الفصل الثامن

خروجٌ آمِن إلى البحر

في رحلتي القادمة إلى إسبانيا، أتذكَّر أن مسارات الإبحار العظيمة في العالم ليست طرقًا مُعَبَّدَة، بل هي أشبَه بأنماطٍ من الراحة المؤقتة، وسط الفوضى الدائمة للغِلاف الجوي.

قادس هي مدينة وشِبه جزيرة هادئة تقع إلى الغرب مباشرةً من جبل طارق، وهي مَرفأ طبيعي مثالي لِما كان لآلاف السنين بوابة العالم المعروف. ولكنَّ المكان اليوم عبارة عن متاهةٍ مُبهجة رملية اللون من قباب الكاتدرائية والأبراج المُربعة، ويزدحِم شاطئها الطويل في الصيف بالإسبان الذين يقضُون عُطلتهم. وتستضيف الحصون المُمتدَّة على طول سور المدينة حفلاتٍ موسيقية في الهواء الطلق، وتزدهر في المقاهي المُتاجرة في جميع أنواع المأكولات البحرية التي يمكن تخيُّلها، والتي تُقدَّم جميعها مع أكوابٍ صغيرة من الجِعَة التي لا مجال لأن تفقد برودتَها. اليوم هو التاسع عشر من أكتوبر عام ٢٠١٦، قبل يوم الطرف الأغر مباشرةً، وهو احتفال بريطاني سُمِّي نسبةً إلى انتصار الأميرال نيلسون على الأسطولَين الفرنسي والإسباني في عام ١٨٠٥. لا تسمع الكثير عن هذا الأمر من سكان قادس المحليين، لكنه حدَث على طول الساحل وأنهى التنافُس على التفوُّق البحري في الحروب النابليونية بشكلٍ أو بآخر. لقد كانت مواجهةً قصيرة، ولكن ملحمية. ففي خروج جذري عن التكتيكات المُتبَعة، انقضَّ نيلسون على عدوِّه من اتجاه الرياح وهاجم أسطول العدوِّ بزوايا قائمة، قاطعًا خط المعركة بدلًا من التبادُل التقليدي لإطلاق نيران المدفعية جنبًا إلى جنب. تحطَّم خصومه ودخلوا في حالةٍ من الفوضى بسبب حركة ملاحية كان مِن المُمكن أن يتعرَّف عليها أي سائق في بوسطن على الفور. قُتل الأميرال نفسه وسط المعركة ونُقِل جثمانه إلى وطنه في برميلٍ لشراب الروم ليَحظى بجنازةٍ تليق به باعتباره بطلًا. بعد وقتٍ قصير من المعركة، تعرَّض جزءٌ كبير من الأسطول المُنتصر بدوره لعاصفةٍ خريفية شرسة، ليتشتَّت في حالة من الفوضى بسبب قوى الطبيعة بينما كان ينعم ببريق الانتصار البشري المؤقَّت. لا تسمع من أي شخصٍ على الإطلاق الكثير عن هذه الخاتمة ذات الصِّلة بالأحوال الجوية لمعركة الطرف الأغر، لا سيَّما من المُتحمِّسين للبحرية البريطانية.

في مثل هذا اليوم، بعد مرور ٢١١ عامًا على تلك المعركة، نجد أنفُسنا في ظهيرة يُخيم عليها الخمول، حيث يسود الضباب بسبب الرطوبة بعد سلسلة من الأيام ذات السماء الصافية تمامًا. في منتصف الطريق خلال رحلةٍ خريفية أخرى من برشلونة إلى جزُر الكناري الكبرى، نعود إلى البحر بعد ثلاثة أيام أمضَيناها في التجوُّل بسعادة في المدينة؛ أيام راوَدني فيها رغم ذلك شعورٌ بأن فرصة للتقدُّم كانت تُهدَر. تُغادر السفينة، المحمَّلة بحمولة جديدة من الوقود، الرصيف ببطءٍ مُتثاقل. ينفلت أحدُ المصدَّات، وأشعر بالاحتكاك الثقيل للفولاذ بالخرسانة قبل أن تتَّسع المسافة بيننا وبين الرصيف. ينظر المعاون تلقائيًّا إلى جانب السفينة ليرى خطَّ خدش الطلاء، ولا يقول شيئًا. لا أحدَ يعلِّق مُطلقًا عندما يتسبَّب القبطان في خدش طلاء السفينة. في غضون ساعة، سيظهر بندٌ جديد في قائمة المَهام الروتينية لتوقُّفنا في الميناء التالي. وسيكون نصُّه: «تجديدُ طلاء الجوانب العلوية. تركيبُ مصدٍّ جديد.»

