الفصل التاسع

نهرٌ من الرياح

في أغسطس من عام ١٩٤٧، شغَّلت الطائرة «ستار داست» مُحركاتها في مطار بوينس آيرس للانطلاق في رحلة عصر ذلك اليوم إلى مدينة سانتياجو. كان المشهد يُشبه أحد مشاهد روايات جراهام جرين؛ إذ تُقلِع طائرة رِحلات عملاقةٌ بمُحركاتٍ مكبسية مُصْدِرةً دويًّا في مدينةٍ جنوبية غريبة، بينما كانت مجموعة صغيرة وغامضة من الركَّاب تعدِّل أحزمة مقاعدها في المقصورة. كانت من بينهم أرملة ألمانية تحمِل رماد زوجها، وفلسطيني يحمل ماسة مُخَبأة، ومبعوث لوزارة الخارجية البريطانية — «رسول مَلكي» — في مهمة غامضة لصالح التاج البريطاني. يمتد المسار الجوي من بوينس آيرس إلى سانتياجو غربًا مسافة ما يقرب من ٧٠٠ ميل، عابرًا السهل الساحلي لأمريكا الجنوبية قبل أن يعتلي جبال الأنديز إلى عاصمة تشيلي. من الناحية الجغرافية، يمكن اعتبار الرحلة من دنفر إلى سان فرانسيسكو بمثابة نظيرٍ تقريبي شمالي لهذا المسار. استمرَّت رحلةُ «ستار داست» في ذلك اليوم في ظروف تبدو روتينية، وبعد حوالَي أربع ساعاتٍ من الإقلاع، أبلغ طاقمُ الطائرة مراقبةَ الحركة الجوية عبر اللاسلكي باقترابهم الوشيك من سانتياجو. كانت تلك هي آخِر مرة يرى فيها أحدٌ الطائرة أو يسمع عنها حتى عام ١٩٩٨، عندما عثر فريقٌ من المُتسلقين على حطام الطائرة حيث كان يذوب ببطءٍ ليظهر من نهر جليدي في جبال الأنديز، على بُعد ٥٠ ميلًا تقريبًا شرقَ وجهتها.

بحلول ذلك الوقت، كانت الرحلة الأخيرة لطائرة «ستار داست» قد دخلت في مصاف الألغاز الكبرى الغامضة في مجال النقل الجوي، حيث تنوَّعت التفسيرات المحتملة بين تخريب نازي واختطاف من كائناتٍ فضائية. وباستخدام علوم الطيران والقليل من علم الأرصاد الجوية الجنائي، توصَّل التحقيقُ الذي تأخَّر كثيرًا إلى نتيجة علمية أقرب، مفادها أن الطائرة «ستار داست»، التي كانت تحلق فوق السُّحب على ارتفاع ٢٤ ألف قدم، قد اصطدمت مباشرةً برياح معاكسة غير مُتوقَّعة — تيار نفَّاث — ونتيجة لذلك، أفرط طاقمُ الرحلة في تقدير تقدُّمها بشكلٍ كبير. وأرجحُ الاحتمالات أنهم هبطوا هبوطًا مُحكَمًا باتجاه الأرض، ظنًّا منهم أن طائرتهم كانت قد صارت بعيدةً تمامًا عن الجبال بينما كان لا يزال أمامها في الواقع أميالٌ لتقطعها.

التياراتُ النفاثة هي رياح غربية على ارتفاعٍ شاهق، تُكوِّنها تبايُنات حادة في الكثافة الموجودة في الغِلاف الجوي عبر خطوط العرض المختلفة. وتتركز في نطاقاتٍ ضيقة على حدود الكُتل الهوائية الرئيسية العالمية وقد تهبُّ بقوة كفيلة لإبطاء حتى أسرع الرحلات الجوية في القرن الحادي والعشرين. تحدُث التيارات الأكثر وضوحًا عند الجبهات القطبية، حيث يلتقي الهواءُ المعتدل في نصفَي الكرة الأرضية بالهواء البارد القادم من مناطق القطبَين الشمالي والجنوبي. وغالبًا ما تُمثَّل بالرسم على هيئة خطوطٍ متجاورة بسلاسة، ومنتظمة كالطرق، لكن الظاهرة الفعلية تُشبه في الواقع الأنهار المَجْدُولة أو الخطوط المتقطعة، فهي تكويناتٌ من أجزاءٍ فرعية متعرِّجة متعددة، تتجمَّع مُنتِجةً حركة.

