الطبيعة والنعمة الإلهية
في ثلاثينياته، أكَّد أوغسطينوس — ردًّا على المانوية — على سلطة الكنيسة والحرية الفردية. ولكن حتى عندما كتب عن الإرادة الحرة، نراه أعلن أنه من دون نعمة الله لإنقاذ الإنسان الساقط، لا يمكن للمرء أن يجد نفسه على طريق البر. ولم يكن هذا الإقرار بالضعف استخفافًا بالمنطق والعقل. لقد جعلته محاورة «هورتنسيوس» دومًا يتساءل عن استخدام المنطق في تعيين السعادة. وفي فترة رشده، وتحديدًا عندما بلغ السادسة والستين من عمره، كتب أوغسطينوس توبيخًا عنيفًا لعالِم اللاهوت العنيد الذي علَّمَ نفسه بنفسه وتبنَّى موقفًا إيمانيًّا بالكامل، وظن أن العقل منفصل عن الإيمان إذ قال له: «احترمِ العقلَ احترامًا عظيمًا» (الرسائل «أحببِ العقلَ بشدة»). ورغم ذلك، كان أيضًا على يقين من أن الخطيئة تشوِّه الحكم، وتُضعف عزيمة الإرادة؛ وذلك لأن الخطيئة تُكره العقلَ على التعاطي مع الأشياء الخارجية وتنأى به عن تأمل الوقائع السامية؛ ومن ثم تقتضي الحاجة وجود السلطة لغرس «بذور الإيمان» التي ينميها العقل بعد ذلك ويدعمها.
بعد أن أصبح أوغسطينوس أسقفًا، بلغت فكرة حاجة الإنسان المطلقة لعناية الرب ذروتها. وتحوي «الاعترافات» المناوئة للمانوية في جوهرها معنًى مفاده أن الإنسان المخطئ الذي تُعجِّزه الأنانية من أولى لحظات طفولته أسيرُ العادات التي أمست جزءًا من طبيعته وفطرته. ولا يمكن لغير نعمة الله أن تعيد للإنسان حريته الحقيقية؛ ولذا «فعندما يجازينا الرب على فضائلنا، فإنه بذلك يتوِّج هباته لنا» (الاعترافات، الكتاب التاسع. كرَّر أوغسطينوس هذه العبارة كثيرًا لاحقًا واقتبسها ممتنًّا مجمعُ ترنت عام ١٥٤٧).
أمست «الاعترافات» من الأعمال الأكثر بيعًا على الفور، وحظي أوغسطينوس بسببها بالكثير من الأصدقاء، وأعطت نقاده المزيد من الأسباب لنقده. ولاقى هذا العمل الممتع البديع إعجاب الأرستقراطيين الأثرياء في روما الذين بدءوا يعتقدون آنذاك أن الأمر لا يقتضي أن يكون المرء غير روماني ليعتنق المسيحية. ولكن الكتاب فُسِّرَ أيضًا على أنه يفترض مُسبَّقًا أن التنازلات الأخلاقية يمكن أن تُغتفر. وإن استطاع المرء، كما أعلن أوغسطينوس مرارًا وتكرارًا، أن ينال الزهد كهبة من الرب، أفلا يمكن أن يكون المرء متعاطفًا بشكل متسامح مع الذين لم يدخلوا في الإيمان بعدُ واكتشفوا أن هذه التبعية المتقشفة مكلفة جدًّا؟
بحلول عام ٤٠٠ كان هناك زاهد من عامة الناس في روما بريطاني الأصل يُدعى بيلاجيوس اشتهر كمستشار روحاني بين عِلية القوم. وبعد العديد من الرحلات والأسفار التي قام بها استقر في روما وكتب تعليقًا على رسائل القديس بولس بهدف تفادي مناشدات المانويين لتلك الرسائل. لقد كان التقليد المسيحي الشرقي اللاهوتي الذي ساعد على تشكيل عقلية بيلاجيوس أكثر إيجابيةً فيما يتعلق بالطبيعة البشرية من التقييم الأوغسطيني لها؛ فقد كان يخشى القنوط من ألا تَقْوَى الطاقة البشرية على الامتثال لأوامر الرب، وكذلك كان يخشى من الغفران للخطايا دون اشتراط التوبة أو التعميد. وشعر بأنه من غير المعقول أن يطلب الرب من البشر المستحيل. وإذا استقر رأي الإنسان على ذلك، فباستطاعته أن يفي بالوصايا، حتى تلك الوصية الصعبة التي تحرِّم الزنا. يكمن جوهر العبادة المسيحية في الفعل الأخلاقي لا في الإفراط في غرس المشاعر الصوفية. ألا يفتُّ في عضد أي جهود اعتقاد المرء بأن كل إنسان ورث من آدم طبيعة معيبة؟ وبدا أن القول للناس إن إرادتهم تضمحل لدرجة العجز شبه التام بالنسبة إلى بيلاجيوس باعثٌ على التراخي على نحوٍ مُهْلك؛ فما من فعل يمكن أن يعتبر خطيئة ما لم يكن مختارًا عن عمد. وفسَّرَ بيلاجيوس عالمية الخطيئة بأنها نتيجة عادة اجتماعية بعد أن ضرب آدم مثلًا كارثيًّا. ولا شك أنه دون عناية الرب لم يكن المذنب ليفعل كل ما ينبغي أن يفعل، وواجبه السير على درب المسيح. لكن العناية الإلهية مساندة لكنها غير مهيمنة بالكامل؛ فالملاحون يستطيعون أن يصلوا بمراكبهم إلى وجهتهم دون عون من الريح والشراع، رغم أن الأخير يجعل المهمة أيسر. لا بد أن هناك لحظةً ما يستقر فيها رأي الإنسان على شيء ويبذل جهدًا حقيقيًّا ويُقْدم فيه على فعل يُنسب إليه حقًّا. ومذهب أن كلَّ شيء هبة من العناية الإلهية، وفي ذلك الإرادة نفسها، بدا بالنسبة إلى بيلاجيوس موهنًا ومحبطًا إلى حدِّ الكارثة.
كان تسلسلُ الأحداث الذي أدخل أوغسطينوس وبيلاجيوس في مواجهةٍ جدليةٍ مفتوحةٍ تدريجيًّا جدًّا؛ فقد اتفق الاثنان على مسائل أكثر من تلك التي اختلفوا عليها بكثير. كلاهما كان يرى البشرية حبيسة تقليد اجتماعي آثم مؤسسيًّا. وأصرَّ بيلاجيوس على أن الخطيئة ليست موروثة ماديًّا؛ ومن ثم يستطيع المرء أن يفر منها باختياره الحر. ولقد خلق الرب القوانين الأخلاقية (هكذا قال بيلاجيوس) للضمير والإرادة الحرة وغفران الخطايا بالتعميد والتكفير لإعادة بناء العزيمة، وأهم من ذلك كله أن العناية الإلهية تُعِين الإنسان ما دام يتحلى بإرادة قويمة حقًّا. وتنير العناية الإلهية دربَ الإنسان فيعرف الحق، وتكون له عونًا إضافيًّا. ونجد أن أوغسطينوس من ناحية أخرى كان على يقين من أنه لو كانت هناك أي مرحلة في عملية الفرار كانت فيها البشرية مستقلة بذاتها، لكان الغرور والانحراف قد استحكما. وبالنسبة إلى بيلاجيوس، كان الإثم والشر حقيقةً عرضية وغير ضرورية. واعتقد أوغسطينوس أنه منذ سقوط آدم لم يعد هذا هو الحال بعدُ، وأشار إلى نكوص الإرادة الطبيعية عن الخير المحض وإخفاقها في الاستمتاع به.
نظر كلاهما لوضع الإنسان على أنه مأساة تنتهي بالموت. اعتقد بيلاجيوس أن الموت ضرورة بيولوجية. وظنَّ أوغسطينوس أن الخوف من الموت لا يمكن أن يكون عامًّا أو عميقًا إلا إذا كان عقابًا على إثمٍ ما.
لقد ظن أنه من الواضح أن الطبيعة البشرية بتكوينها الحالي يستحيل أن تكون طبيعية، ولم يكن من الممكن أن تكون كما قصد الخالق لها أصلًا. قبل سقوط آدم، كان لدى الإنسان القدرة على تفادي الرذيلة بإرادته الحرة، ولم يكن ضَعف إرادته يَحُول بينه وبين فعل الخيرات. لو لم يكن آدم قد أذنب، لعاش مع حواء إلى الأبد. ولكن حتى في الفردوس كان آدم بحاجة إلى العناية الإلهية (مدينة الله، الجزء الرابع عشر ٢٧)، لا كعامل مساعد لإرادته بل كوسيلة لا غنى عنها. في عرضه المبكِّر لسِفْر الخروج دحضًا للمانويين، شرح أوغسطينوس ذات مرة بشكل عابر روايتَي خلق الإنسان، فأوحى بأن الإنسان الذي حباه الرب بالروح ربما تلقَّى النفحة الإلهية كي ترقى مادة خلقه إلى مصافِّ الأرواح. ويوحي ذلك بأن العناية الإلهية الخارقة للطبيعة كانت إضافة للبشرية الطبيعية حتى في الفردوس، وأن هذه الإضافة هي ما فُقِدَ عند السقوط.