لا أشعر بالسعادة مطلقًا عندما تتلف الأشياء، حتى ولو كان تلفًا بسيطًا، لكن ما يشغلني اليوم هو خرائط الطقس، التي تُظهر بوضوح بداياتٍ مُقلقة لعاصفة غرب فرنسا مباشرةً. تصبح الرياح التجارية البرتغالية، المعتادة للغاية في الصيف، متقلبةً بحلول الخريف. هنا، يمكن أن يتحول نسيم أيبيريا الدافئ إلى أعاصير صغيرة مزعجة، عبارة عن دواماتٍ من الهواء البارد تتولَّد من الجبهة القطبية وهي تهب ذَهابًا وإيابًا بين الخريف والشتاء. غالبًا ما تتشكَّل هذه الاضطرابات الصغيرة بالتزامُن مع عواصف أخرى مُماثلة قبالة سواحل أمريكا الشمالية، وهي في مَوقع مثالي لإفساد رحلتك إذا كنتَ، مثلنا، تُغادر إسبانيا بهدف الإبحار جنوبًا. يُثير مسارُ هذا النمط الجوي المتوقع قلقي. فمن المتوقع أن يصبح التعرج الصغير في التيار النفَّاث فوق جزر الأزور الْتواءً أكثر حِدَّة، مُتحدًا مع ظاهرة مماثلة فوق أمريكا، ليشكِّلا معًا صورة ثعبان هائج يمتدُّ عبر خريطة الطقس. فسرعان ما يختلط الهواء الجاف البارد القادم من خطوط العرض العُليا مع الهواء الدافئ القادم من وسط المحيط الأطلنطي، ويبدو أن التدفُّق العام مُهيَّأ لحمل النواتج في اتجاهنا مباشرةً. إنها توليفة مثالية لإثارة المشاكل. فبدلًا من الإبحار بحُرِّية والنسيم خلفنا، يمكننا أن نتوقَّع رياحًا معاكسة قوية أثناء مرورنا عبر الربع الجنوبي الشرقي للإعصار الجديد، وهي ظروفٌ كفيلة بفتح الأدراج والإطاحة بأواني الحساء من فوق موقد المطبخ.

لا يُسعدني هذا الاحتمال. قبل أن نتمكَّن من الالتزام بخُططنا المستقبلية، نحتاج إلى إجاباتٍ عن أسئلةٍ مُعينة. إلى أي مدًى سيمتد النمط الجوي الجديد جنوبًا؟ ما مدى قوته المحتمَلة، وكم سيستمر؟ وأخيرًا، ما هي طريقة الإبحار الأفضل لنا؟ قررتُ الاتصال بصديق. وعندما وصلتُ إلى جُو سيانكيفيتش، وجدتُه في إجازة، ولكنه حتى في حالته المشتتة يبدو متأثرًا بحالة الطقس على نحوٍ يُنذر بالخطر. إنه ممنوع من تقديم توجيهٍ فعلي ولكنه سعيد بمشاركة أفكاره العامة، وهي ليست مُطمْئِنة في هذه الحالة. إذ يقول إن موجةً دافئة طويلة في أمريكا الشمالية قد خلَّفت الكثير من الاضطراب بما يكفي لزعزعة استقرار الغِلاف الجوي وإثارة ما هو عليه حاليًّا من تقلُّب. من المتوقَّع جدًّا أن تشتد العاصفة التي نشاهدها وتتحرك جنوبًا، تقريبًا في الطريق نفسه الذي نأمل أن نسلكه. تُطلِعنا توقعات الطقس الرسمية على أخبارٍ مماثلة، حيث من المتوقَّع أن يشتد نمطان متطابقان تقريبًا على جانبَي المحيط الأطلنطي. يظهران على الخريطة متقابلَين ومتماثلَين على نحوٍ مزعج، حيث يُشبهان اختبار رورشاخ النفسي لبُقَع الحبر. بجميع المقاييس، يمكننا أن نتوقع رياحًا معاكسة شديدة القوة بحلول يومِنا الثالث في البحر، في وقتٍ ما عصرَ يوم ٢٣ أكتوبر.

يُذكِّرني جُو بأن هذه الأنواع من العواصف قد تشتد بسرعةٍ وتكوِّن أمواجًا عاتية في وقتٍ قصير. وهي أسوأ ما تكون في أرباعها البحرية، حيث تصطدم مناطقُ الضغط الجوي المنخفض العميقة بمرتفع برمودا-جزر الأزور لتُشكِّل المعادِل الجوي للجُرف الأرضي. يمكن للحركة الدورانية للرياح في الإعصار المُركَّز أن تدفع الأمواج في اتجاهاتٍ متعددة، مما يؤدي إلى تكوُّن نمطٍ متقاطع من قِمَمٍ شديدة الارتفاع وقيعان شديدة العمق. تسبَّبت هذه الظاهرة في فوضى عارمة في حادث سباق اليخوت الشهير في جزيرة فاستْنِت الإنجليزية عام ١٩٧٩، حيث اجتاحت عاصفة صيفية سريعة الحركة أسطولًا من اليخوت جنوب أيرلندا، مما تسبَّب في مقتل ١٩ شخصًا. تعرَّض أحدُ أصدقائي لعاصفة مماثلة عام ١٩٩٠ بالقرب من موقعنا الحالي، وهي تجرِبة رواها لاحقًا بوصفٍ تصويري لم أنسَه.

قال لي: «انفتحت حفرةٌ عملاقة في المحيط، وسقطت السفينة فيها.»

