر فجأة وسط رفاقه الضعفاء في السفينة. ثمة أدوية يمكنك تناولها، وعلاجات أخرى لا أثق في جدواها كثيرًا، مثل الزنجبيل المُجفف، والبابونج، وأساور المعاصم التي يزعم البعض أن لها ذات الأثر السحري للوخز بالإبر. عادةً ما أكون بخير حتى تأتي تلك اللحظة الغريبة التي لا أكون فيها بخير فجأة، الأمر الذي يحدث غالبًا في يومٍ لطيف في مرحلةٍ متأخِّرة من الرحلة عندما أُدرك، نتيجة الشعور بالإرهاق أو الجفاف، أنني فقدتُ الاهتمام بتناوُل الغداء. على عكس المبتدئ الغَض، كنتُ أعلم بحكم خبرتي أن تلك المعاناة ستمر.

تستمر حالة انعدام الريح معظم اليومَين التالِيَين، حيث يتضاءل المشهد العمراني الشاسع لبرشلونة حتى يُصبح وهجًا مسائيًّا خافتًا ثم يختفي. إلى الجنوب تقع مدينة طَرَّكُونَةُ الساحلية ونهر إِبْرَةَ، وتتميز دلتاه الواسعة بركامٍ طويل من السُّحب في السماء. وفي الليل، تضيء شمعة الغاز في منصَّةٍ وحيدة للنفط. أتذكَّر القوادس الرومانية التي رأيناها في سقائف الطوب الخافتة الإضاءة في متحف برشلونة، وهي قوارب طويلة مفتوحة، ذات أشرعةٍ للأوقات التي تساعد فيها الرياح على الإبحار وعدة صفوف من المجاديف لأوقاتِ غياب تلك الرياح. في فصول الشتاء المُباغتة والقارسة، كان من الحكمة سحبُ تلك القوادس إلى الشاطئ وملؤها بالصخور حتى لا تجرفها الرياح بعيدًا قبل فصل الربيع. ننجرف متجاوزِين إسفين جزيرة مايوركا الطويل المائل، بكُتلته الصخرية الكربونية التي خلَّفها آخرُ اصطدامٍ بين قارتَي أوروبا وأفريقيا منذ زمنٍ بعيد. لا تزال هناك بقايا نادرة من غابات البحر المتوسط البدائية، وبساتين زيتون قديمة مُدرَّجة على سفوح التلال شِبه العمودية مع تنسيقاتٍ فنية من الحجر. إنه أحدُ مواقع التراث العالمي.

سألتُ ذات مرة: «مَن يحصد هذا الزيتون؟»

وقيل لي: «لم يعُد أحدٌ يحصده. إنه عمل شاق للغاية.»

وقت العصر، تظهر حواجز كبيرة من المُزن الركامي فوق الجزيرة، وتمرُّ فوقَنا مثل المطر. وتخط شرائطُ البرق السماءَ. هذا هو «الرفع الجبلي»، حيث يُدفَع الهواء الذي تُحركه الرياح لأعلى نتيجة التفاعل مع كتلة أرضية. ينخفض الضغط، ويتمدَّد الهواء، ويبرد، ويُطلِق الماءَ على شكل تكاثف. عندما تعود السفينة «كورويث كريمر» إلى أمريكا بعد شهرَين من الآن، لن يكون أول ما يراه الطاقم من المكان هو اليابسة، بل السُّحب، أكوامًا كبيرة من الهواء المداري الرطب تدفعها الرياح التجارية غربًا وترفعها المنحدرات البركانية الحادة لجُزر الأنتيل.

في مقصورتي بعد العشاء، أجلسُ منغمسًا في بعض المهام القيادية عندما يأتيني شخص مُستدعيًا.

«سفينة تتَّصل بنا عبر اللاسلكي.»

أصعدُ إلى سطح السفينة لأنظر. لا نزال في بداية المساء، وقد تلاشت الشمس لتتحول إلى شريط برتقالي خافت في الغرب، مُخلِّفةً وراءها سماءً رمادية. تمر بنا إلى اليمين الأضواءُ الباذخة لإحدى السفن السياحية، وبالفعل تُسمَع تردُّدات اللاسلكي:

«إلى السفينة الشراعية «كورويث كريمر»، هذه هي السفينة السياحية ماين شيف ٣، 9HA4883

يتقدم الضابط المسئول للرد.

«نعم، هذه هي السفينة «كورويث كريمر»، WTF3319. حوِّل الاتصال إلى القناة العاشرة، وتابع من فضلك.»

«مساءَ الخير السفينة «كورويث كريمر». هل إليوت رابابورت على متن السفينة؟»

ينظر إليَّ المعاون وكأنني جيمس بوند ويُناولني الميكروفون. ليس لدي أدنى فكرة عما يحدث.

«نعم، أنا إليوت.»

«إليوت! معك تود. كيف الحال؟»

إنه بحَّارٌ زميل سابق، ولكنه الآن في مسارٍ وظيفي مختلف تمامًا، حيث يجلس في وحدة التحكم الخاصة به في الجزء العلوي من سفينةٍ فاخرة بينما يستمتع خمسةُ آلاف شخصٍ بمآدب الطعام والشراب، ويتسوَّقون لشراء أحدث صيحات الموضة، وتمر عليهم عربات الخدمة من مقصورة إلى أخرى بينما يتحدث.

«تود! يا لها من مفاجأة سارة. لم تكن لديَّ أدنى فكرة أنك تعمل في هذا المجال الآن. يبدو أنك وجدتَ وظيفة جيدة. لم تعُد مُضطرًّا للوقوف في المناوبة في الطقس السيئ، على أي حال.»

«حسنًا، أجل، للأمر مزاياه. إنني حقًّا أفتقدُ عمل البحَّارة …»

نُنهي الاتصال وأعودُ أدراجي إلى الأسفل. بدأَ رذاذ من المطر يتساقط، وبينما كنتُ أنحني للدخول عبر الفتحة، أفكرُ فيما يمكن أن أفعله أيضًا في حياتي، محاولًا تصوُّر عالَم تود بديلًا لحياتي الحالية. فأتخيل قهوةً أفضل، ومقصورة خاصة واسعة، وخزائن مليئة بالزيِّ الأبيض الناصع الذي غسلَه لي شخصٌ آخر.

•••

بينما ندور حول الركن الجنوبي الشرقي لإسبانيا في اليوم التالي، تأتي الرياح لتعترِض مسارنا بعُنف وفي مواجهتنا. بحر البوران هو بوابة البحر المتوسط، وهو فتحة أفقية طويلة تحدُّها جبال إسبانيا والمغرب المتاخِمة. يكفي مجرد فارقٍ ضئيل في الضغط الجوي بين مُحيطنا المحاصَر (البحر المتوسط) والمحيط الآخر الخارجي (المحيط الأطلنطي) للدفعِ برياح شديدة وسط التضاريس الشديدة الانحدار. في الصيف، عادةً ما يدفع مرتفعُ برمودا-جزر الأزور الهواءَ نحو الضغط المنخفض للبحر المتوسط المعتدل، ويملؤه حتى تؤدي الانعكاسات الدورية إلى عودة الرياح في الاتجاه الآخر. وتكون رياح الليفانت (المشرقية) الخارجة باردةً ورطبة وتُرسِل سُحبًا متدفقةً مع اتجاه الرياح من صخرة جبل طارق. يمكن أن تستمر أي مرحلة في هذه الدورة لعدة أيام، مما يعني أن التوقيت هو كلُّ شيءٍ إذا كنت بحَّارًا يحاول الوصول إلى البحر الداخلي أو مغادرته. مما يزيد الأمور تعقيدًا أمامنا انخفاضُ الضغط اليوم قبالة قرطاجنة، مما يؤدي إلى ظهور عاصفةٍ غربية محلية تحمل اسمًا خاصًّا بها، وهي «البيندابال» (أي العاصفة). تقول روزا إن البيندابال تُشبه رياح البونينت ولكنها ليست لطيفة مثلها على الإطلاق. أوافقها في ذلك.