بدا لأوغسطينوس أن بيلاجيوس يناصر النزعة الإنسانية شبه الرواقية، حيث يؤكِّد على المُثل الرائعة لكنه يُخفِق كثيرًا في النفاذ إلى لب القلب البشري. علاوة على ذلك، رغم أن بيلاجيوس لم يكن ينتوي ذلك، فقد بدت لغته بالنسبة إلى أوغسطينوس وكأنها توحي بأن النموذج البشري الممثَّل في المسيح كافٍ للخلاص، والواقع أن الأسرار المقدسة للكنيسة قد لا تكون ضرورية حقًّا. لكن أوغسطينوس أجاب بأن المسيحيين سارعوا بتعميد أطفالهم لغفران الخطايا. لم تقتضِ الممارسة العالمية لتعميد الأطفال أيَّ دفاع قطُّ من وجهة نظر أوغسطينية؛ فقد كانت مثالًا ساميًا لسيادة العناية الإلهية الاصطفائية للرب سلفًا لأي تحرك من جانب إرادة الفرد، وهي بذلك ليست بأي حال من الأحوال مكافأة على الطموح أو الفعل الفضيل.
تُبرز المسألة الجاري مناقشتها في هذا الجزء الأخير من الجدل النقطةَ الرئيسية التي مفادها أن مذهب أوغسطينوس بخصوص فساد الوجود الأخلاقي للإنسان كان يتطلب تأكيدًا مُوَازِنًا على قوة وضرورة السبل الموضوعية للعناية الإلهية المقدمة من خلال الأسرار المقدسة للكنيسة. كانت ركيزة النعمة الإلهية ممثلة في غفران الخطايا المرهون والممنوح عبر التعميد، والمتجدد في الحياة الجديدة في القربان المقدس. وكانت انعكاسات ذلك على سلطة الكنيسة مهولة.
عندما كتب أوغسطينوس عن الإرادة الحرة قبل أن يمسي أسقفًا، توقَّع أن الأطفال الرضَّع الذين يموتون دون تعميد لن يجدوا مصيرهم في الفردوس ولا في الجحيم. واتَّهم البيلاجيون أوغسطينوس في كِبَره بالتخلي عن هذا الاقتراح الحكيم، وبالإيمان بأن الرب الرحيم العادل قادر على إرسال الرضع إلى الجحيم إذا أخفق آباؤهم في إيصالهم إلى جرن المعمودية في الوقت المناسب. وافق أوغسطينوس على أن مثل هذه الأحداث كانت أليمةً، لكنها لم تكن قَدَرًا ولا مصادفةً؛ لأنه ما من شيء كذلك في عالم الرب (هبة المثابرة). استنادًا إلى يوحنا ٣، شعر أوغسطينوس يقينًا بأنه ما من أحد يرفض التعميد عن عمد يمكن أن يدخل الفردوس. وإذا أدين الرضَّع غير المعمدين، فإن إدانتهم لن تُنسب إلى أي اختيار شخصي، بل سيكون مؤداها أن سلسال آدم اشترك في تغريب جمعي. أثبتت الضرورة المعترف بها للتعميد الخطيئة الأصلية، وأثبت العيب الذي يشوب الطبيعة البشرية الحاجة إلى الإيمان والتعميد. من الواضح أن رؤية أوغسطينوس مزجت ما بين أفكار بيولوجية عن الوراثة وفكرة المسئولية الشرعية للإنسانية. وسرعان ما اكتشف أنه أبحر في خِضَمِّ عاصفة.
لقد دفعه الخلاف الجدلي البيلاجي إلى أن يتبنَّى مواقفَ شَعَرَ النقَّاد، آنذاك ولاحقًا، أنها مؤسفة.