لقد نجا هو والسفينة، ولكنها ليست تجرِبة أتحمَّس لخوضها وأنا أُراجع توقعات الطقس، التي يقول بعضها إن ارتفاع الأمواج سيبلغ ١٢ مترًا، بالإضافة إلى تذكير بأن «ارتفاع الموج الموضَّح هو الارتفاع المتوسط لثُلث الأمواج الأعلى.» حتى معرفتي الأساسية بالإحصاءات تخبرني أنه في يوم يبلغ فيه ارتفاعُ الأمواج ١٢ مترًا من المرجَّح جدًّا أن تصادف بين الحين والآخر موجةً ارتفاعها ٢٠ مترًا. خلال دراستي الجامعية، ربما كان متوسط ارتفاع الطلاب خمسة أقدام وسبع بوصات تقريبًا، لكن أطول شخصٍ في الحرم الجامعي كان يبلغ طوله ستة أقدام و١١ بوصة، أي أطول بما لا يقلُّ عن نصف قدم من أي شخصٍ آخر، وكنت أراه طوال الوقت.

«ما رأيك أيها القبطان، الأمر ليس سيئًا للغاية، أليس كذلك؟»

القائل جيف، كبير علماء المحيطات. كثيرًا ما نزلتُ ضيفًا في بيته في منطقة وودز هول، حيث يستيقِظ في الفجر لِلَعب كرة القدم في دوريٍّ العديدُ من اللاعبين فيه في نصف عمره. مهمتُه في البحر جمع البيانات، والأهم من ذلك العينات التي تحصدها الشِّبَاك وتفتح نافذة على عالَم العوالق الخفي. ينظر من خلفي إلى طاولة الخرائط، حيث يعمل بالفعل اثنان من المُتدربين بجدٍّ على جولتنا الأولى من ملاحظات الطقس التي تأتي كل ساعة. يُشبه جيف لاعب الدراجات الأمريكي لانس أرمسترونج، ولكن بقصة شعرٍ أقلَّ ترتيبًا. إنه رفيق بحري مثالي، من النوع الذي قد يشاركك آخر قطعة شوكولاتة معه وأنتما في قاربٍ للنجاة. أحاول أن أبدو متعاونًا قدر الإمكان.

«أجل، تبدو الساعات الأربع والعشرون الأولى على ما يُرام. أما بعد ذلك، فلستُ متأكِّدًا تمامًا.»

يرتشف جيف جرعةً كبيرة من زجاجة الماء الخاصة به. جميع أفراد السفينة يحملون زجاجاتهم الخاصة الآن، كما لو كنا في سباقٍ ثلاثي، أو ربما لا لشيءٍ سوى الخوف من أن يُصابوا بالجفاف دون أن يكون هناك أحد على مسافةٍ تمكِّنه من مساعدتهم. أول علامة لي على سوء الأحوال الجوية الحقيقي هي دائمًا وابل زجاجات المياه الفارغة، القادمة من كل اتجاهٍ مثل الصواريخ غير الموجهة.

يقول: «يمكننا الخروج والحصول على بعض العينات من الخليج، أليس كذلك؟ فريق العوالق مُتشوِّق للذَّهاب.»

أظن أن فريق العوالق يعكس طاقة جيف التي لا يمكن كبتُها. أقدِّم أكثر إجابة مشجعة مُمكنة.

«سنرى.»

يتلاشى أفقُ قادس المنخفض في الضباب الممتد خلفَنا. أتخيَّل أشخاصًا على سور المدينة يحملون مخاريط الآيس كريم، ويشاهدون سفينةً شراعية بيضاء صغيرة تنطلِق نحو البحر المفتوح. يأتي المعاون ليُخبرني أننا نمرُّ عبر المرسى المكشوف الخارجي الآن، وكتل السفن الراسية الصامتة تمر كالأشباح من جانبٍ إلى آخر. يدق جرسُ الغداء ومعه يستعيد روتينُنا اليومي حيويته. إنه مما يبعث على الراحة تلك السرعة التي نعود بها دائمًا إلى روتيننا المعتاد بعد الانقطاع المُثير للاضطراب بسبب الوقت الذي نقضيه في الميناء، لكنني اليوم لا أشعر بهذا المستوى نفسه من الراحة. هل نحن مُصيبون في مغادرتنا للميناء؟ لستُ متأكدًا بعد.

متى ينبغي أن نُغادر ومتى ينبغي أن نبقى؟ لا توجَد إجابة مثالية لكيفية التعامُل مع العواصف عند التخطيط لأي رحلةٍ بحرية. ولن يعرِّض أي بحَّار سفينتَه للخطر عمدًا، ولكن ما يُشكِّل خطرًا على إحدى السفن قد يعدُّه أفراد سفينة أخرى أمرًا روتينيًّا. يوازن القباطنة بين الضغط المُستمر الذي تفرضه الالتزاماتُ وبين المخاطر المعروفة والمُقدَّرة في عالَمهم، بحساباتٍ تتغيَّر معاملاتُها من يومٍ إلى آخر. في رواية جوزيف كونراد القصيرة «إعصار»، يقود القبطانُ سفينتَه مباشرةً نحو إعصارٍ مروِّع بسبب افتقاره التام لتصوُّر الموقف. تُحذِّره كل غريزةٍ اكتسبها من خبرته الطويلة بأن طقسًا مُميتًا قادم، لكنه يفتقر إلى قوة الشخصية لتغيير المسار، وهو قرار قد يُكلف شركته الوقت والوقود والمال. إذا أبحر حول العاصفة، فكيف يمكنه أن يُثبت للمالِكين أنها كانت موجودة في الأساس؟ وكانت عواقب اختياره مُدمرة. تنجو السفينة ولكنها تتحطَّم وتتحول إلى هيكل لا قيمة له، ويتغيَّر مَن كانوا على متنها، وعلى رأسهم القبطان ماكوير، إلى الأبد.