في وقتِ وقوع كارثة «ستار داست»، كان فهمُ الرياح الشاهقة الارتفاع قد بدأ يتشكَّل للتوِّ بعد عقودٍ عديدة من مراقبة الطيارين وعلماء الأرصاد الجوية لها. يُنسَب أول شرح علمي للموضوع إلى باحثٍ غامض يُدعى واسابورو أويشي، والذي عمل بمفرده في مختبر بشمال طوكيو في أوائل عشرينيات القرن العشرين. أطلق أويشي آلافَ المناطيد الورقية وتابعها من خلال عدسة جهاز المِزْواة الخاص به والرياح تحملها بعيدًا لأعلى. ومن خلال قياساتِ المدى والارتفاع، استنتج وجودَ تياراتٍ ثابتة من الرياح الغربية تهبُّ بقوة عبر السماء، عاليًا فوق اليابان. كانت أكثر شيوعًا في الشتاء، وحينها يمكن بالفعل أن تكون قويةً جدًّا، إذ قد تصل سرعتها إلى أكثر من ١٠٠ عقدة.

أكَّد تحليلٌ حديث لبياناتِ أويشي النتائج التي توصَّل إليها، غير أن الأوساط الأكاديمية الغربية كانت قد تجاهلتها وقتَ صدورها. لقد كان شخصيةً تعمل مُنفردة، بعيدًا عن مراكز العلوم المعاصرة، وقد نشر أعماله بلغة الإسبرانتو، تلك اللغة المُثيرة للريبة الموضوعة على أمل أن تكون لغةً للتواصل بين جميع البلدان. لم يكترث لأمره أحد في أوروبا أو أمريكا. جاء أولُ تطبيق مباشر لنتائج أويشي في حملة غريبة لمهاجمة الولايات المتحدة بأسطولٍ من المناطيد الحارقة التي أطلقتها اليابانُ خلال الحرب العالمية الثانية. أُعِدَّت ١٠ آلاف منها في ورش سرية وأُرسلَت بعيدًا، مجهَّزةً بآلياتِ تثبيت لإبقائها في الارتفاع المناسب طوال الطريق. ومن المعروف أن ما لا يقل عن ٨٠٠ قطعة من هذه الأسلحة الغريبة قد هبطَ في أمريكا الشمالية خلال السنوات الأخيرة للحرب. وتسبَّبت إحداها في قتل ستة أشخاص عندما صادفوها أثناء رحلة تابعة للكنيسة في جبال كاسكيد. ونظرًا إلى أنه من المُرجَّح أن العديد منها ربما يكون قد سقطَ دون أن يراه أحدٌ في المناطق النائية، فيُقدَّر أن ألفًا من تلك المناطيد المنجرفة، أي ١٠ في المائة من الإجمالي، ربما تكون قد نجحت في عبور المحيط الهادئ بفضل رياحِ أويشي.

لم يُوضَع مصطلحُ التيارات النفاثة إلا في عام ١٩٣٩ عندما صاغه عالِم ألماني يُدعى هاينريش سيلكوبف في أحد الكتب التعليمية، ولكن بحلول ذلك الوقت كان هناك وعي راسخ بحدوث شيءٍ ما هناك بالأعلى. وقد استنبط عالِم رياضيات أمريكي يُدعى ويليام فيريل، كجزءٍ من عملِه في منتصف القرن التاسع عشر، مجموعة من المعادلات التي تنبأت بوجود رياح قوية على ارتفاعاتٍ شاهقة، وذلك استنادًا إلى بياناتٍ من قياساتِ سطح الأرض. وبعد فترةٍ وجيزة في بلجيكا، تمكَّن عالِم طيران يُدعى ليون تيسيرينك دي بورت من إثبات صحة بعض نظريات فيريل باستخدام الطائرات الورقية والمناطيد. ومن خلال جمع قراءات درجات الحرارة على ارتفاعاتٍ عالية، تمكَّن تيسيرينك دي بورت أيضًا من إثبات وجود التروبوبوز، وهي طبقة مستقرة ذات حَدٍّ أدنى من درجة الحرارة على ارتفاع حوالي ثمانية أميال فوق سطح الأرض. وقد أوقعَ نفسه ذات يوم في مشكلة صغيرة ولكنها جدية، عندما سقطت مجموعة من طائراته الورقية، مربوطة معًا على أميال من أسلاك آلة بيانو، في أنشوطة فوق مدينة باريس.