من بين نقَّاد أوغسطينوس برز جوليان البيلاجي أسقف مدينة إكلانوم (الواقعة على مقربة من مدينة بينيفينتو جنوبي إيطاليا) على اعتبار أنه يحظى بمكانة قريبة من مكانة أوغسطينوس؛ فقد شعر أن التشاؤم الأفريقي لا يعبر عن المناخ الطبيعي للكنائس الإيطالية. كرَّس أوغسطينوس السنوات الأخيرة من حياته لحوارات بينه وبين الأسقف السالف الذكر اختلطت فيها التعليقات المنصفة بالسباب المشين؛ فقد انتقد جوليان اللغة التي استخدمها أوغسطينوس تعليقًا على دَور الجنس في نقل صفة الإثم. لقد بدا أوغسطينوس بالنسبة إلى جوليان مانويًّا غير تائب متأثرًا بِقَدْرٍ أكبر مما أدركه بالعقد الذي عاشه أوغسطينوس من حياته تحت تعويذة ماني، وكارهًا صنع الخالق، ومنكرًا حقيقة أن الرب إذ منح الإنسان إرادةً حرة فإنه قد «حرَّر» البشرية كي تقف على أقدامها.
دافع أوغسطينوس عن نفسه بشراسة. وأحس أنه مُبَرَّأ بالطريقة التي يتعاطى بها البشر جميعًا مع الجنس باعتباره مصدرًا للمشقة الشخصية والمجتمعية. تعمل غريزة التزاوج لدى الحيوانات فحسب في مواسم معينة من العام، أما في البشر فإن هذه الغريزة توقع الإنسان دومًا في المتاعب (العظات، فرانجيب). الخزي ظاهرة عامة؛ ففي إطار العلاقة الزوجية نفسها، حيث يُعد الاتصال الجنسي عفيفًا بلا شك، عادةً ما يتم ذلك الاتصال في خصوصية تامة وفي الظلام. لقد أثار الفلاسفة الكلبيون ثائرة الرأي العام إلى أقصى الحدود إذ تزاوجوا على قارعة الطريق، لكنهم أعرضوا عن هذه الممارسة قبل عصر أوغسطينوس بفترة طويلة. وأثارت العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج القيل والقال. لقد جعلت الفجوةُ ما بين الكرامة والشهوة الحيوانية الموضوعَ مَثارَ كثيرٍ من الكوميديا. لِمَ تُسكُّ الألفاظُ المحرمة للتعبير عن مزيج الانبهار والاشمئزاز الخاص بالبشرية؟ تقع بيوت الدعارة في مناطق خاصة بالمدن لا في الشارع الرئيسي. وهناك إحساس بديهي بأن الجنسانية يمكن أن تتعارض مع الطموحات العليا.
إن نقاشاته العديدة للجنسانية تخلو بشكل واضح من الحشمة، وكانت صريحة جدًّا لدرجة أنه كان يخشى أن يطَّلع عليها أصحاب العقول التي لا ترقى لجدية الموضوع قيد النقاش. اطلع أوغسطينوس على الطب كقسم من أقسام العلم، وتضمَّنت مكتبته كتبًا دراسيةً إكلينيكية، وبينما وضع ردوده على جوليان أسقف إكلانوم، درس أفضل كتاب دليلي لعلم الأمراض النسائية. على أي حال، ما من أحد استطاع أن يتهمه بكونه عزبًا عفيفًا لا يعي شيئًا من أمور الزواج التي يتحدث عنها. لقد شعر أوغسطينوس انطلاقًا من كونه قَسًّا بأنه يجب عليه — بل وحق عليه — أن يملي على المسيحيين المتزوجين ما يجوز أو، في عيد الصوم الكبير، ما لا يجوز لهم القيام به في فراشهم.
كما رأينا من قبل، كان تقييم أوغسطينوس للجنسانية يمتاز بالتذبذب ما بين تنازله الشخصي وتقييم كاثوليكي إيجابي لجمال الجسد البشري الذي منحه الخالقُ للبشر (على سبيل المثال، المراجعات، الجزء الثاني). لكن التقييم الأكثر إيجابية لم يستطع استبعاد حقيقة التجربة التي مفادها أنه حتى بالنسبة إلى المتزوجين يمكن أن تكون للجنس مشكلاته؛ فقد يعصي الجسدُ الإرادةَ والعقلَ، ورأى أوغسطينوس (مُتَبَنِّيًا فكرةً من فرفوريوس) هذه الحقيقة كعقوبة لمقاومة الروح للخير الإلهي؛ وعليه، شدَّد أوغسطينوس على أن الفعل الجسدي كان أداة توريث الطبيعة البشرية المعيبة عقب السقوط. ولو لم يكن ذلك هو الحال، لما اعتَبر العهدُ الجديد الحياةَ الزوجية أدنى درجة من الخير الأعظم للعزوبية، وهي وجهة النظر التي يشارك فيها أوغسطينوس فرفوريوس أيضًا؛ ولذا «فإن أسَّ الرذيلة كلها يكمن في إثارة الشهوة» (عن شمائل الخطايا وغفرانها).