عندما تسوء الأمور أمام السفن في البحر، عادةً ما يتولَّى التحقيق في الأحداث بعد ذلك وكالةٌ رسمية تابعة للدولة التي ترفع السفينة علَمها. قد تستغرق التحقيقات وقتًا طويلًا، حيث تتعمق في سلسلة الأحداث لتحديد العوامل المُسبِّبة. وتُطرَح أسئلة صعبة. تهدف النتائجُ التي تلي ذلك بطبيعتها إلى تقديم التوجيه بدلًا من مجرد إلقاء اللوم، لكن قد يكون من الصعب تحقيق التوازن بين الأمرَين، وفي الحوادث المُتعلقة بالطقس، ستُثار الشكوك دائمًا حول ما إذا كان ينبغي للسفينة أن تكون في مكان الحادث من الأساس.

في ديسمبر من عام ٢٠٠٦، فقدت سفينةُ التدريب الشراعية «بيكتون كاسل» أحدَ أفراد طاقمها أثناء عاصفة في رحلة إلى جُزر الهند الغربية. كانت السفينة قد غادرت نوفا سكوتيا بقيادة قبطان بديل قبل ثلاثة أيام وكانت في طريقها جنوبًا بعد مرور جبهة هوائية. في أثناء قيام النُّوتيَّة لورا جايني بدورية على سطح السفينة ليلة السابع من ديسمبر، جرفتها موجةٌ عاتية إلى البحر. ولم يُعثر عليها قط. ذكرت السلطاتُ بعد ذلك عدة عوامل كانت السبب في الحادث، ولكنها شدَّدت على مسألة السبب في خروج السفينة إلى البحر من الأساس. الفقرة التالية مأخوذة كما هي من نتائج تحقيق مجلس سلامة النقل الكندي، وتشير بتلك الصياغة المُعقدة للتقارير الرسمية إلى أن قرار القبطان بالإبحار لم يكن — في رأي المُحققين — سليمًا:
«على الرغم مما ورد من أن توقُّعات الطقس الطويلة المدى قد أُخِذَت في الاعتبار لتحديد الظروف المواتية للإبحار، فقد أشارت توقُّعات الطقس بوضوح إلى ظروفٍ عاصفة في وقت ومكان الإبحار المُقررَين … يجب على البحَّارة أن يُدركوا أنه عند الإبحار في أشهُر الشتاء، يمكن أن تتغيَّر الظروف الجوية بسرعةٍ ويمكن أن تكون شديدة للغاية. وعليه، فعند التخطيط للرحلات، يجب أخْذ توقُّعات الطقس الطويلة المدى في الاعتبار.
كان القبطان على عِلم أيضًا بأن المزيد من التأخير، بالإضافة إلى حلول الشتاء في البحر مما سيجعل الرحلة أصعب، يمكن أن يُعرِّض الرحلة إلى منطقة البحر الكاريبي للخطر. كان الطاقم والمُتدربون قد اختِيروا بالفعل وسُدِّدَت المدفوعات لمُختلِف مراحل الرحلة … ونظرًا إلى المنفعة المالية المُرتبطة بمواصلة الرحلة، فقد أدَّى ذلك إلى زيادة الضغط للمُضي قدمًا في الرحلة.»

«الضغط للمضي قدمًا في الرحلة.» إن تحديد الوقت الذي يمكن فيه للسفينة أن تُبحر بأمان مسألةٌ محفوفة بالمتغيرات، ودائمًا ما يُعاد النظر فيها بعد وقوع أي حادث. تُعَدُّ السفن الجيدة التجهيز لتحمُّل معظم الأحوال الجوية التي من المُحتمَل أن تواجهها في معظم الأحيان. للسفن المختلفة مهام مختلفة، وقدرات مختلفة تؤثر على مقدار الخطر الذي يمكن أن تتعرَّض له قبل الوصول إلى نقطةٍ حرجة. قد يكون التعامل الأفضل مع أسوأ الظروف الجوية هو ببساطة الابتعاد عن طريقها، لكن السفن البطيئة الحركة في الممرَّات الطويلة نادرًا ما تكون قادرةً على تفادي كل ما يأتي في طريقها. تتمتَّع السفن الكبيرة والسريعة بخياراتٍ أكثر، غير أن معظمَها يعمل وَفق جداول زمنية ضيقة ويواجِه ضغوطًا اقتصادية كبيرة. ومن ثَمَّ فإن جميع قرارات الملاحة تتضمَّن عنصر المخاطرة المحسوبة. يمكن للطقس دائمًا أن يصير أسوأ مما تتوقَّع، وهو أمرٌ خطير إذا قُلِّصَت هوامش السلامة مسبقًا استنادًا إلى توقعاتٍ متفائلة. هذا ما أحاول التفكير فيه عندما يُراوِدني شعورٌ بأن الأمور على وشك اختراق حَدٍّ من حدود الراحة أو السلامة. وأتساءلُ إلى أي مدًى يمكن أن تسوء الأمور قبل أن نواجِه مشكلةً حقيقية؟ قد يكون لتغيير الخطة مَخاطرُه. فقد يؤدي تحويل السفينة عن مسارها الأصلي إلى خلق ضغوط غير متوقعة في أماكن أخرى، مما يزيد من تعقيد عملية الاختيار. تصل معظم السفن إلى وجهاتها بأمان وفي الموعد المُحدد، لكن هذا لا يحدُث للأسف مع بعضها، ولا أحدَ يريد أن يكون جزءًا من حادثٍ بحري أليم.