أما وايلي بوست، فهو رائدٌ في مجال الطيران من أوائل القرن العشرين، وكان من ذلك النوع المخبول من أصحاب الرؤى الذين يعشق الأمريكيون أن يتخذوهم أبطالًا. لم يحالف الحظ بوست بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى كطيَّار، لكن بعد تجارِب قصيرة في حقول النفط وسرقة السيارات، وجدَ طريقَه للعودة إلى السماء. وفي فترة العشرينيات التي ازدهرت فيها عروضُ الطيران، سرعان ما ارتقى إلى الشهرة كطيَّار سباقاتٍ وطيَّارٍ مُخاطِر. كان يرتدي رقعةً على إحدى عينَيه وأمضى بعض الوقت في السجن. كما كان يتمتع بموهبةٍ طبيعية في الهندسة على الرغم من تعليمه المحدود وقد صحَّت تنبؤاته بشأن مُستقبل الطيران في مجالَي نقل البريد والركَّاب بسرعةٍ كبيرة وعلى ارتفاعاتٍ عالية. وكان أولَ طيار يُكمِل رحلةً فردية حول العالم، وربما أوَّل مَن ارتدى بدلة ضغط. هذه البدلة جعلت بوست يبدو مثل المُجسَّم الذي يظهر في إعلانات شركة ميشلان للإطارات ولكن كما لو كان يرتدي خُوذة غوص، لكنها سمحت له بالطيران على ارتفاعٍ يصِل إلى ٥٠ ألف قدم خلال سلسلة من محاولات الطيران عبر القارات في عام ١٩٣٥. ومع أنه لم تفلح أيٌّ من هذه الجهود في النهاية، إلا أن بيانات أجهزته قادته إلى ملاحظة وجود أحزمةٍ قوية من الرياح الغربية في أجزاءٍ من طبقة التروبوسفير العُليا. ولهذا السبب، يُنسَب إلى بوست أحيانًا اكتشافُ التيار النفاث، ولكن من الإنصاف القول بأنه اكتشفه مصادفةً.

واجه طيارو الحرب العالمية الثانية أيضًا التيارات النفاثة، غالبًا دون توقُّع مُسبَق لها. كان معظم علم الأرصاد الجوية للطيران في ذلك الوقت ينصبُّ تركيزه الأكبر على توقعاتِ الغطاء السحابي (فلا يُمكنك قصف ما لا يُمكنك رؤيته)، ومع أن مفهوم الرياح ذات السرعات العالية في طبقات الجو العُليا لم يكن جديدًا تمامًا بحلول ذلك الوقت، إلا أنه كان غائبًا في الغالِب عن تقارير المهمَّات. التياراتُ النفاثة هي تياراتٌ «نطاقية»، وهذا يعني أنها تتدفَّق على الأغلب من الغرب إلى الشرق. واجهت طائراتُ الحلفاء العائدة من غاراتٍ فوق أوروبا أحيانًا رياحًا معاكسة شديدة واضطرت إلى الهبوط في القنال الإنجليزي عندما نفد وقودُها. وواجهت قاذفاتُ القنابل الأمريكية من طراز B-29 وهي في طريقها لقصف اليابان رياحًا وصلت سرعتُها إلى ١٤٠ عقدة. وفي أغلب الأحيان يمكن تجنُّب هذه التيارات عن طريق إجراء تعديلاتٍ بسيطة في المسار والارتفاع، إلا أن القيود الملاحية للطيران ضمن أسرابٍ جعلت من الصعب تطبيق ذلك عمليًّا.
اختفى حطام الطائرة المنكوبة «ستار داست» في الواقع في العام نفسه الذي نُشرت فيه أولُ دراسة شاملة عن التيارات النفاثة، والتي نشرتها مجموعةٌ في شيكاغو بقيادة كارل جوستاف روسبي. كان روسبي شخصيةً رائعة ومحورية في تقدُّم علم الأرصاد الجوية خلال منتصف القرن العشرين. كان مدرسًا ومنظمًا يتمتع بكفاءةٍ كبيرة، ويُقال إنه كان مُولعًا بترَف الحياة بعض الشيء، وكان يعشق حفلات العشاء الطويلة والمبهجة في المطاعم، وعلى ما يبدو لم يكن يرتاح قط إلى قيادة سيارته بنفسه. تمكَّنت أولُ ورقة بحثية لمجموعة شيكاغو، والتي حملت عنوان «عن الدوران العام للغِلاف الجوي في خطوط العرض الوسطى»، من وضع إطارٍ نظري استنادًا إلى قاعدة بياناتٍ طويلة من قياسات الرياح على ارتفاعاتٍ عالية. واستكمالًا لنهج روسبي التعاوني، فإن صياغة هذه الورقة البحثية البارزة نُسِبَت ببساطة إلى «أعضاء هيئة التدريس بقسم الأرصاد الجوية بجامعة شيكاغو»، وذلك دون اتباع التدرُّج الهرَمي للباحثين الشائع جدًّا في الأوراق العلمية. قبل الخوض في التفاصيل العلمية، دعت الوثيقة إلى تحسين التواصل بين الأشخاص والجهات الفاعلة في مجال دراسات الغِلاف الجوي الجديد، مع لمسة دبلوماسية ساحرة من الطراز القديم:

