الفنون التحررية
ربما لأن الأفلاطونية أسهمت بقدر كبير في هدايته إلى المسيحية، لم يُبادر أوغسطينوس قط بوضع حدود واضحة وحاسمة بين الفلسفة وعلم اللاهوت؛ فهو لم ينظر إلى المنطق الفلسفي كوصيف للعقيدة أو كداعر خطير مهمته إغراء العقل بافتراض أن باستطاعته الوصول إلى غايته المطلقة دون مساعدة الرب ورعايته. عرَّفَ أوغسطينوس الموضوع الأساسي للفلسفة بأنه «دراسة الرب والروح البشرية» (مناجاة النفس). يلاحظ المرء استبعاد العالم المادي؛ فالدافع الذي أدى بالناس إلى التفلسف، كما وصف أوغسطينوس بأسلوب شيشرونيٍّ، هو ببساطةٍ البحث عن السعادة.
ينتشر علم الوجود الأفلاطوني، أو مذهب الوجود وطبيعة الأشياء الوارد وصفه في الفصل الأخير، في شتى كتاباته. هناك فقط بعض الجوانب التي عدَّلَ تفاصيلها؛ الأمر الذي يعطينا الانطباعَ بأنه بقدرِ ما قَبِلَ الحجج الأفلاطونية، قد حوَّلها دومًا إلى نتائج تُحددها عقيدته. وربما كان من الأصح أن نقول إنه لم يجد منطقًا كافيًا في الانفصال عن التقليد الأفلاطوني إلا إذا لم يكن متوائمًا مع مقتضيات العقيدة الكاثوليكية. بطبيعة الحال، فقد اعتبر أوغسطينوس الأفلاطونيين الوثنيين مخطئين في قبولهم الشركَ بالله وتعدد الآلهة، ودورات العالم الخالدة، وتناسخ الأرواح. ولقد كان الاعتقاد القديم بالتناسخ قدريًّا بالكامل بقدر مبالغ فيه، لدرجة أنه لم يتوافق مع مفهوم الرب باعتباره القوة الإبداعية المتفردة العاملة بشكل تخليصيٍّ كي تجلب خلقها العقلاني إلى غايته الحقيقية الممثلة في رفقة الرب.
إن الخلق «مشاركة» في الوجود. ويوحي هذا اللفظ بالاشتقاق. وهو مميِّز لما يُشتق، وما يملكه المرء حينئذٍ يكون متمايزًا عن كينونته. بالنسبة إلى المخلوقات، الوجودُ شيء والتحلي بالإنصاف والحكمة شيءٌ آخر. ولكن الوجود بالنسبة إلى الرب يعني الإنصاف والخيرية والحكمة في الوقت نفسه؛ فالإنسان يمكن أن يكون موجودًا دون أن يتحلى بالإنصاف أو الخيرية أو الحكمة، أما الرب فلا؛ فالرب «هو من يملك». عبَّرَ أفلوطين عن النقطة نفسها بلغة أرسطية قائلًا: في «المادة» الإلهية (أي الجوهر الميتافيزيقي) لا يجوز أن تكون هناك أي عوارض. واتفق أفلوطين وأوغسطينوس على أن الفئة الأولى وحسب من الفئات العشر، ألا وهي المادة، هي التي تنطبق على وجود الرب (الاعترافات).
وجد أوغسطينوس مقدمة إنجيل يوحنا (وهي جزء من العهد الجديد أبهر الفلاسفة الأفلاطونيين الحداثيين) تصريحًا نبيلًا للصورة العالمية الأفلاطونية، ولنور الرب الذي يشع في الظلام ليعيد العالم المستوحش إلى العوالم العليا. ولكن، إذ وجد المسيحية تُعبِّر عن الحقيقة بشكل أفلاطوني جدًّا، لاحظ أوغسطينوس نقطةً خلافية شديدة؛ إذ لم تقل «كتب الأفلاطونيين» إن الكلمة صارت جسدًا. لقد كان مبدأ الوحي الفريد في سياق حياة محددة فكرةً مسيحيةً اضطر ماني إلى تبديلها تبديلًا جذريًّا. بالنسبة إلى أفلاطونيٍّ وثنيٍّ، بدت خصوصية تلك الفكرة غير متوافقة بشكل فاضح مع الثبات الإلهي والسريان الشمولي للعناية الإلهية في الكون ككل. لم يفكر الأفلاطونيون في وجود غاية إلهية تعمل عملها في فوضى التاريخ وخلالها، ومفاهيمهم الخاصة بالزمن كانت دورية لا خطيَّة؛ بتعبير آخر، في فترات زمنية فاصلة كبيرة يرجع تكوين النجوم إلى الموضع نفسه، وحينئذٍ تبدأ الأشياء كلها مجددًا في المسير في نفس الحلقة المفرغة. إن مفهوم التجسيد الفريد الذي يدعو الإنسان لاتخاذ قرار وجودي تترتب عليه تبعات أبدية يعني أن الأفلاطونية لم تكن شيئًا يستطيع أوغسطينوس أن يتركه دون تعديل. ومن ناحية أخرى، فقد شعر هو أيضًا أنه من الضروري تفسير التجسيد بلغة العناية الإلهية الشمولية كخطوة محورية باتجاه غاية التاريخ ومفتاح لفهم معناه.