عندما فُقدَت السفينة التجارية «إلفارو» قبالة جُزر البهاما في خِضم إعصار جواكين، استغرقت جلساتُ الاستماع التي تلَت ذلك ستة أسابيع سعيًا إلى إيجاد إجاباتٍ لقائمةٍ طويلة من الأسئلة؛ أولها: لماذا لا يزال يُسمَح لسفينةٍ عمرها ٤٠ عامًا بالاستمرار في العمل على نفس حالتها، مع عدم إجراء أي تحديثاتٍ إلا في أضيق الحدود لأنظمتِها الميكانيكية ولأنظمة السلامة بها. ظلَّ السؤال المُحير هو: فيمَ كان القبطان ديفيدسون يُفكِّر وهو يمرُّ عمدًا بإعصار حلزوني مداري ليسلك طريقه الأسبوعي المُعتاد إلى بورتوريكو.

يُدرك معظم البحَّارة الصادِقين في قرارة أنفسهم على الأقل جزءًا من إجابة هذا السؤال. ظن القبطان أنه يستطيع أن يفعل ذلك. لقد كان يتقاضى راتبًا جيدًا لإدارة سفينةٍ مشغولة وفق جدول زمني ضيق، ولا شك في أنه شعر بضغط كبير لإنجاز عمله دون تأخيراتٍ أو تحويلاتٍ مكلفة. كانت هناك تكهنات بأن الضغط الشديد بشأن قضايا السلامة قد تسبَّب بالفعل في خَسارة القبطان ديفيدسون وظيفةً سابقة. كان عليه سداد قرض رهن عقاري. وبعد تأمُّل ما حدث، يُمكننا أن نقول إن ديفيدسون اتخذ القرار الخطأ تمامًا، ودفعَ ثمن ذلك حياته وحياة ٣٢ شخصًا آخرين. طوال الوقت كان يقترِف خطيئة لا تُغتفَر وهي عدم الاستماع إلى مخاوف أفراد طاقمه، الذين وقفوا في غرفة السفينة يُشاهدون عيوب خطته وهي تتجلَّى أكثر وأكثر بمرور والوقت. ولكن كما علَّمتنا التجارِب، النظر إلى الأحداث الماضية يجعلنا نراها بوضوحٍ جلي لم يكن متاحًا وقت وقوعها. فلا تتَّضح دلالاتٌ كثيرة لتدهور الموقف في لحظتها، بل يستلزِم إدراكُها مستوًى غير معهود من البصيرة من الأطراف المَعنية. قد يكون تحديدُ ما إذا كان الإبحار آمنًا هو القرار الأصعب في خطة عمل أي قبطان. وكما جاء في القول المأثور: «السفينة آمنة في الميناء، ولكن ليس لهذا صُنِعَت السفن.» تكون بعض الحالاتُ واضحةً تمامًا، بينما لا تتكشَّف الإجاباتُ الصائبة في حالاتٍ أخرى إلا بعد وقوع الحادث. غالبًا ما يُفكر المرء أنه لم يكن ليرتكِب قطُّ شيئًا بهذه الحماقة. لم أكن لأصطحب فريقي إلى قمَّة الجبل دون إمدادٍ كافٍ بالأكسجين. ومِن المُبالغة المُفرطة تصوير كل قرارٍ على أنه سيؤدي إلى كارثة، ولكن لم يكن أيٌّ من أطراف حوادث السفن التي شملتها الدراسات يُخطط للتعرُّض لحادثٍ في بداية يومه.