ينخفض سطح البحر المتوسط عن سطح المحيط الأطلنطي بما يصل إلى ٢٠ سنتيمترًا، وهو انحدار ناتج عن الرياح السائدة والتبخُّر السريع لهذه البحيرة المالحة الدافئة الواقعة بين أوروبا وأفريقيا. ويكون التأثير ملحوظًا بأكبر قدرٍ عند مضيق جبل طارق، حيث تتدفق التيارات السطحية بثباتٍ نحو الشرق في تدفُّقٍ يصل ذروته عند كل مَدٍّ مرتفع، مثل نبض الدم البطيء في شريان أَوُرطَى كبير. وباجتماع هذا كله مع رياح البيندابال، يصبح هدفنا الملاحي اليوم أشبه بحفر نَفقٍ بمِلعقة. قد يطمح يخت حديث ذو كفاءة عالية في الإبحار لمواجهة الرياح في مِثل هذه الظروف، ولكن في حالة سفينة تقليدية كبيرة مثل سفينتنا، فإن هذه الآمال غير واقعية. فالسفن الشراعية، بوجهٍ عام، مُصممة للإبحار في الرياح المواتية وانتظار مرور الرياح المعاكسة. نظرًا إلى عدم وجود وقتٍ للانتظار، شغَّلنا مُحركنا الرئيسي، مُستخدِمين كلَّ طاقة نراها لازمة لدفع السفينة لأعلى وتجاوز الأمواج العاتية التي تشكَّلت حديثًا. إنها معركة لقطع مسافة صغيرة جدَّا في كل مرة، ولا تبعث على الاسترخاء على الإطلاق. أتساءل في نفسي: «هل كان الرومان سيجدفون في مثل هذا الطقس؟» على الأرجح لا. أغلب الظن أنهم كانوا سيُبحرون عائدين إلى الوطن أو يتجهون إلى الشاطئ. تتطاير الأطباق في مطبخ سفينتنا.

بعد حلول الظلام، يقف مِقبض كوكبة الدب الأكبر منتصبًا فوق جبال كوستا ديل سول، فيبدو مثل كوكبةٍ هاربة من مجرة الأضواء على امتداد الشاطئ. مع زيادة الحمل، ترتفع درجةُ حرارة وقود الديزل في سفينتنا، وتنتشِر في غرفة المُحرك رائحةٌ خفيفة تُشبه رائحة غرف الساونا. الضجيج يصم الآذان. يوضح لنا مؤشر بارز من مجمع العادم، يُشبه مقياس حرارة اللحوم، أن درجة حرارة العادم تتجاوز ٨٥٠ درجة فهرنهايت، وهي درجة حرارة تكفي لإشعال النار في أريكة. يؤكد لي المهندس أن درجة الحرارة هذه تُعَد دافئة لكنها ليست دافئة جدًّا، غير أنه حديثُ العهد بالأمر ولا يمكن الاعتماد على خبرته، فقد واجهت السفينة رياحًا معاكسة مُماثلة في طريقها إلى البحر المتوسط قبل ثمانية أسابيع. لو كانت هذه رياح الليفانت، لكانت هي الرياح بالضبط التي نتمنَّى هبوبها الآن عند مغادرتنا. يلاحق الحظ العاثر السفينة «كورويث كريمر» للمرة الثانية على الأقل في هذا الصدد.

الفجرُ يبزغ. ومن مَعقل الحجر الجيري لجبل طارق، تتشكَّل سحب أسطوانية طويلة تدور لأسفل من الحافة العلوية للصخور، وتتعاقَب فوق السفن الراسية. يصعب من موقعنا البعيد أن نرى مباني المدينة، مجرد صفوف طويلة ومنخفضة من أسطح المنازل وواجهاتها المتناثرة في الضوء الضبابي. من أي مكانٍ آخر في القارة يمكنك السفر عبر إسبانيا إلى هذه الأرض الحبيسة الغريبة، وبعد اجتياز معَبر حدودي واحد تجِد نفسك فجأة في إنجلترا. على طريق رئيسي يزخَر بمحلَّاتِ البطاطس المقلية وأكشاك الهدايا التذكارية، يتدافع حشدٌ من ركَّاب السفن السياحية بالصنادل، يشترون الوجبات الخفيفة، ويستقلُّون الترام صعودًا إلى الصخرة، وتنهب القردة البرية حقائبَ ظهورهم. تقبع على طول الشوارع الجانبية الهادئة معابدُ يهودية قديمة ومداخل بسيطة مُميزة بلوحاتٍ نحاسية، ولوحاتٍ تحمل أسماءً غامضة لا تكشف شيئًا عن أعمال أصحابها. وفي الحانات المُعتمة، يلعب رجال يرتدون سُتراتٍ جلدية على ماكينات القمار ويتجاذبون أطرافَ الحديث بينهم باللغة العربية وهم يرتشفون القهوة في فناجين صغيرة.

تتحرك السفن التجارية ذَهابًا وإيابًا عبر المضيق، بمعدل ١٥ سفينة في الساعة في كل اتجاه، وهي سفن ضخمة، غير عابئة بالتحديات التي تُواجِهنا في جميع الأيام باستثناء أسوئها. يمرُّ نصفُ الملاحة البحرية في العالم من هذا الطريق كل عام، في خطٍّ متواصِل من السفن ذات الأسماء المبتذلة المتجهة إلى جميع أنحاء العالم، مثل ناقلة البضائع السائبة «أركلو سبراي»، المتجهة إلى ميناء كانافيرال بفلوريدا، لتحميل الأسمنت. وسفينة الحاويات «ميرسك هارتفورد» المتجهة إلى ميناء الخِثِيراسْ. وناقلة الغاز الطبيعي المُسال «سونانجول سامبيزانجا»، المتجهة إلى سويو بأنجولا. أعرف كلَّ هذا من خلال شاشة رسم في غرفة الخرائط بالسفينة، حيث تظهر السفن على هيئة أيقوناتٍ في نسقٍ ملوَّن، ويُمكنك عرض تفاصيلها بنقرة زر. واليوم يتبادل أفرادُ طواقم السفن في البحر المعلومات من خلال ما يُسمَّى بنظام تحديد الهوية الآلي (إيه آي إس)، وهو مُعجزة أخرى، ذات اسمٍ اختير حسب الأصول المَرعية، من معجزات عصر البيانات، تجمع بين إشارات أجهزة اللاسلكي العالية التردُّد وإشارات نظام تحديد المواقع في شبكة معلوماتٍ مشتركة. بنظرةٍ سريعة على الشاشة، يمكن للبحَّار معرفة كل ما يحتاج إلى معرفته حول حركة الملاحة القريبة، بالإضافة إلى قدْر كبير من المعلومات ذات الصلة؛ إذ يمكن باستعلامٍ واحد معرفة اسم السفينة، وموقعها، ومسارها، وسرعتها. وكذلك رايتها، ووجهتها، وطولها، وحمولتها، وطبيعة عملِها. لقد حوَّلت التكنولوجيا مساحةَ البحر المجهولة إلى شيءٍ أقل غموضًا بكثير؛ فلا تزال السفينة في وسط المُحيط وحيدة، لكن فُرصتها على الاختفاء أصبحت محدودةً للغاية. ولا يزال يتعيَّن على الملَّاحين اتخاذ الإجراءات المناسبة واتباع قواعد الملاحة البحرية، ولكن بسبب الرادار، فضلًا عن نظام تحديد الهوية الآلي، أصبح من الصعب جدًّا ادعاءُ الجهل إذا تورطتَ في حادث تصادم.

منذ وقتٍ ليس ببعيد، كان الحصولُ على مثل هذه المعلومات ضربًا من الخيال، وكانت السفن تعتمِد اعتمادًا كبيرًا على تبادُل الرسائل اللاسلكية المُتقطعة، والتي غالبًا ما كان يُساء تفسيرها، والحوار التالي مثالٌ على ذلك:
«هذه هي السفينة الشراعية كورويث كريمر، WTF3319. نسير بزاوية ٢٧٠، وبسرعة أربع عُقَد، ونتَّصل بالسفينة التجارية المتجهة شرقًا على ميسرتنا، على بُعد ١٢ ميلًا جنوب كابو دي جاتا. هل تسمعني؟»
«مرحبًا، هل تسمعني؟»
«مساء الخير أيها القبطان، معك سفينة التدريب الشراعية كورويث كريمر. هل تؤكد رجاءً على أنكم مُتجهون شرقًا عند نظام تقسيم الحركة الملاحية في كابو دي جاتا، وأن سرعتك حوالي ١٢ عقدة؟»
«السفينة على الميسرة … مرحبًا، هل تسمعني؟ معك السفينة أسفلت برنسيس 3EKY3 … رجاءً، هل تستطيع الرد؟»
«أسفلت برنسيس، مساء الخير، معكم كورويث كريمر. نرصدكم عند ميسرتنا ونتوقَّع أن تقتربوا منا مسافة ميلٍ واحد خلال ٢٠ دقيقة. يُرجى التأكيد على أنكم تنوون المرور بميسرتكم إلى جوار ميسرتنا.»
«أجل، السفينة على الميسرة، كورويث كريمر، مرحبًا، هل تسمعني؟»
«أجل، أسفلت برنسيس، معكم كورويث كريمر. تابِع من فضلك. ما بُغيتكم؟»
«أجل، لا، أنا شخصٌ آخر، لا نبغي شيئًا. معك السفينة أسفلت برنسيس. طابَ مساؤك.»

