مجتمع فلسفي
بحلول خريف عام ٣٨٨، وبعد القداس الذي أُقيم على روح مونيكا في أوستيا، عاد أوغسطينوس إلى موطنه أفريقيا (التي لم يُغادرها قط بعد ذلك)، واستقر في مدينته الأم طاغست بغيةَ إجراء تجربة على الاعتزال التقشفي مع القديس أليبيوس وغيره من الأصدقاء. التقى الجمع العلماني بانتظام لأداء الصلاة اليومية ولتلاوة سفر المزامير. (لا يسعنا التأكيد بما يكفي على أهمية سفر المزامير لروحانية أوغسطينوس؛ فقد ثبت أن اقتباسات الترانيم محورية لبنية «الاعترافات» نفسها.) وفيما بين الساعات التي كرسوا أنفسهم فيها للتنسك والعبادة، ناقشوا شيشرون والقديس بولس والأفكار الأفلاطونية. كان الجمع الأكثر طمأنينة، تأمليًّا في روحه، وأكاديميًّا نوعًا ما، ومعتمدًا على أوغسطينوس باعتباره القائد المعترف به الذي يقدم أجوبة عن الأسئلة التي تُثار في النقاشات. وتم تداول هذه الأجوبة كتابةً، وجُمِعَت لاحقًا في كتاب شهير بعنوان «حول ٨٣ مسألة مختلفة». وتشمل المسألة السادسة والأربعون بيانًا مهمًّا عن نظرية الأفكار لأفلاطون يصون التوحيد الإنجيلي بزعمه أن المسلمات هي «أفكار في عقل الرب». لم يكن الجمع الطاغستي يُسمى دَيرًا، وتقاسم «مجتمع الأخوة»، كما أطلقوا عليه، الممتلكات وعاشوا عيشة بسيطة مقتصدة، لكن لم تكن لديهم عهود رسمية ولا ملابس متطابقة، ولا قاعدة محددة أو شرط معين للطاعة، وكانوا أكثر ثقافة من أغلب مجتمعات الرهبان اللاحقة عليهم. لقد كان هذا فعليًّا أول مجتمع رهباني في أفريقيا اللاتينية.
في هذا المجتمع العلماني، عاش أوغسطينوس عامين ونصف العام، وكانت فترة مثمرة لكتاباته. ولقد ميَّزَ التحولُ التدريجي من تدريس العلوم الحرة إلى الانخراط الجاد في علم اللاهوت كُتُبَه الستة «عن الموسيقى». وقد خصص خمسة من الكتب الستة للنقاش التقني المتعلق بالوزن الشعري والإيقاع. وكانت نيته لاحقًا أن يستمر في دراساته بمناقشة الجوانب النظرية للنغم، لكنه لم يكتب هذه المناقشة قط، وتُرك هذا المجال مفتوحًا للفيلسوف بوئثيوس بعدها ﺑ ١٢٠ عامًا. (لم يكن التأليف العملي للموسيقى مسعًى مناسبًا للمفكر والنبيل في القِدم؛ فقد تُركت تلك المهمة للرعاع من الرجال والنساء الذين يُستعان بهم لتسلية النبلاء بعد العشاء).
والكتاب السادس عن الموسيقى له طبيعة مختلفة، وكان يتمتع بشيء من التداول المستقل. كان هذا الكتاب إعادة صياغة أوغسطينوس لإيمان أفلاطون بأن المبادئ الرياضية تكمن وراء كل شيء في الكون، وأنها الدلائل الأساسية لنظامه القدريِّ. ولا سيما في محاورة طيماوس، درَّسَ أفلاطون أن بنية الروح نفسها تتحدد بنسب مرتبطة مباشرة بنسب الفواصل الزمنية في الموسيقى؛ على سبيل المثال، النغمة الثُّمانية تقع في الفاصل ما بين ٢ و١، والنغمة الخماسية ما بين ٣ و٢، والرباعية ما بين ٤ و٣، والنغمة الكاملة تستقر ما بين ٩ و٨. وحقيقة الأمر أن النِّسَب نفسها تحكم المسافات بين الكواكب.