•••

قبل بضع سنواتٍ، انضممتُ إلى طاقم سفينة في جزيرة كي ويست. كنا في أواخر شهر فبراير، وعلى الرغم من أن فلوريدا تشتهر بكونها وجهةً سياحية شتوية، لا يزال يمكن للرياح أن تعصف فيها بقوة. هذا بالضبط ما كان عليه الوضع عندما وصلتُ، رياحٌ شديدة تقترب من أن تكون عاصفة تهب من الشمال الشرقي مباشرةً في مواجهة التدفُّق القوي لتيار الخليج. يولِّد هذا الصدام بين الريح والتيار ظروفًا سيئة للغاية في مَضيق فلوريدا، حيث لا يستقرُّ البحر ولا الأمواج على حال. لقد سمعتُ البحَّارة المَحليِّين يسمُّون الأمواج «كوندوس» (أي مُجمَّعات سكنية)؛ فهي مثلها، كبيرة وعالية وقبيحة، وتظهر من العَدم وتنهار دون سابق إنذار. كنت في هذه الحالة القبطان الجديد، وربما شعرتُ بأن لديَّ ما أُثبته. وكان أفراد الطاقم قد مَلُّوا من المدينة وكانوا يتوقون للانطلاق، أو بالأحرى لم يكن من المتوقَّع أن تهدأ الرياح في أي وقتٍ قريب، وكنت أشك في أننا سنُصبح أفضل استعدادًا للرحيل بقضاءِ المزيد من الأيام في التردُّد على حانات شارع دوفال. كنا راسِين في ملحق لقاعدة بحرية محلية، حيث بدا أن مسئول رصيف الميناء المُثقل بالمهام يتوق إلى مغادرتنا. عندما أجرى مكالمته اليومية للاستفسار عن موعد مغادرتنا المتوقَّع، شعرتُ وكأنني ضيف غير مرغوب فيه بعض الشيء، مثل الكابتن كوك في زيارته الأخيرة لهاواي.

وهكذا غادرنا. للأسف، كان الشمال الشرقي هو بالضبط الاتجاه الذي علينا الإبحار فيه، أي في مواجهة الرياح مباشرةً. كانت الخطة التي اخترتُها هي إخراج السفينة إلى وسط المضيق، حيث سنستمِد أقصى قدْر من العون من التيار في معركتنا للتقدُّم في مواجهة الرياح العاتية. قطعنا ٨٠ ميلًا في يومَين. طار ديك رومي مشوي من طاولة الطعام إلى سرير أحد أفراد الطاقم. وارتفعت حرارة المُحرك الرئيسي بشدة، وفي عصر اليوم الثاني، ضربت موجةٌ غرفة السطح وأرسلت شلالًا من المياه الخضراء متدفقًا إلى غرفة الخرائط. لحسن الحظ نجت أجهزتنا الإلكترونية. وبحلول اليوم الرابع، كنا نبحر بسعادة باتجاه جزر البهاما عبر بحر هادئ. كان أفراد الطاقم يجففون ملابسهم، وكان أحدهم يكتب أغنية لإحياء ذكرى حادثة الديك الرومي.

المَغزى من كل هذا هو التأمُّل في مدى رقة الخيط الفاصل بين المشكلة الجادة وقصة البحر المُمتعة. أستحضر في ذهني مجددًا هذه الرحلة البحرية المُبكرة إلى جزر البهاما، متخيلًا نتيجة مختلفة:

يَرد في مقال صحيفة «ميامي هيرالد»: «سفينةٌ شراعية أمريكية تعاني من حريق في غرفة المحرك قبالة مدينة فورت لودرديل، دمَّرت الأمواجُ أجهزة الملاحة.»

«يقول القبطان: «لقد مَللتُ من كي ويست.»»

يروق لي أنني أصبحت أكثر تقبلًا لفكرة أن الخيار الأفضل في بعض الأحيان يكون البقاء وليس الإبحار. ولحسن الحظ أنني عملتُ في الغالب مع مؤسساتٍ تتفهم هذا النهج، ولكن لا تزال عملية تأجيل الخطط القديمة لصالح خططٍ جديدة تُشكل تحديًا، حتى في ظلِّ عدم وجود مُعارضة فعلية من الإدارة. عرفنا من علماء النفس أن أدمغتنا ترسم نوعًا من المسارات العصبية عند وضع الخطط، وهي بمثابة قضبان سكة حديدية يجب اقتلاعها أولًا قبل اتخاذ مسارٍ بديل. إن جذور هذا الميل تكمُن في أنسجتنا العصبية، وهذا يُفسر إلى حدٍّ ما سببَ تجاوز الناس للإشارات الحمراء أو حتى التمسُّك بزيجاتٍ فاشلة.