اقترح أوغسطينوس بجرأة أن هذه الفرضية تفسِّر علَّة ميلاد المسيح من عذراء (وهي المعجزة التي أثارت الكثير من انتقادات الوثنيين شأنها شأن البعث). ومن مريم العذراء ورث المسيح «تشابه الجسد الخطَّاء» (وهي عبارة القديس بولس)، وليس جسدًا معيبًا بفعل الخطيئة الأصلية. وبذلك أقحم أوغسطينوس فكرة مؤثرة وقاتلة في علم لاهوت القرون الوسطى؛ ألا وهي أن الفعل الجنسي يستحيل القيام به دون مسحة من الشراهة. في القرن الثاني عشر تَعَرَّت الفرضيات المسبَّقة الكامنة في وجهة النظر هذه، وتعرَّضت لنقد شديد من قِبل بيتر أبيلار وروبرت أسقف ميلون.
ومع ذلك، كان أوغسطينوس على دراية بأنه بحاجة إلى تحصين موقفه التقشفي من المغالاة والغلو. وعندما أنكر، نحو عام ٣٩٠، ناقدٌ للزهد والتقشف يُدعى جوليان (وهو نفسه ناسك) أن العذرية من هذا المنطلق أسمى أخلاقيًّا من الزواج، أمسى هجوم جيروم الضاري عليه ترنيمة كراهية ضد الجنس والزواج؛ حتى إن تهم تبنِّي المانوية أصبحت تبدو تدريجيًّا معقولة على غير المألوف. لتفادي تبعات الأفعال الطائشة الأكثر جسامة لجيروم، كتب أوغسطينوس عام ٤٠١ أطروحةً «حول الزواج الصالح». كانت هذه الأطروحة موجهة للراهبات ومحذِّرة إياهنَّ من أنه رغم اختيارهن لحياة أسمى حقًّا، فلا يتعين عليهن ازدراء منظومة الزواج المسيحي. إن المتعة الحسية التي تصاحب لا محالة الفعلَ الجنسي ينبغي أن تتمايز عن الشبق الذي يمثِّل تطبيقًا خاطئًا للنزعة الجنسية. ولقد عرَّفَ ثلاثة مكونات صالحة للزواج تعريفًا لا يتضمَّن الاستمتاع المتبادل. وكانت تلك المكونات التناسلَ والإخلاصَ المتبادل و«السرَّ المقدس» أو قاعدة عدم قابلية الانفصال (أي حظر الزواج مجددًا بعد الطلاق أو الانفصال). ولطالما شعر أوغسطينوس بالتردد حيال المكون الأخير المتعلق بعدم قابلية الانفصال، في ضوء إنجيل متى ٥: ٣٢ ورسالة بولس إلى أهل كورنثوس ٧: ١٠-١١، فتبنَّى تدريجيًّا موقفًا متزمتًا ومتشددًا في المراحل اللاحقة للخلاف البيلاجيِّ.
رأى أوغسطينوس أن الزواج يقوم على أساس قَبول الزوجين وليس على أساس الجِماع (وقَبِلَ وجهة النظر السائدة في القانون الروماني). وبينما كان التناسل هو الغايةَ من الفعل الجنسي في المقام الأول، حكم أوغسطينوس أنه «من الجائز» أن يستمتع الزوجان بالجماع دون أن تكون لديهما نية التناسل. وشأنه شأن أرسطو والقديس بولس، شدَّد أوغسطينوس على الواجبات المتبادلة بين الزوجين. وأوصى بتحري أكبر قدر ممكن من ضبط النفس للأزواج المسيحيين الجادين النبلاء، وظن أنه ما من شيء أجمل من الصداقة الخالية من الاتصال الجنسي بين كبار السن. لكنه سَلَّمَ عن طيب خاطر بأن الوازع الجنسي في الزواج المسيحي «يُسْتغل استغلالًا جيدًا»، بل وأصر على ذلك. والشيء الذي لم يستطع أن يحمل نفسه على قوله هو أنَّ ما يُسْتَغلُّ بحدِّ ذاته محايد أخلاقيًّا أو فعل طبيعي إلى أقصى حدٍّ بالنسبة إلى الطبيعة الحيوانية التي غرسها الرب في الإنسان. لكن التقليد الأفلاطوني جعله ينزع إلى تعريف جوهر الإنسان بطريقة كادت تطمس الطبيعة المادية لهذا المخلوق. واستطاع أن يستشهد بالتعريف المشهور لأرسطو للإنسان باعتباره حيوانًا فانيًا عقلانيًّا، لكنه فضَّل بالتأكيد أن يتكلم عن الإنسان كروح متحدة مع جسد، أو روح تستخدم جسدًا.