تقفز أسماك التونة خارج المياه بمُحاذاتنا، وتخترق أسرابُ الأسماك الطائرة والطيور البحرية. نبتعِد مسافة ٤٠ ميلًا أخرى عن جبل طارق نحو البحر المفتوح، مرورًا بالضِّفاف الضحلة لرأس الطرف الأغر، ولكي نصِل إلى هناك يجب أن نتحمل ليلةً أخرى من الاهتزاز البطيء مع تشغيل المُحرك بأقصى عدد دوراتٍ في الدقيقة. يزداد الهواءُ برودةً ورطوبة باطِّراد، وترفع موجةٌ طويلة الآن مقدمةَ السفينة في تموُّجاتٍ بطيئة. بعبور جبل طارق الذي بمثابة عنق الزجاجة إلى البحر المتوسط، نكون قد تركناه وانطلقنا في المحيط الفسيح. تمتلئ سطوحُ السفينة برذاذ الماء، وتكتسي بطبقةٍ رقيقة من الملح الذي يصبح مَلمسه زيتيًّا نتيجة التبخُّر. عند الفجر، تمرُّ فوقنا كتلةٌ عريضة من السُّحب مع وهَج شروق الشمس الوامِض تحتها، وتمرُّ بنا سفنٌ ضخمة في الضوء الخافت كما لو كانت مركباتٍ فضائية من عوالم أخرى. بحلول وقتِ الغداء، يكون الجوُّ هادئًا ومشمسًا، وباردًا برودةً تستحضر في الأذهان أجواءَ الخريف، وتحثُّ على الاسترخاء في عزلةٍ تامَّة عن أحداث أمس.

خارج المضيق، ينقسِم مسار حركة المرور الملاحية إلى فروع، أحدُها على شكل ساقٍ سميكة باتجاه القناة الإنجليزية، وآخر مُتَّجه جنوبًا على طول الساحل الأفريقي، وثالث يتَّجِه بعيدًا عن الشاطئ، عبر المُحيط إلى أمريكا الشمالية أو قناة بنما. ستسلك كلُّ سفينةٍ من هذه السفن طريقها في عرض المُحيط المفتوح، لكنها تحافظ حاليًّا على مسارها المنظَّم من خلال الممرات الفاصلة المرسومة باللون الأرجواني الأنيق على خريطتنا. نتجه غربًا، ثم جنوبًا حيث نُغير مسارنا نحو جزر الكناري، ونقطع فعليًّا مسار السفن المُتجه شرقًا من أجل أن نفعل ذلك. ومثل سيارةٍ تنعطف يسارًا، يتعيَّن علينا إفساح المجال أمام حركة المرور القادمة، في طريقٍ تحتاج المركبات فيه مسافةَ ميلٍ للتوقف.

يُعطي المعاوِن التعليمات لقائد الدفة ويقودنا بهدوءٍ، وهو يُجري تعديلاتٍ طفيفة ويتَّصل بالسفن الأخرى عبر اللاسلكي في حال وجود أي شكٍّ حول نواياها. يبدو الأمر كما لو أننا لا نختلِف في شيءٍ عن حافلةٍ تدخُل في ممرٍّ دائري. تَخَرَّج ويلي في الأكاديمية البحرية، عندما كان عمره ٢٦ عامًا، أي أكبر بعدة سنواتٍ من رجُل آخر يُدعى ويليام بلاي عندما أبحر كملَّاح على متن السفينة إندفور التابعة للبحرية الملَكية البريطانية تحت قيادة الكابتن جيمس كوك. يتحمَّل أصحابُ المِهن البحرية المسئولية في سنٍّ صغيرة. عمل ويلي خلال السنوات التي تلت دراسته في صناعة السفن، كما عمل معاونًا على زورقِ قَطْرٍ يسحب الصنادل إلى غرب ألاسكا لصالح شركةٍ تُدعى كرولي ماريتايم. ووَفقًا لموقع شركة كرولي، فقد «صُمِّم أسطولُ غرب ألاسكا، مثل المواقع غير المُستكشَفة والملاحة النهرية الضحلة والبِنية التحتية البحرية المحدودة.» يشير مصطلحُ «البنية التحتية البحرية» هنا إلى كمالياتٍ مثل الأرصفة، ورافعات البضائع، والطرق. تعمل أطقم ألاسكا في مناوباتٍ مُدتها ستُّ ساعاتٍ، على مدار الساعة خلال فصل الصيف القطبي الاسمي، حيث يتعامل أفرادُ الأطقم مع الجليد، والدِّببة، والطقس القارس البرودة؛ ويجنحون بصنادلهم بصفةٍ روتينية لتفريغ حمولتها في عملية تُعرَف باسم «نقل الوقود على الشاطئ»، حيث تُسحَب خراطيم الوقود على الشاطئ إلى خزانات الوقود المُصطفَّة مثل آثار صَدِئة على الحصى. تفوح رائحة الديزل من كل شيءٍ لديك بعد هذه الرحلات، هكذا قيل لي، إلا أنه يكون معك من المال ما يكفي لشراء ملابس جديدة عندما تعود إلى الديار.

يرفع ويلي فنجانًا من القهوة ويلقي نظرة سريعة للتأكُّد من خُطته بشأن السفينة التالية التي ستعبر مسارنا. تهبُّ ريح خفيفة من الشمال، بنسيمٍ لطيف في البداية وسرعان ما تزداد قوَّتها فتُحرِّك سطح البحر وتتشكَّل أمواج بين الحين والآخر يعلوها الزَّبَد. نُوقِفُ مُحركنا ونشرع في الإبحار شراعيًّا، مُبتهِجين بالسكون المفاجئ. يجلب أحدُ الأشخاص فراشَه إلى السطح ليجف، فتنتفخ مُهَفهِفةً أغطيةُ الوسائد البيضاء وحقيبةُ نومٍ من النيون في ضوءِ السماء الزرقاء الصافية.

•••

كان جدِّي طيارًا في القوات الجوية، وكانت دورياته الجوية الطويلة تُحوِّل خط سيرها أحيانًا إلى برمودا عندما تتفاقم أحوال الطقس في نيو إنجلاند. وكان يحتفظ بملابس سباحة في حقيبته لمِثل هذه الحالات الطارئة، الأمر الذي لم تكن تتقبَّله جدَّتي قط. حالفني الحظ أن عاصرتُه حتى مرحلة بلوغي، لكن ذاكرتي تحتفظ بذكرياتٍ صباحية من هذا الوقت قبل نصف قرن، حيث كان رجل فارع الطول يرتدي بدلة طيران ويُغني وسط طنين ماكينة الحلاقة الكهربائية الخاصة به. ظننتُ أنه كان رائدَ فضاء.

نتيجة لبعض الظروف الجيولوجية غير العادلة، أصبحت برمودا الجزيرة المرجانية الحلقية الوحيدة في المحيط الأطلنطي، وتقع بمُفردها على بُعد حوالي ٦٥٠ ميلًا من شاطئ كيب هاتيراس بولاية نورث كارولينا. من المعروف أن الطقس هناك لطيف، فهو جاف ودافئ مع نسيم لطيف في معظم الأحيان. إنه طقس مثالي لِلَعبِ الجولف، أو الإبحار، أو البَستنة إذا أحضرتَ معك دَلو الرَّي الخاص بك. مُناخيًّا، تُعَد برمودا مثل قطعةٍ منبوذة من مقاطعة سان دييجو، انفصلت عنها طافيةً في وسط المحيط الأطلنطي. هذا ليس محض مصادفة؛ إذ تقع كلٌّ من برمودا وسان دييجو راسخةً وسط «أعاصير عكسية شِبه مدارية»، تُمثل تجمعاتِ استقرار جوية، حيث يسقط الهواءُ المداري المرتفع من عليائه في طبقة التروبوسفير عائدًا إلى الأرض. يرتفع ضغط الهواء الهابط، ويزداد جفافًا مع إعادة تبخُّر الرطوبة المُتبقية فيه. وما نتيجة ذلك؟ سلسلةٌ طويلة من الأيام المُعتدلة ذات الليالي الباردة بينما تتخلَّص الأرض من حرارتها.