في الصناعة البحرية، أُنشئ تخصُّص يُسمى «إدارة موارد أطقم القيادة» للتخفيف من حدَّة هذه السمة السلوكية المعروفة لدى البشر. وهو مصمَّم لتحويل التسلسل الهرمي إلى فِرق عمل، حيث يَطَّلِع الجميع على الخطة ويتسنَّى لهم — بعد التدريب المناسب — التدخل عندما تُثبت الخطة أنه لا جدوى من الإبقاء عليها. ثمة شيء مُشابه يحدث في غرَف العمليات، حيث يُنبه المُمرضون (حسبما يتعهدون لنا) كبيرَ الجرَّاحين في حالة ما إذا كان على وشك استئصال الكُلْية الخطأ. وُضِع تخصُّص إدارة موارد أطقم القيادة، الذي يُعرَف اختصارًا ﺑ «بي آر إم»، استجابةً لحوادث مثل غرق العبَّارة «هيرالد أوف فري إنتربرايس»، وهي عبَّارة في بحر الشمال أبحرت من بلجيكا عام ١٩٨٧ وكانت لا تزال أبواب حمولتها الأمامية مفتوحة، لتغرَق على مرأًى من الأشخاص الواقفِين على رصيف الميناء. لم يحذِّر أحدٌ من أفراد الطاقم القبطان من هذا الخطأ، وغرِق ١٥٧ شخصًا. ولنظام إدارة موارد أطقم القيادة جذور في مجال الطيران التِّجاري، حيث تَقررَ منذ فترة أنَّ منْح قائد الطائرة سلطةً مطلقة لا يرقى إليها الشك لم يكن ممارسةً سليمة في قَمْرة القيادة. في عام ١٩٧٧، اصطدمت طائرتان مُمتلئتان بالكامل من طراز ٧٤٧ على مَدرج في جزر الكناري بعد أن زادت إحداهما سرعتَها للإقلاع واصطدمت مباشرةً بالأخرى. كان قائد الطائرة الأولى — كبير طياري شركة «كيه إل إم» الهولندية — هو مَن كان يتولى القيادة، ولم يُفكر أحدٌ في معارضته.

أقول للطاقم دائمًا: «إذا بدأتُ بمغادرة الرصيف والكهرباء ما زالت موصولة، فأرجو إخباري. ولا تفترضوا أنني أرى ذلك الرجل في قارب الصيد الذي يظهر بوضوحٍ تامٍّ وهو يعبر القناة أمامنا مباشرةً.»

ساهمت هذه البروتوكولات في الحَدِّ من الحوادث، لكنها ليست مضمونة النجاح، حيث تتداخل مع عوامل أخرى تؤثر في السلوك البشري كالإذعان، والرضا عن النفس، والإرهاق، والغرور، والضغط من أجل الأداء. تصِف المبادئ التوجيهية للمنظمة البحرية الدولية إدارة موارد أطقم القيادة بأنها «مهارة شخصية ناعمة» تعتمد على المشاركة الواعية من أطرافها. إنها دليلٌ للسلوك وليست جهاز أمانٍ هندسيًّا. يفترِض الكاتِب مالكولم جلادويل في مقاله بعنوان «النظرية العِرقية لحوادث الطائرات» أن الأمريكيين الوقِحين أكثر استعدادًا لمواجهة رئيس العمل المُخطئ على عكس الكوريين المُوقرين أو الكولومبيين المُهذبين. غير أن إدارة موارد أطقم القيادة لم تنجح في نهاية المطاف في إنقاذ السفينة «إلفارو»، حتى مع التزام طاقمها بمناوباتهم وتساؤلهم عما كان يدور في ذهن القبطان.

•••

السفينة «كورويث كريمر»، على غرار شقيقتها «روبرت سي سيمانز»، سفينة صغيرة ولكن قوية، بُنيت لتتحمل الظروف القاسية في عُرض البحر. فهي مجهَّزة تجهيزًا جيدًا، ولدَيها طاقمٌ متمرِّس وسِجلُّ نجاحاتٍ حافل في التعامل مع مختلف الأحوال الجوية على مَرِّ سنين عملِها. ولكنها بطيئة للغاية، إذ تفتقر إلى قوة المُحرك أو كفاءة الإبحار اللازمة لإحراز تقدُّمٍ كبير في مواجهة رياح معاكسة قوية. بالإضافة إلى الطاقم المُحترف، فعلى متن السفينة مجموعة قيِّمة من طلاب الجامعات؛ شباب أصحَّاء مُفعمون بالحيوية تلقَّوا تدريباتٍ مكثفة ومستعدون لأي شيء، أو هكذا يظنُّون.

بحلول ظهر يوم ٢٠ أكتوبر، نُصبح على بُعد ٨٠ ميلًا غرب الميناء، ولا نزال نُبحر بالمحركات في عُرض البحر في ظروفٍ هادئة. جمعتُ الطاقمَ لمناقشة الخيارات المتاحة. بناءً على خرائط تنبؤات الطقس، أمامنا حوالَي ٤٨ ساعة قبل أن يبدأ تأثير الحافة الخارجية للعاصفة على موقعنا. وهذا يمنحنا على الأقلِّ جزءًا من اليوم التالي للمواصلة في طريقنا. إذا كان نمط الرياح في صالحنا واتَّجَهَتْ شرقًا نحو البر الرئيسي الإسباني، فعندئذٍ نكون قد حققنا تقدمًا كافيًا يُمكِّننا من البقاء في موقعنا وترك العاصفة تمرُّ أمامنا نحو الشاطئ. وإذا استمرَّت في التوجُّه جنوبًا حسب توقعات الطقس، فيمكننا إلغاء رحلتنا والعودة إلى قادس مع رياح مواتية، لنصِل في يوم ٢٢ من الشهر، ونحن في أقصى الشرق بعيدًا تمامًا عن أسوأ الأحوال الجوية. واصلنا على وتيرتنا طوال المساء، وتباطأنا على فتراتٍ مُنتظمة لإتاحة الفرصة لجيف وفريقه المختص بالدراسات المحيطية لجمع العينات. في وقتٍ مبكر من صبيحة يوم ٢١، توقفنا وانتظرنا، وشعرنا أننا أصبحنا تقريبًا على أقصى مسافة ابتِعادٍ نريدها عن قادس إلى أن نتَّخذ قرارنا النهائي بشأن الاستمرار أو الرجوع. لم يَطُل انتظارنا، فقد وصلت توقعاتُ الطقس الجديدة قبل موعد الإفطار. جاء فيها كلُّ ما أحتاج إلى معرفته، وإن لم يكن بالضرورة ما أريدُ سماعه. من المتوقَّع أن تتَّجه الجبهة القطبية جنوبًا أكثر خلال الاثنتَين والسبعين ساعةً المقبلة، مما يجعل من شِبه المؤكَّد أن يتَّجه الإعصار السطحي بالضبط إلى حيث كنا نُخطط للإبحار في السابق.