ثمة نقطة محورية أخرى أجبر الخلاف فيها أوغسطينوس على توظيف لغة أكثر قسوة مما وجدها كثيرون؛ ألا وهي مبدأ القضاء والقدر ومسألة المثابرة المتعلقة به. شعر الناس أنها مسألة معقدة جدًّا لدرجة أن مجمع ترنت بعدها بسبعة قرون تعاطى معها بعناية شديدة، وأصدر أحكامًا لم تساعد على إزالة مواطن اللبس الشديدة فيها (وبذلك فتح المجلس الباب على مصراعيه للخلاف الجنسيني «نسبةً إلى المذهب القائل بفساد الطبيعية البشرية»). فَهِم أوغسطينوس أولوية النعمة الإلهية على اعتبار أنها تقتضي النتيجة الحتمية أن الرب لم يستطع أن يسمح لصفوته في نهاية المطاف بالخروج من نعمته. لا بد أن يوحي القضاء والقدر بأن الوصول إلى الوجهة المقصودة سيتم؛ ولذا، فإن المعرفة البشرية المسبَّقة ليست سببية، أما معرفة الرب المسبَّقة فهي سببية. ولم يستطع أوغسطينوس أن يتقيد بالفكرة التي مفادها أن القضاء والقدر قائمان على فضائل متوقعة، وهي الفكرة التي كانت شائعة إلى حدٍّ كبير بين علماء اللاهوت اليونانيين المعاصرين له. وما من شيء في الإنسان سواءٌ في الماضي أو الحاضر أو المستقبل يمكن أن يمثل العلة الباعثة أو المستأهلة لاصطفاء الرب. اضطر أوغسطينوس أن يواجه الصعوبة الشديدة الممثلة في أن هذه الفكرة تتعامل مع الرب باعتباره مستبدًّا متعسفًا ومبهمًا بقوله المأثور إن الرب لا يقضي ويُقَدِّر وحسب، بل ويضفي على الخلق فضائلهم أيضًا. ووجد أن المسيح هو أفضل مثال على وجهة نظره هذه. فبما أن المسيح متَّحد مع الرب، فخيريته يستحيل أن تكون عارضة أو مزعزعة بأي حال من الأحوال. ولا يجوز أن يُذنب، أما نحن فيجوز أن نذنب. ولكن إذا كنا ضمن المصطفَين، فلا شك أننا سنرقى من اقتراف الذنوب للوفاء بالغاية المحددة مسبَّقًا للرب. و«المسيح وناسوته الكامل» مُقَدَّر مسبَّقًا.
سلَّمَ أوغسطينوس بأن المصطفَين لا يستطيعون الجزم أبدًا إن كانوا مصطفين حقًّا أم لا ما لم يكن ذلك بالاصطفاء الخاص استثناءً، وأصر على وجهة نظره هذه. فمن الممكن أن يكون هناك اختبار تجريبي وحيد للاصطفاء، وأن يكون هذا الاختبار ضروريًّا لكنه ليس كافيًا؛ ألا وهو المثابرة حتى النفَس الأخير والموت في حالة من النعمة. لكن الرب وحده يعرف من هم أصفياؤه؛ فالمثابرة هبة غير مستحقة للنعمة، وكذلك أيضًا الالتجاء الإرادي للرب إيمانًا وتوبةً.
سرعان ما أثارت مذاهب أوغسطينوس نقدًا بين الرهبان في شمال أفريقيا ولا سيما جنوبي بلاد الغال في مارسيليا وليران. وتلقى دعمًا مؤزرًا من إقليم آكيتين الفرنسي (على مدار عدة قرون، أثيرت نسبة كبيرة جدًّا من الخلافات والجدل حول مذهب أوغسطينوس المتعلق بالقضاء والقدر على الأراضي الفرنسية).