يُشَكِّل هذا الشلال من الهواء العائد إلى الأرض بالقُرب من خطِّ العرض ٣٠ المناخَ على نطاقٍ عالمي في كِلا نصفَي الكرة الأرضية. عندما يهبُّ فوق القارات، يُشكِّل صحارينا الشاسعة — الصحراء الكبرى، وصحراء أتاكاما، ووادي الموت — وهي عبارة عن تضاريس قاحلة يُبقي عليها انهمارٌ ثابت للهواء الجاف من أعلى. وفوق المحيطات، تنتشر هذه الأعمدة الهابطة مثل الماء المنسكِب على أرضيةٍ ما. ويؤدي تأثير كوريوليس إلى دوران التيار المتباعِد، مما يؤدي إلى توجيه الرياح في حلقةٍ مُفْرَغة بحجم المحيط، في اتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الشمالي، وعكس اتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الجنوبي. وهكذا تقع برمودا في الغالِب على هضبةٍ مُستقرة من الضغط الجوي العالي مع تيارٍ هوائي دائري عند أطرافها. هذا هو ما يُسمَّى «خطوط عرض الخيل»، حيث يُمكن أن تكون الرياح ضعيفة في بعض الأحيان، وكان وقوفُ السفن الشراعية في مكانها لقلَّة الرياح أمرًا صعبًا على الخيول التي كانت تنقلها هذه السفنُ قديمًا. تقول إحدى الأساطير إن السفن كانت تلجأ أحيانًا إلى إلقاء الخيول في البحر، كتدبيرٍ وقائي في الحالات القصوى، للحفاظ على مخزون الماء العذب.

تُمثِّل الأعاصير العكسية شِبه المدارية مراسيَ لدوران الهواء في جميع أحواض المحيطات. وتُشكِّل الحافة الجنوبية لمرتفع برمودا-جزر الأزور حزامًا من الرياح التجارية، وهو عبارة عن امتدادٍ من الرياح الشرقية المدارية التي تهب بانتظامٍ من أفريقيا باتجاه جُزر الهند الغربية. عند اقتراب الرياح الدوَّارة من جُزر البهاما، تنحرِف نحو الجنوب الشرقي، لتصِل في النهاية إلى الجنوب والجنوب الغربي، في رحلتها على الجانب الأمريكي من المحيط. هذه هي الرياح السائدة على ساحل المحيط الأطلنطي في أمريكا، وتكون أكثر ثباتًا في الصيف عندما يكون المرتفع مكتسِحًا بقوة. وبعد مرور الرياح بأمريكا، تعبر المحيط الأطلنطي مرة أخرى على شكل امتدادٍ من الرياح الغربية المتعرِّجة — والقوية في بعض الأحيان — على طول الجبهة القطبية. وعلى طول شواطئ إسبانيا والمغرب — عند موضع الساعة الثالثة من مرتفع برمودا-جزر الأزور — غالبًا ما تهبُّ الرياح شمالية، معزَّزةً بالتفاعُل مع الهواءِ الدافئ المُتوقِّف فوق الأرض.

بحلول المساء، تنطلق السفينة «كورويث كريمر» مثل طائرة ورقية، تحت سماءٍ صافية والريح تهب من خلفها. هذه هي «الرياح التجارية البرتغالية»، وهي رياحٌ شمالية تهب بانتظامٍ في فتراتِ الطقس المُستقر، وتنحرِف تدريجيًّا نحو الشرق لتُصبح الرياح التجارية الحقيقية قبالة النتوء الأفريقي الغربي. استخدم المُستكشفون البرتغاليون، الذين كانوا بمثابة روَّاد فضاءٍ في زمنٍ آخر، هذه الرياح وبعض التخمينات المدروسة لبسط السيادة الأوروبية خارج البحر المتوسط وإلى العالَم الخارجي. كان من السهل على بحَّارة لِشبونة في معظم الأيام الإبحارُ جنوبًا إلى أماكن مثل ماديرا وجزر الكناري، وهي أولى نقاط الانطلاق غير الأوروبية للغزو الأيبيري. غير أن العودة إلى الوطن كانت أصعب، إلى أن غامر أحدُهم واكتشفَ أنه إذا أدار البحَّارُ ظهره لليابسة وأبحر بعيدًا بما فيه الكفاية نحو الشمال الغربي، فقد يشق طريقَه في النهاية إلى الرياح الغربية ويعود إلى البرتغال قبل نفاد ما معه مِن مؤن.

سيكون لهذا الاكتشاف، المعروف لدى البحَّارة باسم «فولتا دو مار» (العودة من البحر) — مثلما كان لانقسام الذَّرَّة بعد خمسة قرون — عواقبُ لا رجعةَ فيها على كلِّ ما أعقبَه. استخدم كريستوفر كولومبوس هذا المبدأ على نطاقٍ أوسع للوصول بأسطوله من إسبانيا إلى أمريكا وللعودة إلى الوطن، غير أن الفضل في التطوُّر الأجرأ لهذه التقنية يعود إلى بارتولوميو دياز، الذي طبَّقه على نطاقٍ عالمي. بعد تكليف دياز بالبحث عن طريقٍ ملاحي جديد إلى جُزر الهند الشرقية، نجحَ في الإبحار بسفنه حول الطرف الجنوبي لأفريقيا حيث راهنَ، وكان مُحقًّا في رهانه، على أن نمَط الرياح في جنوب المحيط الأطلنطي سيكون مشابهًا لنمَطها في شماله، بما في ذلك الرياح الشرقية في المناطق المدارية والرياح الغربية في خطوط العرْض الأعلى. كان طاقم دياز قد وصل في هذه الفترة إلى أقصى ما يُمكنه تحمُّله من مشاق، لكن اكتشافَه مهَّد الطريق لفاسكو دا جاما — وهو واحد من شخصياتٍ عديدة على مرِّ التاريخ حققت نجاحاتٍ مُذهلة بأساليب وحشية — لإتمام المُهمة بعد ذلك بفترةٍ وجيزة.

وقد أتمَّها دا جاما عام ١٤٩٧ عندما أبحر جنوبًا من البرتغال، عبر نطاق الرهو المداري وإلى الرياح التجارية جنوب الأطلنطي، واستمر في مسارٍ جنوبي غربي حتى كادَ يصِل إلى البرازيل قبل أن يصادف الرياح الغربية ويتَّجه شرقًا نحو أفريقيا. دار أسطوله حول رأس الرجاء الصالح وشقَّ طريقه إلى المُحيط الهندي، حيث وجدَ التجارة البحرية مزدهرةً بالفعل بين أفريقيا وشبه القارة الهندية. اعتمدت طرقُ الإبحار القديمة هذه على الرياح الموسمية الآسيوية، وهي دورة من الرياح الموسمية تُشكِّلها عمليات التسخين والتبريد السنوية لأكبر كتلة يابسة على وجه الأرض. سمحَ هذا النمط المتكرِّر للتجَّار باستعمال طرُق الإبحار الموثوقة من عامٍ إلى آخر، وذلك شريطة معرفتهم الجيدة بأحوال المناطق التي يُبحرون فيها. كان الكابتن فاسكو يفتقر إلى هذه المعرفة، لكنه كان يمتلك الأسلحة وربما يكون في الواقع قد حلَّ المشكلة باختطاف أحد الملَّاحين المَحليين وإجباره على خدمته. وبغضِّ النظر عن الوسيلة، فقد نجحَ دا جاما في بلوغ الهند، وعلى مدار رحلاتٍ لاحِقة كثيرة، أسَّس موطئ قدَمٍ استعماري للبرتغال دامَ ٤٥٠ عامًا حتى عام ١٩٦١، عندما طردت الدولة الهندية المُستقلة حديثًا البرتغاليين من آخِر معاقلهم في جُوا، وذلك في قتالٍ حامي الوطيس استمرَّ يومَين وبات مَنسيًّا الآن إلا لمَن خاضوه.