يوجَد حاليًّا تباين ملحوظ في الآراء فيما يتعلق بالتفسير الصحيح للعديد من العمليات الأساسية في الغِلاف الجوي. وبسبب هذا التباين بُذلت جهودٌ لجمع الباحثين الذين يمثلون وجهاتِ نظر مختلفة اختلافًا واسعًا. وإلى حين إعداد طريقةٍ فعالة حقًّا لتوزيع البيانات على الجهات المُهتمة، من المؤكَّد بدرجة معقولة أن الأموال الحكومية المُستثمَرة في مؤسساتِ البحث خارج واشنطن ستفشل في تحقيق أقصى قدْر من العائدات.

بالنظر إلى أن النصف الثاني من هذا البيان كان من المُمكن أن يُكتَب في عام ٢٠٢٠ بالسهولة نفسها التي كُتب بها في عام ١٩٤٧، فمن الإنصاف القولُ إن نظريات روسبي حول الغِلاف الجوي قد اكتسبت قبولًا أكبر من نصيحته حول تحسين كفاءة وتنسيق البحث العلمي المُموَّل من الحكومة.

•••

يمكن تخيُّل التروبوسفير — حيث تحدث معظم الظواهر الجوية — على أنه غرفة كبيرة يتدلَّى سقفها بانحدارٍ من خط الاستواء باتجاه القطبَين، ويقترب أكثر من السطح مع ازديادِ برودة وكثافة الغِلاف الجوي تحته. هذا السقف هو التروبوبوز. وهو ليس منحدرًا ناعمًا، بل يُشبه إلى حَدٍّ كبير سلسلة من الهضاب المُنحدرة برفق والتي تفصل بينها أجراف. تكون هذه الأجراف في أشدِّ درجاتِ انحدارها عند الحد الحراري الحاد بين المناطق القطبية الباردة والمناطق الأكثر اعتدالًا. وفي بعض الأحيان يظهر فاصل ثانٍ بالقرب من خط الاستواء، عند الحد بين المناطق المعتدلة والمناطق المدارية. في كِلتا الحالتَين، يؤدي التغيُّر المفاجئ في درجة الحرارة إلى اختلافٍ حاد في الضغط في الأعلى. يتدفق الهواء عبر التروبوبوز المنحدر، ويتسارع في الأماكن الشديدة الانحدار. ويؤدي تأثير كوريوليس إلى انحرافه في اتجاه الشرق، مما يُشكِّل قناة رياح من الغرب إلى الشرق تتركز على طول مناطق الانتقال الحاد في درجة حرارة الغِلاف الجوي.

ركَّزت ورقة شيكاغو بشكلٍ أساسي على نمط التيار النفاث «القطبي»، حيث يُعَدُّ الأقوى والأكثر تأثيرًا. وصفَ روسبي ورفاقُه التيار بأنه حزامٌ مميز وضيق بشكلٍ مدهش من الرياح الغربية: «نهر متعرج يشقُّ طريقه شرقًا عبر كتل هوائية راكدة نسبيًّا إلى الشمال والجنوب.» لقد اهتموا تحديدًا بنمط موحَّد من الموجات التي تشكِّل انحناءاتٍ في التيارات الهوائية الأوسع نطاقًا التي تمتد عبر مناطق مختلفة في الغِلاف الجوي. تُعرف هذه التعرُّجات عادةً باسم «الموجات الطويلة»، ويُفهَم اليوم أنها مُحفِّزة للأعاصير وآلية رئيسية لنقل الحرارة بين خطوط العرض. وقد وضعَ روسبي معادلة لوصف هذه الظاهرة، وهي الآن تحمل اسمه.

fig1
شكل ٩-١: كيفية تكوُّن التيارات النفاثة

رسمٌ تخطيطي نموذجي للطبقات السُّفلى من الغِلاف الجوي، بما في ذلك التروبوبوز والمواقع القياسية للتيارات النفاثة القطبية وشبه المدارية. عادةً ما تُبالغ رسوماتٌ كهذه في ارتفاع الغِلاف الجوي لتوصيل رسالتها. على سبيل المثال، تذَّكر أن سُمك التروبوسفير لا يتعدى ما بين ٤ و١٢ ميلًا، وهو جزءٌ صغير جدًّا من المسافة بين القطبَين وخط الاستواء.