خلال الفترة التي اهتدى فيها للمسيحية، كان أوغسطينوس في نحو الثالثة والثلاثين من عمره، وكان قد أمسى أستاذًا مرموقًا في الأدب والأسلوب البلاغي. ولو كان قد سعى وراء الوظيفة العلمانية التي حلم بها، لَمَا عَرَفتِ الأجيال اللاحقة عنه الكثيرَ بخلاف اسمه، ربما فقط باعتباره مثالًا مذهلًا للتحول الاجتماعي الذي قام به شاب بارع مثله متحدِّر من عائلة إقليمية مُعدمة من ريف مملكة نوميديا الأمازيغية، والذي كد في عمله وحالفه الحظ إذ استمتع بشيء من الرعاية المفيدة لمستقبله. الآن تخلى أوغسطينوس عن كل هذا، وكان عليه أن يجد الإجابات الشافية عن الأسئلة الملحة. وكانت مهمته الأدبية الأولى البحث في أسئلة شائكة عن الشر والقدَر التي فرضها عليه في فترة من الفترات المانويون. وكان عليه أيضًا أن يرد على المفكرين المشككين الذين كانوا، خلال فترة حرجة، منسجمين مع ذهنه بشدة.
وفي كاسيكاسيوم، كتب أيضًا «مناجاة النفس» (استحدث أوغسطينوس هذه التسمية)، وهي عبارة عن محاورة سَلَّمَ أوغسطينوس — بحثًا عن اليقين خاصة فيما يتعلق بخلود الروح — نفسَه فيها إلى إملاءات العقل. ولقد أدَّت تحفة أدبية ذات طابع أفلاطوني حديث تحديدًا من الجدل به إلى تأكيد أن الحقيقة الحسابية صحيحة بشكل سرمديٍّ، وأن العقلَ الذي يعرف هذه الحقيقة أيضًا يشارك في هذا السمو للتسلسل الزمكانيِّ، وهو الرأي المُشار إليه على استحياء في أعمال أفلاطون (مينو)، وطوره إلى حدٍّ كبير أفلوطين. وفي مزيج خصب من العبارات المستعارة من شيشرون، تمزج «مناجاة النفس» ما بين لغة الإنجيل وخليط قوي من الوجودية الأفلاطونية الحديثة. ثمة إشارة مؤكدة بالاسم لكلٍّ من أفلاطون وأفلوطين، ووجود الأفكار المستخلصة من فرفوريوس محتمل جدًّا. يقول أوغسطينوس هنا إنه ما من سبيل وحيد لينال المرء رؤيةَ الرب؛ ولكن على الأقل يتعين على المرء أن يفرَّ من كل شيء مادي، ويُنحي بحثه عن الإشباع؛ سواء إشباع الحب الجنسي «حتى الذي يكنُّه المرء لزوجة متعلمة ومتواضعة»، أو إشباع المال أو السمعة والشهرة، كما يتعين عليه تدريب ذهنه على الوقائع غير المرئية بواسطة عملية شبيهة بالتجريد الهندسي؛ بحيث لا يفكر المرء في المربعات ذات الأحجام المختلفة، بل في المبادئ التي بموجبها تمتاز المربعات بشكلها المربع. وبعدئذٍ، يجوز أن يبدأ المرء في فهم السمو الغامض للرب الذي تجد فيه الروح الخالدة المطهرة غايتها الحقيقية. والطريق إلى التطهير الداخلي يكون بالإيمان. إن الاقتراح الأخير هو الوحيد الذي ربما كان سيثير حيرة فرفوريوس.