ناصر البعضُ المذاهب الأوغسطينية السامية المتعلقة بالاصطفاء بين الحين والآخر في التاريخ المسيحي؛ حيث دعمها جوتشالك في القرن التاسع وَجون كالفين في القرن السادس عشر وَجانسينيوس في القرن السابع عشر. ودائمًا ما حرَّض هؤلاء على المعارضة التي سعت لتفادي البديل البيلاجيِّ، لكنها في الوقت نفسه حفظت حرية الإرادة والمسئولية البشرية. وقد يمثِّل حكمُ أوغسطينوس الشخصيُّ على النقاش المتعلق بالنعمة الإلهية والإرادة الحرة في كتابٍ خَطَّه للقديس سيمبليكيوس أسقفِ ميلانو؛ موجزًا للمشكلة من منظور معارضيه، المناوئين لبيلاجيوس أنفسهم، وبحسب رؤيتهم للمسألة: «في محاولة حل هذه المعضلة، بذلتُ جهودًا مضنية على حساب الحفاظ على حرية اختيار الإرادة البشرية، لكن النعمة الإلهية غلبتني» (المراجعات).
أمسى أوغسطينوس يتمتع بأثر واسع النطاق خلال حياته نتيجة كتاباته التي انتشرت وشاعت حيثما كانت اللاتينية لغةً مقروءة. وجرى العرف أن خاطبه مراسلون لا يعرفهم طالبين إليه حلَّ الألغاز التي تواجههم أو آملين (عادة عبثًا) أن يقبل جهودهم اللاتينية الخاصة. حتى القديس جيروم أرسل إليه في العام الأخير من حياته رسالةً كلها ثناء وإطراء من بيت لحم يخبره فيها أنه «أعاد بكتبه فعليًّا إرساء قواعد العقيدة القديمة»، وأن الهجمات الحاقدة التي شنَّها المهرطقون عليه دليل كافٍ على إنجازه (الرسائل). وكان أوغسطينوس محرجًا دومًا من معاملته بوصفه «مرجعًا وحجةً» من منطلق أن أحدًا لا يتوقع منه تقديم حجج على ما يدعيه. فالكتاب المقدس، وحيثما سَكَتَ هذا الكتاب عن شيء أو كان ملغزًا، والإجماع المسكوني فحسب كان لهما مثل هذه السلطة لدى المؤمنين. علاوة على ذلك، كان النموذج المثالي بالنسبة إليه يتمثل في مواصلة تصحيح وتحسين فهمه إلى يوم الممات. لم يكن أوغسطينوس عمومًا رجلًا يدافع عن موقفٍ لمجرد أنه سبق أن تبنَّاه من قبل فحسب؛ فقد كان أسلوب تعاطيه مع نقاده عادة ينطوي على بيان الصعوبات في موقفهم واقتراح أنه يفضل أن يعيش متبنيًا موقفه الشخصي. وكانت أعماله دومًا تعكس الاستقلال النقدي لعقله، وربما كان موطن قوته هو قدرته النادرة على الوصول إلى لبِّ مسألة معقدة. ودون أن يكون فيلسوفًا فنيًّا من وجهة النظر المهنية، كان عقله مُجَهزًا، وتظل كتاباته ذات أهمية كبيرة لأصحاب الفكر الفلسفي المعنيين بالتقليد الأفلاطوني. ولقد توغَّلت الكثير من أعمال أفلوطين في دمه، لكنه استمر أستاذًا بارزًا من أساتذة الخطابة الإقناعية. ورغم تحوله من الخطابة إلى الفلسفة في عام ٣٨٦، كان أثر الترسيم عليه بعدها بخمس سنوات أن أعاده إلى موقف أَمْسَتْ فيه الخطابة مهمة بالنسبة إليه، وقد سيطر عليه إيمان جديد بأنه ليس نصيرًا لمصلحة بشرية ما وحسب، بل ومدافع عن حقيقة الرب نفسها. ولم يغادره قطُّ افتتانه بالكلمات.