عندما يُناقش خبراءُ الأرصاد مواقع التيارات النفاثة، فإنهم غالبًا ما يتحدَّثون عن «موجات روسبي»، التي يلعب موقعها دورًا رئيسيًّا في تحديد الطقس على سطح الأرض. تعمل موجاتُ روسبي بتعرُّجاتها الطويلة على دفع «منخفضاتِ» الهواء البارد نحو المناطق المعتدلة، بينما تعمل قِمَم الموجات — أو «الحيود» — على دفع تياراتٍ حادة من الهواء الدافئ عائدةً نحو القطبين. تتحرك موجات روسبي شرقًا ببطء شديد، ولكن ضمن التيار الواسع النطاق توجد «موجات قصيرة» أسرع حركة، يُشبِّهها جو سيانكيفيتش بالتموُّجات المُتراكبة على موجة من أمواج مُحيط. تمثل هذه الاندفاعات القصيرة للطاقة المُحفزات اليومية للطقس السطحي. تندفع تياراتُ الهواء البارد في اتجاه خط الاستواء وتغوص نحو السطح بينما يرتفع الهواء الدافئ إلى الأعلى، مما يؤدي إلى تكوُّن الأعاصير من خلال عمليةٍ أطلق عليها النرويجيون في نماذجهم «الرفع الجبهوي». ومن ثَمَّ فإن العواصف السطحية هي الدوَّامات التي تُحيط بنهرٍ هوائي أقوى في الأعلى، سالكةً مسارًا يتماشى إلى حَدٍّ ما مع تيار الهواء المندفع فوقها. تُعتبر هذه العواصف ظواهر مؤقتة، ولكن إذا استمرَّت أنماطُ الموجات الطويلة خلفَها، فيمكن أن تتكرَّر مرارًا وتَكرارًا.

في شتاءِ عام ٢٠١٥، استقر منخفَض بارد عظيم كلسانِ بقرةٍ رطبٍ وشديد البرودة فوق أمريكا الشمالية، مولِّدًا عاصفة ثلجية تلوَ الأخرى بينما تطورت الاندفاعاتُ اللاحقة للهواء الجنوبي الدافئ إلى أعاصير حلزونية. مضى المنخفَض في طريقه في النهاية، ولكن ليس قبل أن تُسجِّل معظم أنحاء البلاد تعرضُها لكَمياتٍ غير مسبوقة من الثلوج. وصلت موجة أخرى من الهواء البارد الأقصر ولكنها بالقوة نفسها في يناير ٢٠١٩، حيث أصبحت شيكاغو لفترةٍ وجيزة أبردَ مكانٍ على وجه الأرض. فقد انخفضت درجاتُ الحرارة إلى ما يقرُب من سالب ٥٠ درجة فهرنهايت، وتحدثت وسائل الإعلام مذعورةً عن هجوم من «دوامة قطبية»، وهو مصطلحٌ وُضِع في السنوات الأخيرة للتحذير من ظواهر الشتاء غير السارة، ولا سيَّما فوق أمريكا الشمالية. في الواقع، الدوامة القطبية الفعلية هي كتلةٌ هوائية شديدة البرودة توجَد في أعلى طبقة الستراتوسفير كلَّ شتاء، وعادةً ما يتجاهلها السكانُ حتى تهب مثل ثور هائج لتعيث فوضى في المدن. بدأ تجمُّد شيكاغو عام ٢٠١٩ بالفعل عندما شقَّ هواءٌ دافئ من آسيا طريقَه إلى طبقة الستراتوسفير ودفعَ بالدوامة القطبية المُتماسكة عادةً للتفكُّك إلى ما يُشبه الفصوص، تأرجَّح أحدها نحو أمريكا الشمالية، آخِذًا معه تيارًا نفاثًا في هيئة تعرج بارد عميق. هذه التحركات تُسمى «الاندفاعات القطبية»، ويبدو أنها أصبحت أكثر شيوعًا في النصف الأخير من القرن الماضي، لأسبابٍ لا يزال الباحثون يعملون على حلِّها.

•••

يعتمد البحَّارة على موقع الجبهة القطبية لتقدير مدى الرياح على السطح، ما يجعلها مؤشرًا مُهمًّا في التخطيط لمسارات السفن. الرسم البياني الأشيع لهذه العملية في بعض الأحيان يُسمَّى «خريطة ٥٠٠ ملِّيبار»، التي تعرض التغيرات في ارتفاع طبقة التروبوسفير عبر مجموعةٍ من خطوط الكنتور للارتفاع، وتُشبه إلى حَدٍّ كبير خرائط مُتسلقي الجبال. في الصفحة التالية، تُمثِّل خريطتان لتوقعاتِ الطقس من رحلتنا المُلغاة في قادس مثالًا ممتازًا على العَلاقة الوثيقة بين التيارات النفاثة والطقس السطحي. يوضح شكل ٩-٢، وهو خريطة ٥٠٠ ملِّيبار، أحواضًا عميقة تتطوَّر في الجبهة القطبية على جانبَي المحيط الأطلنطي. هذه الخصائص المنعكسة، مقترنةً ببُقعة كبيرة من الهواء الدافئ التي استقرَّت فوق منتصف المُحيط، تُشبه الدوَّامات المزدوجة؛ مناطقُ يتضخم فيها الهواء القطبي البارد نحو الجنوب ويؤدي إلى اضطراباتٍ على السطح.