ويذكر أوغسطينوس أكثر من مرة أنه كان سريع التأثر بصوت الموسيقى؛ ففي ميلانو، حيث اعتاد في بداية الأمر على زيارة الكاتدرائية ليبدي إعجابه بالمهارة الخطابية لأمبروسيوس، لم يجد نفسه منبهرًا وحسب بمحتوى النقاشات، بل كذلك بإنشاد المزامير. كان يعلم أن الموسيقى المناسبة قادرة على استحضار معنى الكلمات في القلب. عندما كان شابًّا يافعًا، وجد أوغسطينوس الموسيقى لا غنى عنها للحياة كمصدر للسلوان. وعندما بلغ رشده، لم يكن لديه الوقت الكافي لذلك على أي حال، لكنه ظلَّ مقتنعًا بأطروحة أفلاطون القائلة بأن ثمة «تناغمًا خفيًّا» (الاعترافات، الكتاب العاشر) ما بين الموسيقى والروح. وما من فن آخر يَستبعد على الأقل أربعًا من الحواس الخمس، ومحكوم إلى هذا الحد بمبادئ الرياضيات. أي قوة يملكها العقل أكثر إدهاشًا من قدرته على تذكر الموسيقى دون أن يسمع فعلًا أية أصوات حقيقية؟ بدت هذه الملاحظة لأوغسطينوس دليلًا صارخًا على سمو الروح بالنسبة إلى الجسد.
لقد تركت دراسة تحليل أفلوطين لطبيعة الجمال (الجزء الأول) أثرًا عميقًا؛ فقد ذُهِلَ أوغسطينوس بفعل تغلغل النظام الرياضي في الكون، وكانت هذه فكرة بارزة في محاورات كاسيكاسيوم. وهنالك كان دفاعه عن العناية الإلهية في مادته جماليًّا وأفلوطينيًّا؛ أي إن جلاء وعتمة النور والظلام يساهمان في جمال الكل. لكن هذا الجمال ليس وحسب شعورًا ذاتيًّا، بل هو راسخ في الأرقام. فهناك دقة لا في البيئة العديمة الحياة وحسب، بل كذلك في عمليات الحياة البشرية، كما هو واضح من دراسة الأجنة التي تبيِّن كيف يصل الجنين إلى كل مرحلة متعاقبة من مراحل النمو عند فواصل زمنية ثابتة ودقيقة. أضاف أوغسطينوس أنه علاوة على ذلك يعتمد جمال بنايةٍ ما على نِسَبِها الرياضية. ويعتمد تناظر تركيب النوافذ على القياسات؛ ولذا، فالجمال له أساس موضوعي. تُمَتِّع الأشياءُ العينَ لجمالها، وليس العكس. (كان هذا حُكمًا سيوثقه جزئيًّا وحسب عندما يتحدث عن حب الرجل للمرأة. وأضاف أوغسطينوس أنه بينما يُعَد تناظر الجسد البشري وتَناسبُه قابلين للقياس فعليًّا بلغة الرياضيات، بشكل يجوز أن يبدو للقارئ الحديث ضربًا من الرومانسية غير العادية، «فإن آدم لم يحبَّ حواء لأنها جميلة؛ فحبه لها هو الذي جعلها جميلة»: شروحات المزامير.)