كتب إدوارد جيبون بازدراء عن أوغسطينوس قائلًا: «معرفته مستعارة إلى حدٍّ كبير، وحججه أغلب الظن خاصة به.» لكن أي باحث معاصر من شأنه أن يزيل هذا الازدراء ويعكس الحكم الذي أصدره جيبون عليه؛ فقد علَّم أوغسطينوس نفسه بنفسه إلى حدٍّ كبير، وكانت بين يديه مكتبة كبيرة تزخر بالكتب الكلاسيكية والأدب المسيحي (ومن ذلك أعمال لعلماء لاهوت يونانيين)، وكان ذهنه حافلًا بالأدب الكلاسيكي، وكان يعرف كيف يستغل كتبه. أما بالنسبة إلى حججه، فكثير منها مستعار في حقيقة الأمر، ولا سيما من فرفوريوس وشيشرون الذي لم يستطع أن ينسى قطُّ محاورته «هورتنسيوس». ولم تعنِ استعارته من الأفلاطونيين الجدد أن ديْنَه لم يكن ممتزجًا بتحليل نقديٍّ.
لقد أوضح ازدراء جيبون لأوغسطينوس العدَاء العام الموجَّه نحو السمة الأوغسطينية من جانب التنوير في القرن الثامن عشر. كانت هناك أسباب لهذا العداء؛ فالمشاحنات المريرة ما بين معسكر الإصلاح والمعسكر المناوئ له، التي أسفرت عن حروب طويلة ألحقت أضرارًا جسيمة، كانت في الأساس عبارة عن خلافات على تفاسير مختلفة لمذهب أوغسطينوس المتعلق بالكنيسة والنعمة الإلهية. ودار الخلاف الجدلي في القرن السادس عشر حول التبرير بالنعمة الإلهية وحدها بشرط الإيمان وحده (وهو الخلاف الذي بدا مملًّا وغير ذي صلة بالشخصيات العقلانية البارزة في القرن الثامن عشر) في إطار للأفكار أوغسطينيٍّ ومتعلِّقٍ بالعصور الوسطى في طبيعته، وكان فصلًا جديدًا في النزاع الدائر حول العلاقة ما بين الطبيعة والنعمة الإلهية. في القرن السادس عشر، الْتَجأ طرفا النزاع إلى أوغسطينوس. وكان قرار مجمع ترنت الخاص بالتبرير (١٥٤٧) خليطًا من عبارات أوغسطينية، وكان معاديًا لبيلاجيوس بشدة، حتى إن البروتستانتيين لم يستطيعوا أن يحملوا أنفسهم على الإيمان بصدقه وإخلاصه. وأهم من ذلك كله أن الإنكار الأوغسطيني للقدرة البشرية على تحقيق الكمال كان له ممثلون، ولا سيما بين أتباع الينسينيَّة والكالفينية، قامت حركة التنوير كرد فعل واضح ضد وجودهم.
مرة أخرى نجد في أوغسطينوس مثالًا للنموذج الصوفي؛ فقد التمست حركة الإصلاح البروتستانتية دعمًا واسعًا من العامة بكراهيتها السياسية للنموذج الرهباني الذي عارضه المعارضون لهيمنة القساوسة على اعتبار أنه يستقطب ثروات طائلة دعمًا لمؤسساته. ورغم أنه ليس هناك توتر جوهري بين المذهب الصوفي التقشفي في المجتمع ومبدأ التبرير بالنعمة الإلهية بشرط الإيمان، حاول لوثر أن يحاجج بأن العهود الرهبانية تتعارض مع مسيحية العهد الجديد. شاركت حركة التنوير في هذه الكراهية أيضًا، لكنها قبلت المعتقد الأوغسطيني المعارض للإصلاح، الذي مفاده أن الإنكار التقشفي للخيرات الطبيعية كان يُدَرَّس في العهد الجديد. ورأى فولتير وجيبون هذا التصوف المتأصل في المسيحية كداعٍ وجيه لرفضها ونبذها: فإنجيل النعمة الإلهية والسلام لم يفعل شيئًا يجعل العالم مكانًا أكثر ثراءً من الناحية المادية، والأدهى أنه أحبط الأبهة العسكرية.
من المؤكد أن أوغسطينوس اعتبر المسيحية الأصلية أخرويةَ الطابع؛ فهي تستقي نقاط مرجعيتها ومعاييرها من اعتبارات تتجاوز عملية الزمن والتاريخ. ورغم أنه كان مقتنعًا بأن هذا العالم هو عالم الرب، فإنه لم يؤمن بأن الحياة البشرية يمكن أن تنتمي بالكامل للنظام العلماني والمادي، أو أن القيم الرئيسية يمكن أن تتمثَّل في السلطة والكرامة والثروة والجنس. وقد رسَّخ شيشرون في ذهن أوغسطينوس ترسيخًا تامًّا فكرة أن هذه القيم يستحيل أن تكون الطريق إلى السعادة، سواء للفرد أو للمجتمع.