مثلُ هذه الخرائط تُظهِر الرياحَ عند منتصف الارتفاع الفعلي للغِلاف الجوي، حيث تكون قراءة البارومتر ٥٠٠ ملِّيبار. وتُمثل الخطوط على الخريطة خطوط الكنتور للارتفاع، التي تساعد على توضيح مدى سرعة تناقُص السماكة الرأسية للغِلاف الجوي عند الانتقال إلى خطوط العرض الأبرد والأعلى. كما تُحدَّد قوة الرياح واتجاهها بواسطة الأسهم الريشية، حيث تُمثل كلُّ ريشة ١٠ عُقد، والعلَم المُثلث الصغير يعني ٥٠ عقدة. لاحِظ تناسُق هذا الرسم البياني، وكيف يُظهِر بوضوح أحداثَ الطقس على أنها عناصر مرتبطة على طول سلسلة من الموجات. تقع قادس في الركن الجنوبي الشرقي من الرسم، غرب جبل طارق مباشرةً.

fig2
شكل ٩-٢: خريطة توقعات طقس ٥٠٠ ملِّيبار، تُظهِر أنماط رياح طبقاتِ الجو العُليا المتوقَّعة للساعة ١٢:٠٠ بالتوقيت العالمي الموحَّد (توقيت جرينتش المتوسط) ليوم ٢٣ أكتوبر عام ٢٠١٦. يظهر ميناءُ مغادرتنا لقادس غربَ جبل طارق مباشرةً.
fig3
شكل ٩-٣: خريطة طقسٍ سطحي لمنطقة شمال الأطلنطي، تنطبق أيضًا على الساعة ١٢:٠٠ بالتوقيت العالمي الموحَّد ليوم ٢٣ أكتوبر.
تعرض الخريطةُ التالية (شكل ٩-٣) الأحوال الجوية عند مستوى سطح البحر للفترة الزمنية نفسها. وهي أحوالٌ ليست هادئة. لاحِظ كيف شكَّلت التعرُّجات العميقة للتيار النفَّاث باتجاه الجنوب عواصفَ مُتماثلة على جانبَي المحيط الأطلنطي، إذ يندفع الهواء البارد باتجاه الجنوب، مما يخلق عدم استقرار حيث ترفع الرياح القوية العالية الهواء الدافئ وتزيحه بعيدًا. تساعد كتلةٌ كبيرة من الهواء المُستقر في وسط المحيط — مرتفَع برمودا-جزر الأزور — على زيادة تدرُّج الضغط المحيط بكل نمط جوي، وخاصة في شرق المحيط الأطلنطي. كان التطوُّر السريع لهذه العاصفة ومسارها المتوقَّع نحو الجنوب هو ما دفعنا إلى اتخاذ قرارنا بالعودة إلى قادس. تعرض هذه الخريطة القِيَم المُتغيرة للضغط الجوي من خلال خطوط تساوي الضغط الجوي المرسومة على فتراتٍ لكل أربعة ملِّيبارات. لاحِظ طريقة تحديد العواصف على جانبَي المحيط الأطلنطي في منتصف العاصفة بالحرف L (للهواء المنخفض) وبرقمٍ يُشير إلى الضغط المركزي للعاصفة. يُستخدَم رمز مُشابه، وهو H، للأنماط الجوية ذات الضغط المرتفع. تُرسَم الحدود بين الكتل الهوائية على شكل خطوطٍ تُشير إلى الجبهات، مع استخدام نمَط مُسنَّن للجبهات الباردة وفصوص مستديرة للجبهات الدافئة.