لم يُرِد أوغسطينوس أن يسأل عن علة وجود العالم وحسب، بل كذلك عن كيفية معرفة عقولنا للأشياء سواء عن طريق الحواس الخمس أو بواسطة الكلمات التي هي «علامات». إن الأسئلة التحليلية المتعلقة بوظيفة اللغة يتعين أن تُطرح أولًا إذا كان المرء يعتزم أن ينطلق منها إلى الأسئلة الوجودية التي تكمن وراءها. إن هذا الاهتمام بالكلمات والمعاني وعلاقتها بالواقع أثاره فيه دوره المتنامي كعالِم لاهوت علماني قائم على تفسير خطاب ذاتي مقدس عبر «كلمة الرب». لقد كان حساسًا جدًّا تجاه حقيقة أن قسمًا كبيرًا من اللغة الدينية كان مجازيًّا أو غير مباشر؛ فما قد يفسره غير المتأملين، سواء المؤمنون أو الكافرون، على اعتبار أنه نثر تقريري بسيط غالبًا ما يكون مزيجًا من الاستعارات الخيالية التي تثري الحدس والبصيرة العميقين بدلًا من أن تمثل نتيجة استنباط مدروس. كان أوغسطينوس على دراية بأن الطموح الديني يمكن، على الأقل لكثيرين، أن يكون ذا صلة وثيقة بالموسيقى. وخلال حياته، كانت الكنائس الكاثوليكية في شمال أفريقيا تتصالح بقدر متزايد مع الفن الصُّوَرِيِّ، وتبادر بتثبيت جداريات تصوِّر المسيح والعذراء وبطرس وبولس، رسل العهد القديم، وآدم وحواء (بلباس محتشم)، والتضحية بإسحاق، وغير ذلك من جداريات. شعر بحس الأفلاطوني لديه بالتحفظ تجاه قوة الفن علَّها تعترض السبيل ما بين الروح والرب بدلًا من أن تعمل دومًا كجسر من الحواس إلى الروح. لكنه دافع عن الموسيقى الكنسية ضد التطهيريين الذين أرادوا استبعادها بالكامل، وأقر بأنها، على خطورتها المحتملة، وسط طبيعي لمشاعر السمو والتواضع المهيب.
كتب أوغسطينوس أيضًا كعلماني في طاغست اثنين من أكثر أعماله أثرًا؛ ألا وهما «المُعَلِّم» و«حول الدين الحق».
كان عمله «المُعَلِّم» بمنزلة تذكار لابنه غير الشرعي البارع أديوداتوس الذي صيغت أفكار أوغسطينوس بالتحاور معه. يختص هذا العمل بكيفية توصيل الحقيقة للبشر، وتبدأ المناقشة بالإجابة البسيطة أننا نوصِّل الحقيقة للبشر بالكلمات. ولكن هذه الإجابة الساذجة تتعرض بشكل متزايد لنيران النقد؛ فالكلمات مجرد أصوات تستقي أهميتها من العادة والتقليد، لكنها تنقل المعنى وحسب بطريقة متناقضة وبدرجة محدودة. ومعنى اللفظ يتحدد على الأقل بنبرة الصوت أو السياق أو الإيماءات بقدرِ ما يتحدد بالمقاطع المنطوقة. وتعبير ملامح وجه المتكلم ستفضحه أمام المحيطين به إذا كان ساخرًا. وبعض العبارات الاصطلاحية يمكن أن تحمل معنًى معاكسًا لما تشي به الكلمات في ظاهرها. وإذا وصفت رجلًا بأنه محامٍ نزيه فقد لا يعني بضرورة الحال أن هذا هو مقصدك بالضبط من وصفك له. علاوة على ذلك، فالكلمات يمكن استخدامها كذريعة للتستر أو للخداع بُغيةَ نقل معلومات مغلوطة. وعلى أي حال، فالكلمات مجرد أصوات مادية، والعقل هو الذي يضفي عليها أهمية.
لا شك أن أوغسطينوس كان آخر من ينكر أن الكلمات مفيدة؛ فالأستاذ البارع جدًّا في تطويعها كان من المستبعد أن يفكر أنها لا تلعب دورًا. إضافة إلى ذلك، يوظِّف الإنجيل الكلمات، والطقوس الدينية «كلمات مرئية» (ردًّا على فاوست)؛ وذلك أن الكلمة والروح هما اللتان تضفيان قوة ومغزًى باطنيًّا على ما كان يمكن أن يكون فعلًا طقسيًّا خارجيًّا وحسب (معاهدة إنجيل يوحنا). ولكن لا يستتبع ذلك أن الكلمات بحد ذاتها يمكن أن تكون فعَّالَة أو كافية لنقل المعنى بالكامل في الأمور العظيمة الثِّقَل. فالحقيقة تُنْقَل في نهاية المطاف عبر تجربة غير محسوسة وغير مسموعة وعصية على الوصف للتواصل ما بين عقل وآخر؛ وذلك لأن العقل لا يمكن أن يعرفه إلا العقل.