كتبت رحلةُ فرديناند ماجلان حول العالم بين عامَي ١٥١٩ و١٥٢٢ الصفحاتِ الأخيرةَ في كتاب الرياح العالمية، حيث أثبتت أن المُحيط الهادئ كان يتمتع بنمَط دورانٍ للرياح يُشبه إلى حَدٍّ كبير نمَط المحيط الأطلنطي. بدأ ماجلان وسفنه رحلتهم باتباع مسارٍ شَبيه بمسار دا جاما إلى أمريكا الجنوبية. وتوغلوا جنوبًا حيث شقُّوا طريقهم في مواجهة الرياح الغربية الباردة والعاصفة، عبر أرخبيل باتاجونيا خروجًا إلى المُحيط الهادئ. بمجرد ابتعادِهم عن اليابسة في هذا المحيط الجديد، أبحر الأسطول شمالًا مرورًا بتشيلي وبيرو الحاليَّتَين حتى وجدوا مجددًا الرياح التجارية الشرقية الدافئة. كان ماجلان، استنادًا إلى تجربته في المُحيط الأطلنطي، على يقينٍ من وجود هذه الرياح هناك. تمرَّد بعضُ رفاقه من البحَّارة ولم يخرجوا معه، لكن أولئك الذين قرَّروا الخروج سلكوا معه طريقًا خاليًا من العواصف (وإن كاد أن يكون بلا نهاية) إلى الفلبين، حيث عبروا أكبر مسطحٍ مائي على وجه الأرض. لكن الثمن كان فادحًا. فلم يتبقَّ من أسطول ماجلان سوى سفينةٍ واحدة عند عودته إلى إسبانيا، وكان على متنِها ١٨ شخصًا فقط من طاقمه الأصلي المُكوَّن من ٢٤٠ فردًا. لم يكن ماجلان نفسه من بينهم، حيث قُتِل في اشتباكٍ مع بعض السكَّان المحليِّين في نهاية رحلتهم في المحيط الهادئ. لم يتبقَّ سوى مُلازمِه خوان سباستيان إلكانو لإتمام المهمة، حيث أبحر عائدًا إلى الوطن بطاقمٍ محدود، فعبر الرياح الموسمية في المحيط الهندي ثم عَرَّجَ على طول الجانب الأفريقي لجنوب المحيط الأطلنطي. كم يبدو هذا بسيطًا عند الكتابة عنه الآن.

•••

في عام ١٥١٣، قاد خوان بونثي دي ليون الإسبانيُّ الأصل رحلتَه الأولى إلى المكان الذي سيُطلِق عليه في نهاية المطاف اسم فلوريدا. إلى جانب سعيِه الأسطوري وربما المُلفَّق لاكتشاف ينبوع الشباب، سعى خوان بونثي دي ليون إلى توسيع المصالح الاستعمارية الإسبانية وبناء ثرواته الخاصة بعيدًا عن سيطرة عائلة كولومبوس، التي أحكمت قبضتَها على جُزر الهند الغربية المُكتشَفة حديثًا. لم يكن بونثي دي ليون صديقًا للسكَّان الأصليين، فقد قُتِل بسهمٍ مسموم في عام ١٥٢١ — في مكانٍ ليس بعيدًا عن مدينة فورت مايرز الحالية ولم يكن قد جمع ثرواته المُبتغاة بعد — ولكن بحلول ذلك الوقت كان قد علِم الكثير عن فلوريدا بما فيها من حياةٍ برية غريبة، وينابيع بلُّورية، وتيار عاصف يمرُّ بسرعةٍ هائلة تبلغ أربع عُقَد عبر ما سيُعرف لاحقًا بميامي. لم يكن يمكن لسفينةٍ أن تأمُل في الصمود أمام هذا التيار إلا بالابتعاد عن الشاطئ وركوب الدوامات عبر المياه الضحلة الغادرة وعلى مقربةٍ خطيرة من مقذوفاتٍ كان يُطلقها السكَّان العدائيون. كان التيار الذي واجهه بونثي دي ليون هو تيار الخليج، وهو أقوى فرعٍ لنهرٍ مُحيطي دائري يرسم مسارًا في اتجاه عقارب الساعة حول حدود شمال المحيط الأطلنطي. وعلى الرغم من أنه لم يكن عالمًا، فمِن المؤكَّد أنه كان مُهتمًّا بمعرفة أن تلك التيارات نتاجٌ مُشترك للرياح وتأثير كوريوليس، حيث يعملان معًا بطريقةٍ لا تبدو واضحة للوهلة الأولى.

وكحال العديد من العمليات الطبيعية، كانت تياراتُ المُحيط تُشكِّل لغزًا حتى بدأ النُّرويجيون في دراستها في أواخر القرن التاسِع عشر. وُلِدَ فريتيوف نانسين بالقُرب من أوسلو في عام ١٨٦١، وهو أحد الروَّاد المؤسِّسين لعِلم المُحيطات واشتهر بمغامراته البطولية على متن السفينة الاستكشافية «فرام». كانت السفينة «فرام» عبارة عن حوض استحمامٍ ضخم من الخشب الصُّلب بُنيَت خصوصًا للأبحاث القطبية، وقد قضت ثلاثَ سنواتٍ عالقة في جليد شمال سيبيريا في محاولة للوصول إلى القطب الشمالي، منجرفةً في قوس طويل باتجاه الغرب بعد دخولها في السِّرب الجليدي بالقُرب من دلتا نهر لينا المُترامية الأطراف. وانطلاقًا من إحباط نانسين وأحد شركائه من بطءِ تقدُّمهما، غادرا السفينة في منتصف الطريق بينما كانت عالقةً في الجليد في محاولة سريعة للوصول إلى القطب بواسطة الزلَّاجات التي تجرُّها الكلاب. لم يصِلا إلى هناك قَط، لكنهما تمكَّنا من العودة في الوقت المناسب للالتقاء بسفينتَهما لدى عودتها إلى النُّرويج.

كانت إحدى ملاحظات نانسين في هذه الرحلة الملحمية أن الجبال الجليدية عادةً ما تتحرَّك بزاوية مائلة تبعًا لاتجاه الرياح السائدة. بعبارة أخرى، فإن المنطقة ذات الرياح الشرقية القوية يُمكنها أن تُنتِج تيارًا يتَّجه نحو الشمال الغربي. كُلِّف طالبُ دراساتٍ عليا سويدي يُدعى فاجن إيكمان بدراسة هذه الظاهرة، وفي عام ١٩٠٥ نشر نَموذجًا رائعًا لشرح انتقال الطاقة بين الرياح والبحر. تعمل «دوَّامة إيكمان»، كما أصبح يُطلَق عليها، على النحو التالي: تنتقل الطاقة من الرياح إلى سطح البحر عن طريق الاحتكاك، ثم إلى الأسفل عبر طبقاتٍ مُتتالية من الماء حتى تتبدَّد كلُّ قوتها. تُعرف هذه الطبقة من المحيط المتأثرة بالرياح ﺑ «طبقة إيكمان»، ويمكن تخيُّلها على أنها مجموعة من الأطباق الدوَّارة أو أقراص التعشيق في السيارة. تنتقل الطاقة بين الطبقات، وفي كل عملية نقل، يفرض تأثير كوريوليس دورانًا اتجاهيًّا طفيفًا، اعتمادًا على نصف الكرة الأرضية، ومن ثَمَّ ينحرف التأثير عند كلِّ عمق عدة درجاتٍ إلى يمين (أو يسار) الطبقة التي تعلوه.

حسبَ إيكمان سرعاتِ جميع الطبقات الفرعية الدوَّارة، ووجد أنه بحلول الوقت الذي أنهى فيه حساباته في قاع المنطقة المُختلطة بالرياح كانت الحركة الصافية للمياه تتعامد على نسيم السطح. ومن ثم ستُحرِّك رياحٌ شرقية في نصف الكرة الشمالي المياهَ إلى الشمال. وستُحرك رياحٌ شمالية المياه إلى الغرب. تُعرَف هذه العملية الآن باسم «نقل إيكمان»، وهي مفهوم أساسي في فَهم تأثير الغِلاف الجوي على حركة المحيط. فهو المسئول عن ظاهرة «التيارات الصاعدة»، وهو ما يحدُث عندما تهب رياح قوية موازية لخطٍّ ساحلي شديد الانحدار. عرَفتُ هذا الأمر بناءً على تجرِبة شخصية مررتُ بها قُبالة ساحل سان فرانسيسكو في أحد أيام الصيف، حيث وجدتُ الطقس أبردَ بكثيرٍ مما توقعت في مكانٍ على نفس خط عرض فرجينيا أو اليونان. عندما اقتربتُ من جسر البوابة الذهبية رافعًا كامل أشرعتي في شهر يوليو، أغلقت معطفي الواقي ذا القلنسوة المُبطَّن بالفرو وشعرتُ كأنما تلقَّيتُ مزحةً قاسية عندما جرفتنا الرياح القارسة البرودة نحو الشاطئ. وكانت تلك المزحة القاسية هي ظاهرة التيارات الصاعدة. في ولاية كاليفورنيا الساحلية، تدفع الرياح الشمالية المياهَ السطحية إلى الغرب، بعيدًا عن اليابسة، وما يرتفع ليحلَّ محلها يأتي من مكانٍ عميق بارد. هذه المياه القادمة من القاع مليئة بالعناصر الغذائية غير المُستغَلة، ولهذا السبب يرتبِط هذا النوع من الحدود القارية في كثيرٍ من الأحيان بالنظم البيئية البحرية الغنية والمنتِجة. كان للصيد الجائر عواقبُه، لكن كاليفورنيا كانت قديمًا مكانًا لصيد كَمياتٍ وفيرة من أسماك التونة والبَلَم، مثل بيرو أو ناميبيا، وكلاهما ساحلان مُتشابهان على الحافة الشرقية لأحواض المحيط، حيث تسود الرياح الشاطئية الطويلة والمياه العميقة القريبة من الشاطئ.