ممتنًّا للمعلومات التي لم يكن فاسكو دا جاما لِيحلُمَ بالحصول عليها، أرسم مسارًا للعودة إلى قادس. سننتظر يومًا أفضل، ولن نخاطر بوقوع أي عواقب قد تجلبها لنا معاناةٌ لا داعي لها. يشعر جيف بخيبة الأمل ولكنه متفهِّم. نصل إلى مدخل الميناء بعد ظهر يوم ٢٢ أكتوبر تحت سيل من الأمطار الغزيرة. هذه هي الجبهة الدافئة، التي تمتد مقدمتها الطويلة الرفيعة من الهواء المداري باتجاه مركز العاصفة. ثمة الكثير من الحركة بالفعل في الهواء، وظهور بعض أعمدة المياه في مؤخرة السفينة يؤدي إلى قدْر من المناورة البحرية الفعالة للغاية بينما لا نزال على بُعد ١٠ أميال تقريبًا من الساحل. الرؤية سيئة للغاية. أسمعُ مرشدي المرفأ يُخبرون أحد الأشخاص عبر جهاز اللاسلكي أنهم ينتظرون توقُّف المطر قبل تحريك أي سفينة. لا تتحمل قادس كميات الأمطار التي تتحملها سياتل. تصبح المدينة تدريجيًّا في مرمى البصر خلف السُّحب القاتمة، نشق طريقنا إلى المدخل تحت جسرٍ معلَّق جديد يبدو وكأنه في غير مكانه إلى حَدٍّ مذهل. يقع مكان رسونا الاحتياطي في ركن قَصي من الميناء، حيث ينتظر الوكيلُ في سيارته تحت صفٍّ باهت من صوامع الحبوب الفارغة، وتلاحق مسَّاحات تنظيف الزجاج الأمامي في سيارته انهمار المطر.

يشعر قلةٌ منا بخيبة أمل عميقة من احتمال العودة. على مدار الأيام القليلة التالية، نشرب القهوة الإسبانية ونشاهد العاصفة تمر غربًا بالقرب منا، مباشرةً على الطريق الذي كنا نأمل في أن نسلكه. تزداد شدتُها كما هو متوقَّع، وتنفصل في النهاية تمامًا عن التيار النفَّاث وتندفع بلا وجهةٍ تقريبًا فوق شرق المحيط الأطلنطي. عندما نغادر مرة أخرى بعد أربعة أيام، لا يزال النمط الجوي يتخبَّط مثل الزومبي، إلى الجنوب منا الآن وينفصل تمامًا عن التدفُّق الرئيسي للرياح الغربية. في بعض الأحيان يمكن لهذه المنخفضات الجوية المنفصلة أن تظلَّ في مكانها لعدة أيام؛ حيث تعوض انخفاضَ قوتها بمواصلة تأثيرها بعناد. لا تزال قوة الريح قريبة من قوة العاصفة عند مغادرتنا، وإن كانت أسهل بكثير في التعامُل معها حيث تأتي من الخلف. نتحرك بأشرعةٍ منخفضة، ونوجِّه السفينة بحذَر، معجبين بتلك الأمواج الكبيرة المتبقية المتدفقة من الشمال. نُعدِّل خطط مرورنا للعبور المباشر إلى جزر الكناري الكبرى، مُتخلِّين عن توقفٍ كان مخططًا له في ماديرا بسبب ضِيق الوقت. أتصِل وأُعلِم وكيلنا في ميناء فونشال أننا لن نأتي. بقدرٍ لا بأس به من خيبة الأمل، أتخيل ديفيد على الرصيف تحت مِظلته ماركة هيرميس، يُمسك بزجاجة نبيذ لن تسنح لنا الفرصة لتذوقها مطلقًا. إنه متفهم للغاية ويرفض أيَّ تعويضٍ مادي عن العمل الذي أنجزه بالفعل نيابةً عنا. يقول إن المطر ينهمر منذ أيام، وتحولت الأزقة الشديدة الانحدار في المدينة إلى جداول من المياه البيضاء.

يقول، خوفًا بلا شك على سمعة جزيرته الأم المعروفة بأنها جنة خضراء: «لن تفضِّل القدوم إلى هنا حاليًّا. فلتأتِ مرة أخرى عندما يكون الطقس أفضل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