تعتمِد قوةُ التيار النفَّاث على التبايُن في درجة الحرارة بين الكُتَل الهوائية التي تقع إلى شماله وجنوبه. كرَّست جنيفر فرانسيس، وهي عالِمة في مركز وودويل لأبحاث المناخ في وودز هول، جزءًا كبيرًا من حياتها المِهنية لدراسة هذا المبدأ. وتبعاتُ تناقُص هذا التباين هي أكثر ما يُثير قلق الدكتورة فرانسيس. لقد أصبح العالَم كله أكثر دفئًا، لكن القطب الشمالي يشهد ارتفاعًا في درجات الحرارة بوتيرةٍ أسرع من أي مكانٍ آخر، حيث وصل الارتفاعُ إلى خمس درجاتٍ مئوية خلال العشرين عامًا الأولى من الألفية الجديدة. أحدُ الأسباب المسئولة عن هذه العملية هو حلقة الرجع الإيجابي الناتجة عن ذوَبان الجليد البحري في القطب الشمالي؛ إذ تؤدي درجات الحرارة المُرتفعة التي تُسببها وفرة غازات الدفيئة الحابِسة للحرارة إلى ازدياد المناطق الخالية من الجليد أكثر فأكثر، ويمتصُّ سطحُ البحر المفتوح — بسبب انعكاسيته المنخفضة — من الإشعاع الشمسي ما يصِل إلى تسعة أضعاف ما يمتصُّه الجليد. يؤدي هذا إلى دفع درجات الحرارة إلى الارتفاع أكثر من خلال ظاهرة تُسمَّى «تضخيم القطب الشمالي». وعلى اليابسة يذوب الجليد أسرع، تاركًا أرضًا عارية، لديها — مثل مياه البحر — قدرة أكبر بكثير على امتصاص الطاقة الشمسية من الكتل الثلجية. والنتيجة النهائية هي فَرق أقل في درجة الحرارة عبر الجبهة القطبية، وانخفاض مُتزامن في سرعة التيار النفاث، يصل إلى ١٤ بالمائة في أوقاتٍ مُعينة من السنة.

وَفقًا لمعادلات روسبي، فإن التيار النفاث البطيء يعني موجاتٍ أبطأ وأعرض. ستتمدَّد مناطقُ الضغط المُنخفض والمرتفع لمسافاتٍ بعيدة شمالًا وجنوبًا، وتبقى ساكنةً لفترة أطول. وهذا هو أحدُ التفسيرات المُحتملة لتطرُّف درجات الحرارة الذي حدث في جميع أنحاء العالم في ظل الاتجاه السائد للاحترار العالمي. صاحَبَ شتاءَ أمريكا الشمالية القاسي في عام ٢٠١٥ منخفَضٌ بطيء للهواء القطبي تمركز لأسابيع فوق القارة. وفي الوقت نفسه جلبَ مرتفَعٌ عنيد درجاتِ حرارةٍ معتدلةً على نحوٍ غير معتاد إلى الساحل الغربي. شهدت أوروبا درجات حرارة شديدة البرودة في عام ٢٠١٢، بينما شهدَ شتاءُ الولايات المتحدة ارتفاعًا غير مسبوق في درجات الحرارة، وكلُّ ذلك تحت تأثير الانحرافات الحادة في مسار التيار النفاث.

قد تساهم هذه الموجاتُ الشديدة الطول في منع حركة أنظمة الطقس السطحية من الشرق إلى الغرب، وهي الظاهرة التي تسميها جنيفر فرانسيس في مناقشاتها «الطقس العالِق». من شأن هذا الطقس العالِق أن يكون السبب في موجة الحرِّ الأوروبية القاسية عام ٢٠١٥، حيث اضطُر الرياضيون في بطولة ويمبلدون إلى لعب التنس في درجة حرارة تصِل إلى ٩٦ درجة فهرنهايت (٣٦ درجة مئوية تقريبًا)، وسجلت المدن الداخلية أرقامًا غير مسبوقة في درجات الحرارة يومًا بعد يوم. كان السببُ واضحًا للعِيان على الخرائط؛ فقد سمحَ تضخم كبير في التيار النفاث باتجاه الشمال بتمركُّز كتلة هوائية ضخمة ومُستقرة من شمال أفريقيا فوق أوروبا. وهناك استقرت وسبَّبت موجة حارة، وفي الوقت نفسه أعاقت تدفقَ الهواء البحري الأبرد من الغرب. يُطلِق محلِّلو الطقس على هذه الظاهرة اسم «حاجز أوميجا» نسبةً إلى الحرف اليوناني الذي تُشبه شكلَه على الخريطة. حدث شيءٌ مشابه لهذا في أوائل صيف عام ٢٠٢١ في الولايات المتحدة، عندما استقر مرتفَع جوي هائل من الهواء الحار والجاف فوق ولاية واشنطن وكولومبيا البريطانية. وتحوَّلت منطقة اعتادت على الرياح الرطبة الباردة إلى ما يُشبه صحراء موهافي. في سياتل، ارتفعت درجة الحرارة إلى ١٠٨ درجات فهرنهايت (٤٢ درجة مئوية). ضاق أحدُ أصدقائي هناك ذَرعًا بالحر، فصنع مكيِّف هواء في مطبخه من مِنشفةٍ مبللة علَّقها على عصا مِكنسة، ووضعها أمام مروحة قوية.