في الأعاصير العكسية وسط المحيط مثلما في حالة مرتفع برمودا-جزر الأزور، حيث تدور الرياح حول حدوده الخارجية، يدفع نقلُ إيكمان المياهَ باستمرارٍ نحو المركز من جميع الجهات. فبرمودا، التي تقع في منتصف نمط الضغط العالي الذي يحمل اسمَها، محاطة في الواقع بارتفاع شاهق من مياه البحر. يتطلَّب الأمر أقمارًا صناعية لرؤية مثل هذه الأشياء، ولكن هنا في عصر الفضاء من المُمكن قياس فَرق الارتفاع بحوالي متر بين المركز وحواف شمال الأطلنطي. لم تختفِ برمودا تحت الماء نظرًا إلى الميل القوي لهذه الكتلة المُتراكمة من المحيط للتدفُّق إلى أسفل مرة أخرى، بمعدلٍ يتناسب تقريبًا مع دفع الماءِ إلى الداخل.

تنحرف المياه المُتدفقة بعيدًا عن نتوء برمودا نتيجة تأثير كوريوليس لتتحرَّك في نمطية باتجاه عقارب الساعة عند الحدود الخارجية لحوض الأطلنطي. ويتأرجح التيار غربًا عبر المناطق المدارية وفي منطقة البحر الكاريبي حتى يسخن بشدة وتُحاصره التضاريس فيُدفَع بسرعةٍ كبيرة إلى مضيق فلوريدا. هذا هو تيار الخليج، أقوى تيار مُحيطي في العالم، وهو مشهد يستحقُّ المشاهدة ويضرِب باستمرار الرياحَ السائدة في طريقه عبر ما أصبح الآن أحدَ طُرق الشحن الرئيسية. قد يُسفر ذلك عن ظروفٍ مروعة حقًّا، من أمواج مُتعددة السطوح غير منتظمة من شأنها أن تُصيب أعتى البحَّارة بدُوار البحر. في منتصف التيار، يمكن للسفن المُتجهة شرقًا أن تحصل على دفعةٍ سرعتها أربع عُقَد، في حين تُضطر حركة المرور المُتجهة غربًا لملازمة الشعاب المرجانية بحثًا عن مياهٍ هادئة، مثلما فعل بونثي دي ليون منذ زمنٍ بعيد. يشقُّ التيار، باعتباره ممرًّا في محيط دافئ، طريقَه شمالًا وشرقًا، وينحرف مبتعِدًا عن الساحل بالقُرب من كيب هاتيراس، ويشكِّل حدودًا حادة أسفل جراند بانكس قبل أن يتَّجِه نحو أوروبا. تدور الدواماتُ باتجاه الشمال بينما يمرُّ التيار عبر الجُرف القاري، وتُمثل بؤَرًا غنيةً تزخر بالأسماك والطيور.

الطقس في بريطانيا العظمى ليس بشديد الحرارة ولا بشديد البرودة على الإطلاق، على الرغم من وقوعِها على خطوط عرضٍ مرتفعة؛ وذلك بفضل التأثير الحراري لنظام تيارات شمال الأطلنطي. على الرغم من ضعف التيار، لا يزال من المُمكن تتبُّعه وهو يُغيِّر مساره متجاوزًا بريطانيا ومُتجهًا إلى الجنوب الشرقي، ثم إلى الجنوب، عائدًا إلى المناطق المدارية ليبدأ دورةً جديدة. وقد يحمِل اسمًا مختلفًا تبعًا لموقعك، فقد يكون التيار الاستوائي الشمالي، أو تيار الأطلنطي الشمالي، أو تيار البرتغال، أو تيار الكناري، ولكن جميعها أجزاء فرعية من النمط الجوي نفسه. يصف علماء المحيطات هذا النمط للرياح والمحيطات باسمٍ جامع، وهو «دوامة شمال الأطلنطي شبه المدارية». إنها السمة الغالبة على دوران الهواء والماء في نصف الكرة الأرضية. في الواقع، كما تنبَّأ قادة الاكتشاف البرتغاليون، توجَد عدة أنماط من الدوَّامات، تتكرر في أحواض المحيطات الكبرى في نصفَي الكرة الأرضية: دوامة شمال المحيط الهادئ، ودوامة جنوب المحيط الأطلنطي، ودوامة جنوب المحيط الهادئ. وهناك دوامة في المحيط الهندي أيضًا، ولكنها — كما اكتشفَ فاسكو دا جاما — تتأثر بشدة موسميًّا بظاهرةٍ أخرى واسعة النطاق، وهي الرياح الموسمية الآسيوية. تبلُغ تيارات المحيط أقصى قوَّتها على الحافة الغربية للدوامات، بسبب ما يُسمَّى «تأثير تكثيف الحدود الغربية». هذا نتاج لحركة الموائع ودوران الأرض، ولم يكن مفهومًا بشكلٍ جيد حتى استنبط الدكتور هنري ستوميل من معهد «وودز هول» لعلوم المحيطات سلسلةً من النماذج لتوضيحه في منتصف القرن العشرين. ويكون التكثيف أكثر وضوحًا في تيار الخليج القوي ونظيره في المحيط الهادئ، تيار كوروشيو، حيث تساعد أيضًا كتلة كبيرة من اليابسة في كلتا الحالتَين على توجيه التيارات.

تجتاز السفينةُ «كورويث كريمر» وسابقتُها السفينة «ويستوارد» شمال الأطلنطي بانتظام منذ عام ١٩٧٣، وتتوقَّف بوتيرة منتظمة ودءوبة مثل سفن الأبحاث لسحب شباك العوالق لمدة نصف ساعة كل يوم ظهرًا وفي منتصف الليل. وكما هو مُتوقَّع، تكون الحصيلة مثيرةً للاهتمام. إذ تحوي الشباك دائمًا مجذافيات الأرجل، وهي حيوانات من فصيلة من القشريات الصغيرة التي كان يمكن أن تحكُم الأرض لو كان العدد هو المعيار الوحيد. وهناك أيضًا قناديل البحر، وبَقُّ الماء من جنس «الهالوباتيس»، ويرَقات غريبة الشكل لأسماك أبو سيف، وسمك الأَنْقَليس، والكركند. يعج وسط المحيط بالحياة. ولكنْ ثمة شيء آخر تلتقِطه الشباك عادةً، وهو البلاستيك، أحيانًا بقِطَع كبيرة ولكن غالبًا في صورة جزيئاتٍ دقيقة متحلِّلة. زميلتي كارا لافندر رائدة في مجال البحث لتحديد مدى انتشار البلاستيك في محيطات العالم، وتُعطي البياناتُ التي تستخلِصها تصورًا مذهلًا لحركة الدوَّامات؛ فالبلاستيك في كل مكان، لكن الجزء الأكبر منه بعيدٌ عن البشر الذين يُلقون به في سلَّة المهمَلات. إذ ينجرف جميعه في وسط المُحيط، مدفوعًا نحو الداخل بفِعل الحركة الدورانية لدوامة إيكمان القادمة من جميع الاتجاهات.