تمزج محاورات كاسيكاسيوم ما بين الثقة بأن ثمة نظامًا قدريًّا وانعدامًا للثقة بالنفس حيال قدرة الإنسان على فهم ذاك النظام في كل الحالات. ويُنظر إلى الثقة بالقَدَر بأكثر من كونها لغزًا فكريًّا: «ستُمنح الرؤية لكلِّ مَن يعيش عيشة كريمة ويُحسن الدعاء ويكد في دراسته» (حول الحكم). ولكن، من المقترح أنه في خضم كل هذه التنوعات وتوترات التجربة، يمكن أن يكون هناك انسجام مطلق، وجمال يكمن في النقائض والتباينات كما في صورة مرسومة تحوي من الألوان الفاتح والداكن؛ وعليه، فمن المحتمل أيضًا أن تكمن وحدة الحقيقة فيما وراء الموضوعات المتعددة للمعرفة البشرية بمناهجها المختلفة للبحث والاستقصاء.
تجلَّى الاهتمام التعليمي لدى أوغسطينوس تجليًا مختلفًا في فترة نضجه، ولا سيما في واحد من كتبه الأكثر أثرًا، وأول الكتب التي طبعت في القرن الخامس عشر. كان هذا الكتاب بعنوان «حول الثقافة المسيحية»، وراجع أوغسطينوس الكتاب وأضاف إليه قرب نهاية حياته. ولقد حُفِظَت مخطوطة النسخة الأولى التي كتبها أوغسطينوس في حياته، وهي موجودة الآن في مدينة سانت بطرسبرج. ويتناول هذا العمل التمحيص في المهارات الضرورية لتفسير الإنجيل تفسيرًا صحيحًا وبشكل مُقْنِع. واستغل أوغسطينوس «كتاب القوانين» لعالم اللاهوت المنشق تكنيوس ليصوغ شرائع التأويل التي ستتفادى الذاتية، مثلًا في تحديدِ ما هو حَرْفيٌّ وما هو مجازي، وفي حالة المجازي، تحديد المعنى المستتر. لقد أفصح الإنجيل حقًّا عن حكمة الرب؛ لكن العلوم البشرية كانت غير ذات صلة تمامًا باكتشاف تلك الحكمة وبيانها؛ فمفسرو الإنجيل الواثقون بوحيهم الداخلي الخاص ارتكبوا أخطاءً كثيرةً وفادحةً. ويسجل أوغسطينوس بشيء من الدهشة أن ثمة مسيحيِّين معاصرِين في أفريقيا لم يقرءوا شيئًا بخلاف الإنجيل، ولا يتحاورون غالبًا إلَّا بترجمات غريبة للإنجيل اللاتيني القديم، وذلك استباقًا لإنجليزية جمعية الأصدقاء الدينية. كان على يقين من ضرورة إجراء دراسات أكثر توسعًا؛ فالعالِم بالإنجيل بحاجة إلى معرفة شيء من التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية والرياضيات والمنطق والبلاغة (كيفية الكتابة والتحدث بوضوح وبشكل ملائم). وقد تكون هناك أماكن تساعد فيها معرفة طفيفة بالتكنولوجيا المُفَسِّر. ولا شك أن معرفةً بسيطة باللغة اليونانية كانت ذات قيمة قصوى في التحقق من الترجمات والقراءات المختلفة.
لم يدرس أوغسطينوس العبرية قط، رغم أنه كان يفهم الكلمات القرطاجية التي يتحدثها الفلاحون، وكان يعرف تمام المعرفة أنها لغة سامية من أصل واحد هي والعبرية. ووفر عليه وجوبَ تعلم العبرية نوعًا ما إتقانُ معاصره الأرفع مكانة وصديقه بالمراسلة جيروم لها، وكذلك لأنه كان على يقين من أن الترجمة اليونانية للعهد القديم التي أنجزها سبعون حبرًا (السبعونية) لم تكن أقل إلهامًا من النسخة العبرية نفسها. ولقد أزعجه الإنجيل اللاتيني الجديد لجيروم (النسخة اللاتينية للإنجيل) كلما وجد كلمات مألوفة منذ زمن طويل مُبدلة بلا داعٍ. فهذا أمر يستاء له العلماني الذي دائمًا ما يكون عدائيًّا تجاه التغييرات الطقسية.
لقد عكس العمل المتعلق بالثقافة المسيحية التوقير الخاصَّ الذي كان أوغسطينوس يكنُّه للإنجيل. فقد أَنكر صراحةً أن الكتاب المقدس يمثل الوسيط الوحيد للوحي الإلهي (العظات)؛ لكنه مَثَّلَ مبدأ السلطة الذي بدا مركزيًّا للإيمان المسيحي بطريقة إلهية معينة للخلاص للبشرية الجاهلة الضالة. لقد اعتمدت سلطة الإنجيل والكنيسة على الدعم المتبادل، واستخدامُه في الكنائس حدَّد قيود الشريعة. ولقد رسَّخَت نصوص الإنجيل الطبيعة المقدسة التكوين للكنيسة.