صاح قائلًا: «إنه مُبرِّد تبخيري ذو شراع مربع!» بينما كانت سفينة الإغاثة المُرتجلة التي ابتكرها تُبحِر مرورًا بغسالة الصحون على أمل سحب الحرارة من الغرفة لتبخير الماء. استخدم المهندسون المعماريون المغاربة في جنوب إسبانيا المبدأ نفسه بفعَّاليةٍ كبيرة في قلاعهم، حيث كانت الغرفة تلوَ الأخرى تظل باردةً بفِعل تيارات المياه الرقيقة المُتدفِّقة عبر سلسلة من النوافير. تعلَّم سكانُ سياتل التصرُّفَ مثل الأندلسيين خشية تعرُّضهم لمصير مُشابه مستقبلًا؛ فكانوا يجلسون هادئين في منازلهم وقت الظهيرة مُسدلِين الستائر، ولا يخرجون إلا في حالات الضرورة القصوى. ليس لديَّ أدنى فكرة عما إذا كان ابتكار كيفين قد وفَّر الراحة لعائلته أم أنه كان اختراعًا لمجرد التسلية.

•••

حملَ عام ٢٠٢١ أيضًا بُشرى سارة من وكالة ناسا بأن المهمة الرائعة لمركبتها الفضائية جونو ستمتدُّ حتى عام ٢٠٢٥، وهو ما يُبشر بالعديد من الصور الخلَّابة التي ستلتقِطها أثناء دورانها حول كوكب المشتري. إن النطاقات الأفقية الواضحة على كوكب المُشتري هي في حَدِّ ذاتها تياراتٌ نفاثة، وهي تياراتٌ غازية إقليمية ناتجة عن العوامل الأساسية نفسها الموجودة على كوكب الأرض، أي التغيرات في الكثافة تبعًا لخطوط العرْض ضمن الإطار الدوَّامي لكوكب يدور حول نفسه. في هذه الحالة القائمة خارج الأرض، تكون سُحب الأمونيا والهيدروكربونات الغريبة معلَّقة في جوٍّ من الهيدروجين والهيليوم، عاليًا فوق سطح سائل. بين التيارات النفاثة للمشتري توجَد تعرُّجاتٍ ودوَّامات، وهي عواصف عمرُها مئاتُ السنين واتساعها يكفي لابتلاع كوكب الأرض بأكمله. فكلُّ شيءٍ في المشتري يتَّسم بالضخامة. وتُشير بياناتٌ جديدة من مركبة الفضاء جونو إلى أن بعض تيارات المشتري النفاثة قد يصِل عُمقها إلى ١٨٠٠ ميل، مع رياحٍ تصل سرعتها إلى ٨٠٠ عقدة. هل يمكن للمرء أن يجد سفينةً مناسبة للإبحار في كوكب له هذا الغِلاف الجوي؟ على الأرجح لا. غير أن فكري يهيم متأملًا في مثل هذه الأمور عندما أشعر بالرتابة الشديدة من معالجة الحقائق الأرضية.

لقد اكتشفتُ أن البحَّارة يشاركون أسرارهم بصراحة تامة. إذ يعترف عددٌ ليس بالقليل من زملائي بأنهم جميعًا يحلُمون حُلمًا مثيرًا للقلق يتكرَّر باستمرار؛ إذ يرَون أنهم يجنحون بسفينتهم. والأسوأ من ذلك، أن جنوحهم شديد لدرجة أنهم يجدون أنفسهم يُبحرون على طريق مُعبَّد، منعطِفين في الطرقات وهم يبحثون عن مخرجٍ للعودة إلى المياه، ويزيحون اللافتات وإشارات المرور بصواريهم أثناء مرورهم تحتَها. لقد راودتني أنا أيضًا أحلامٌ مُماثلة، أكونُ فيها دائمًا على طريقٍ مُعين بالقرب من منزل طفولتي. تُذَكِّرني هذه الرؤى بسلسلة أحلام أقدم تعود إلى ما قبل أن تتكوَّن لديَّ أدنى فكرة عن مستقبلي المِهني كملَّاح؛ إذ أرى فيها نفسي في الفضاء أقتربُ في مركبةٍ فضائية غير معروفة من كوكب لا شكَّ في أنه كوكب المشتري، حيث تدور سُحبه الزاهية الألوان أمام نوافذي وأدرك أن قوة الرياح قد أوقفتنا. يقترِب منِّي شخصٌ لا أعرفه ويطرح عليَّ سؤالًا عن خُطتنا. فلا أستطيع أن أعطيه إجابة مؤكَّدة. لستُ خائفًا، لكنني أُدرك تمامًا أنه لا يُمكننا الهبوط حتى نصل إلى وجهتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