لم يكن علماءُ «وودز هول» أول مَن لاحظ تراكم أشياء عائمة في مركز شمال المحيط الأطلنطي. فقد عثَر البحَّارة البرتغاليون الذين ركبوا الدوَّامات في رحلاتهم الاستكشافية أيضًا على حصائر كبيرة من الأعشاب البحرية البُنية التي تطفو في وسطها، وهي أعشاب أطلقوا عليها اسم «السرجس» تيمنًا باسم نبات رأوه في الآبار في وطنهم. واتضح أنها نوع من الطحالب البُنية التي تعيش في منطقة البحر المفتوح، وهي أعشاب بحرية غير عادية في قُدرتها على العيش دون أن ترتبط على الإطلاق بالقاع. وهذه الأطواف من السرجس، التي تجتاحها الدوَّامات وتستمتع بأشعة الشمس شِبه المدارية، تُمثل واحاتٍ عائمة تزدهِر فيها كائنات رائعة. يمكنك وضع بُقَع من الأعشاب البحرية المُجمَّعة في حوض للأسماك والاستمتاع بمشاهدة العرْض الرائع، حيث سرطانات البحر السريعة الحركة، وعاريات الخيشوم المطاطية، وأسماك الدُحْنُسَة المجَذَّعة النَّهِمة ذات القدرة المُذهلة على التمويه والمجبولة على الْتهام كل ما تراه. تنمو حصائر الأعشاب لتصِل إلى أحجامٍ يمكن رصدها من الجو، وتتجمع في صفوفٍ طويلة تُشبه حواف عشبية تمتدُّ ملء الأفق. غير أن ما يُسمى ببحر السرجس يحتوي على كمية مياهٍ أكبر بكثيرٍ من الأعشاب البحرية، والحكاياتُ المبالَغ فيها عن سفنٍ وقعت فريسة لمحالق المُستنقعات ما هي إلا مجرد أساطير حديثة من الماضي.

•••

كانت الرياح دافئةً وتهب بوتيرةٍ ثابتة من الخلف بينما نقترب من جُزر الكناري، وكانت السفينة تتقدَّم بلا جهد تقريبًا. إنها ليلتنا الأخيرة في البحر، حيث أغفو في سريري، وأستيقظ أحيانًا على أصوات أفراد المناوبة وهم يؤدُّون مهامهم، من عباراتِ التوجيه المُقتضَبة وإدارة الأشرعة مع ثرثرة بطيئة من محادثاتٍ تافهة، مثل حكايات المغامرات الصغيرة والنكات التي أطلقوها مرارًا وتَكرارًا على مدى ستة أسابيع. نحن مُتقدِّمون على الموعد المُحدد للوصول وقد تركتُ تعليماتٍ في أوامري الليلية لإنزال الأشرعة والانتظار بالقرب من المَرفأ حتى يطلع النهار، بعدما لاحظتُ من نظام تحديد الهوية الآلي أن عددًا من السفن الأخرى تفعل الشيء نفسه. تستمر أعمال الموانئ على مدار ٢٤ ساعة في اليوم، ولكنهم يفضلون مثل معظم الأعمال العمل صباحًا. أشعر في الأسفل بتغيُّر الحركة وأسمع الضجيج المُنتظِم لخفض الأشرعة، وتصبح السفينة فجأة أكثر هدوءًا مع توقُّف اندفاع المياه المتحركة. وها هو الدوي المكتوم لمُولِّدنا من غرفة المُحرك، وعلى مقربة صوت قعقعة قلم رصاص هارب يتدحرج الآن على الأرضية، وهو خطر بسيط أعتزم معالجته قبل العودة إلى النوم.

أستيقظُ مرةً أخرى بعد ساعةٍ بينما نقترِب من الوصول. وقد بزغ ضوء الفجر لتوِّه، وأمامنا كتلة الجزيرة واضحة على شكل سنامٍ عظيم من الظلام الاستثنائي في الغرب، يلُوح في الأفق فوق قلادة من أضواءِ المدينة بالأسفل. يتواصل ضابط مناوبتنا عبر اللاسلكي مع زورقِ قَطْرٍ خلفنا مباشرةً في صف الانتظار.

«إلى زورق القَطْر «توروس»، معك سفينة التدريب «كورويث كريمر»، WTF3319
«أجل يا «كورويث كريمر»، معك زورق القَطْر «توروس»، KYV118. تابِع يا صديقي.»

«أجل، إلى زورق القَطْر «توروس»، صباح الخير أيها القبطان. هل تُريدنا أن نُفسح الطريقَ لك للدخول قبلنا؟»

«أجل، معك زورق القَطْر «توروس». شكرًا على العرض أيها القبطان، لكن لا بأس. معي منصة حفر أسحبها وأحتاج إلى ترتيب بعض الأمور. تحرَّكوا أنتم قدمًا.»

كان هذا بلهجة ساحل الخليج المُنتشِرة في كل مكانٍ له صلة بالنفط.

نشرع في عبور القناة ومع بزوغ الفجر خلفنا نشاهد زورقَ القَطْر «توروس» والمنصَّة التي يقطُرها يظهران في مؤخرة سفينتنا، نقطة على الرادار تتحوَّل إلى قاطرة مُكتنزة تتضاءل أمام الجسم الذي بحجم المدينة العائم خلفها. يتخلل ضوءُ النهار الجديد الصورة الظلِّية المُميِّزة لمنصة الحفر، التي تُشكِّل متاهة من الأنابيب والحديد بجوار مهبط كبير للطائرات المروحية ومبانٍ للإقامة حيث لا بد من وجود طاقم آخر يحتسي قهوته الصباحية مثلنا. لاس بالماس أكبر ميناءٍ في جُزر الكناري، حيث تمتدُّ فيه حواجز الأمواج الخرسانية الضخمة من الأرض مثل أذرع صبَّار عظيم. هنا توجَد سفن بجميع مقاييس الملاحة البحرية البشرية، من سفن سياحية، ويخوت، وعبَّارات حاملة للسيارات، وسفن صيد مُلطَّخة بالصدأ تملأ كل ميناءٍ في إسبانيا، شاهدةً على شهية بلدِها النهِمة للمأكولات البحرية. ووسط كل هذا يوجَد سِربٌ مُتقارب من المراكب الشراعية، يتجمَّع لانطلاقته السنوية إلى أمريكا. وهي، مثلنا، متمركزة في انتظار اللَّحاق بالرياح التجارية التي ستدفعها عبر المحيط الأطلنطي، على خُطى أجيالٍ من البحَّارة — صنَّاع المعابر — الذين عبروا هذا الطريق مرارًا وتَكرارًا. إننا هنا، في منتصف شهر نوفمبر، في المكان المِثالي لمِثل هذه المغامرة، حيث يكاد ينتهي موسم الأعاصير وتشرع المياه الشمالية بلا هوادة في اكتساب برودة الشتاء.

وفي الأرصفة الخارجية يوجَد أسطولُ صناعة النفط، وهو أقل شبهًا بالسفن وأكثر شبهًا بمواقع صناعية عائمة، أو مصانع ذاتية الدفع بُنِيَت لاستكشاف قاع المُحيط بحثًا عن النفط. تُتيح ذلك تقنيةٌ تُسمَّى «التموضع الديناميكي»، وهي منظومة من أجهزة استقبال نظام تحديد المواقع العالمي وأجهزة الدفع الاتجاهية التي تُحافظ على موضع شيءٍ بحجم سوبر ماركت ضخم ضمن هامش أمتار قليلة أثناء أعمال الحفر التي تجري على بُعد أميالٍ في الأعماق. هذه سفن لا تُبحر، وتُشبه في سحرها الأدوات التي تسمح للطائرات الحديثة بالهبوط دون أن تُمَس أدوات التحكُّم بها ما لم يختر الطيارون خلاف ذلك. لديَّ أصدقاءٌ على متن هذه السفن أيضًا. يتقاضون أجورًا باهظة تُعادل أجور المحامين، وينزلون على متن سفنهم بالطائرات المروحية ويُراقبون الشاشات المُتوهِّجة بينما تدفع أطقم الحفر الأنابيبَ الطويلة نحو القاع متدليةً من رافعاتٍ أعلى من غرفة قيادة أي سفينة. ومكاتبهم في الجزء السُّفلي من المنصة مُجهَّزة بآلاتِ نسخ، وكراسيَّ دوارة، ونباتاتٍ منزلية.

جُزر الكناري هي بمثابة جُزر هاواي الإسبانية؛ جنة يزورها الملايين، مَبنية على جبالٍ انبثقت من الأعماق بفِعل قوًى عنيفة منذ زمنٍ طويل. إنها مكان يتميز بمناخاتِ النطاقات البالِغة الصغر والتغيُّرات المفاجئة في التضاريس. على مسافة قصيرة بالحافلة من شواطئ لاس بالماس الذهبية، يمكن للمرء زيارة كالديرا دي بانداما، وهي حفرة بُنية عظيمة انفجرت في الأرض، بعرض نصف ميلٍ وعُمق ٢٠٠ ياردة. أرضيتُها عبارة عن مساحةٍ مثقَّبة بمخاريط من الرماد مُريبة الشكل، تمثل دليلًا متراكمًا على الثورانات البركانية القديمة. ذات مرة، في مكانٍ قريب من جزيرة لا بالما، مشيتُ إلى الحافة العالية لفوهة بركانية أخرى كهذه، حيث كانت قباب المراصد الفِضية تطفو في الهواء النقي المُستقر مثل الزخارف. وبسبب الانقلاب الحراري، انزلقت طبقاتٌ من السُّحب إلى أعلى جانب الجبل وانسكبت إلى هاوية الفوهة مثل كريمة تملأ وعاءً.

ينحدِر اسم هذه الجزر «جزر الكناري» عبر مسار مُعقَّد من الجِذر اللاتيني canis «كانيس». يشكِّل المكان أرخبيلًا للكلاب، وليس لتلك الطيور الصفراء الصغيرة. فطيور الكناري من هذا المكان أيضًا، ولكنها سُميت نسبةً إليه فيما بعد. يتَّضح من سهولة الوصول النسبية إلى هذا المكان أن الناس كانوا يجيئون إليه منذ زمنٍ طويل. ففي البداية قَدِمَ إليه الجوانش، وهم مهاجرون من العصر الحجري الحديث، مما يُعرَف الآن بالمغرب. لم يكونوا بحَّارة عظماء، حسبما يمكن لأي أحدٍ أن يخمِّن، لكنهم تمتعوا بميزة القُرب الجغرافي مع وجود موطنهم في مواجهة الرياح. جاء بعد ذلك مُمثلو جميع حضارات البحر المتوسط، من ذوي المراكب والطموح، من مَشرقيين، ورومان، وقَرْطاجيين، وأخيرًا ملَّاحو البرتغال وإسبانيا، الذين أبحروا بسفنهم الشراعية الصغيرة إلى عالَمٍ آخِذ في التوسع. في الطقس المعتدل، تسير الرحلة كعادتها دائمًا؛ اترك جبل طارق، واتَّجه يسارًا، ومع هبوب الرياح على السَّطح الرُّبعيِّ للسفينة، تجِد جُزر الكناري بعد خمسة أو ستة أيام، حيث الوديان الخِصبة بين قِمَمها المتعرِّجة التي يمكن أن ينمو فيها أيُّ شيء.

أبحرنا في رحلتنا دون تخطيط بين المَعالم المؤسفة الشاهِدة على تاريخ إسبانيا. فهنا في جزر الكناري، عزز الجنرال فرانسيسكو فرانكو سلطته لأول مرةٍ في عام ١٩٣٦، قبل أن يتَّجه شمالًا للإطاحة بالديمقراطية في البر الرئيسي في حربٍ أهلية دامت ثلاث سنواتٍ وانتهت بسقوط برشلونة في عام ١٩٣٩، وكانت واحدةً من نقاط التحول العديدة التي أدَّت إلى سقوط أوروبا في نهاية المطاف في خضم حربٍ شاملة.

تتجلَّى المنافساتُ القارية حاليًّا بشكلٍ أخفَّ وطأةً في لافتات المطاعم المُتنافسة؛ فتجد مكتوبًا على إحداها بالألمانية:

«لدينا بطاطس!»

بينما تجد أخرى بالإنجليزية: «لدينا سمك ورقائق البطاطس!»

في حانة للمُقبِّلات أطلبُ وجبةً خفيفة بلغة إسبانية أظنُّها صحيحة:

«صباح الخير! أريد بعض البطاطس الحارة وكانيا من فضلك.»

يُجيب النادل باللغة الإنجليزية.

«هل تريد كانيا؟ إنها جرعة صغيرة من البيرة يا سيدي.»

«نعم شكرًا لك. أفهم ذلك، وهذا ما أريده، من فضلك.»

«حسنًا. لا أحدَ ممَّن يأتون إلى هنا يطلُب مطلقًا كأسًا صغيرًا من البيرة.»

•••

في زيارتي الأولى لهذه الجُزر منذ سنواتٍ عديدة، التقيتُ بعائلة على متن مركبها الشراعي، الذي كان، مثل مركبي، يستعدُّ للمغادرة قريبًا إلى جُزر الهند الغربية.

أخبروني بلامبالاةِ الرحَّالة المعتادة: «إنها رحلة سهلة. وكما تقول المقولة القديمة: فلتُبحِر جنوبًا إلى أن يذوب الزُّبد، ثم تتَّجه يمينًا.»

وهذا يعني مغادرة جُزر الكناري واستكمال الاجتياح العريض للرياح التجارية البرتغالية إلى المناطق المدارية العميقة، حيث يمكن الاعتماد على كامل قوة الرياح التجارية الحقيقية للإبحار غربًا. عندما أبحرنا، هذا بالضبط ما وجدناه: ثلاثة أسابيع من قطع الأميال مع الرياح الدافئة في مؤخرة السفينة، وزخاتٍ يومية من العواصف المَطيرة، ولكنَّنا لم نشهد تهديدًا قويًّا بما يكفي ليُشكِّل مغامرةً بحرية خطيرة. في عشية رأس السنة الجديدة عام ١٩٩٠، برزت أمامنا معالمُ جُزر سانت بارتس الأنيقة وهي تُطل من الأفق، ورسَونا بعد فترةٍ وجيزة في المرسى. تدافعنا على الشاطئ للاحتفال، وكنا حشدًا فظًّا، ندفع الرجال الذين يرتدون السُّترات والنساء اللاتي يرتدين الفساتين لشراء مشروباتٍ من الحانة. أتذكَّر إجرائي لمُكالمة هاتفية مشوَّشة ومُكلفة مع حبيبتي التي تركتُها بعد ذلك بوقتٍ قصير، والتي كانت بعيدةً عنِّي في كلية الطب.

قالت: «إذن، عبرتَ المحيط الأطلنطي ذَهابًا وإيابًا. ذلك رائع! كيف كان الأمر؟»

الآن تستعد السفينة «كورويث كريمر» للشروع في رحلة مُماثلة بطاقم جديد، تبدأ بالعودة إلى جُزر فيرجن، ثم في الربيع الرجوع إلى موطنها في نيو إنجلاند. بعد انتهاء فترتي، أُجري عملية تبادُل مع القبطان التالي للسفينة. يقرأ تقرير المهندس ويتساءل بصوتٍ عالٍ عما إذا كان الوكيل سيَفي بوعدِه بتسليم الوقود بحلول الغد. لا أستطيع الجزمَ. سفينتنا مربوطة برصيف بعيد داخل الميناء، ومَخرجنا تسدُّه سفينة وعَدُوها كما وعَدُونا بأنها ستُبحر قريبًا. يقع بالقُرب من الشاطئ مُجمَّع ماريماجنوم، وهو عبارة عن هيكل لسفينة مزيَّن بمصابيح النيون ومملوء بالحانات والمحلات التجارية بالإضافة إلى ملاعب تنس على السطح. تخيَّل النصفَ العلوي من سفينة سياحية مقطوعًا ومُلقًى في ساحة انتظار. أشعرُ أنني أفقد صِلتي بالفينيقيين باطِّراد. بعد العشاء، نعود إلى غرفة الخرائط ونُجري عملية تسليم رسمية للقيادة، بجُملة واحدة مختصرة ورسمية مكتوبة في السجل. يلتقِط القبطانُ الجديد قلَمه.

يكتب: «جيسون كويلتر يتسلَّم القيادة من إليوت رابابورت.»

نتصافح، وبهذا أبرئُ ذِمتي. أيًّا كان ما يحدث بعد ذلك ليس من شأني، على الأقل في نطاق الأمور التي يجِب على القبطان التعامُل معها. التحدِّي المُهم الوحيد الذي سأواجهه في المستقبل القريب هو العثور على سيارة أجرة تُقلني إلى المطار في الساعة الرابعة صباحًا، ثم التسلل بلحم الخنزير الإسباني المقدَّد الذي أُخبئه معي عبر الجمارك في مطار جون إف كينيدي. أشعر بالارتياح ولكن في الوقت نفسه بفقدان الاتزان بعض الشيء، حيث يختفي زخم المسئوليات الذي كان مصدر ثقلي الشخصي على مدار الأسابيع الثمانية الماضية. فكما قال لي قبطان آخر ذات مرة، في دقيقة تكون الرجل المسئول … وفي الدقيقة التالية تُصبح مجرد شخص عادي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