أدت هذه الأطروحة بأن تَفَكَّرَ أوغسطينوس في طبيعة الصلاة؛ فعقول الأصدقاء المقربين يمكنها التواصل بعضها مع بعض دون أن ينبسوا ببنت شفة، وربما حتى دون إيماءة واحدة. والرب المبهم السامي هو أيضًا أكثر «استبطانًا» من أي شيء يمكن أن نعبر عنه، «عندما نصلي، عادة لا نكاد نعرف معنى الكلمات التي نستخدمها» (مناجاة النفس). وهذا القصور متأصل نوعًا ما في حقيقة أن مصطلحاتنا وتقسيماتنا تنتمي إلى خطاب مستخلص من عالم المكان والزمان والتتابع هذا؛ ولذا، فهي تشوِّش الحقيقة المتعلقة بما هو ثابت وخالد وتحرِّفها. وهذا القصور نوعًا ما علامة على كل الأمور التي تنطوي على شعور عميق (ما من كلمة أمست أكثر تمييزًا لأوغسطينوس من «التَّوْق») لدرجة أنها تستقر في مكان عميق جدًّا لا تصل إليه الكلمات. «لا يستطيع الإنسان أن يقول شيئًا عما يعجز عن الشعور به، لكنه يستطيع أن يشعر بما يعجز عن صياغته في كلمات» (العظات، شروحات المزامير).
إن القوة المطلقة للفهم المتبادل ما بين الأصدقاء، بحسب معتقد أوغسطينوس، تعوِّل على المشاركة في المنطق العلوي. ولقد انسجم هذا المعتقد مع لغته السامية العاطفية أحيانًا التي يستخدمها لوصف هبة الصداقة. ومشاركة النور المشع من المسيح المُعَلِّم تعني أن يمسي المرء متمكنًا من إدراك الإيمان المطابق لدى الآخرين. وتَحدَّث أوغسطينوس أحيانًا عن الجمع الديني على اعتبار أنه يملك القدرة، التي تتسنَّى له بالحدس الغامض، على إدراك أشكال أصيلة وغير أصيلة للإيمان. وحدَّثَ نفسه أن «الآذان الكاثوليكية» لم تكن بحاجة عادة إلى قرارات رسمية من المجامع الكنسية لتُملي عليها أسس عقيدتها (ردًّا على رسالتيْن لِلْبيلاجيين). إن هذا التنوير العقلي إذن قوة أو إحساس بالرشد والتعقل وليس معلومات عن الحقائق. وهو يتغلغل في المستويات الأكثر عمقًا للشخصية. لقد علَّمَ الاستبطانُ أوغسطينوس وجودَ اللاوعي: «يمكنك أن تعرف شيئًا لا تدري أنك تعرفه» (الثالوث).
من المعروف أن هناك سلسلة أخرى من النصوص كتب فيها أوغسطينوس عن الأعماق السحيقة للقلب البشري، وعن «هوة» الإنسان. «كل قلب مغلق على كل قلب» (شروحات المزامير). بالنسبة إلى الرب كل دافع معلوم، لكن الأمر خلاف ذلك بالنسبة إلى الإنسان؛ فالإنسان نفسه عميق عمق المحيطات، وشديد العمق (الاعترافات)، والفرد لا يستطيع حتى أن يفهم شخصيته وقلبه (شروحات المزامير).
لقد كان لديه أكثر من اهتمام عادي بالتداخلات المنطقية. لكن اهتمامه فيما يعتبره القارئ الحديث علم نفس متعمقًا ساعد على أن يجعله متشككًا في الحِيَل اللغوية البارعة التي يمارسها الجدليون؛ فمذهبهم «افتقر للعمق» (الاعترافات، الكتاب التاسع وفي مواضع أخرى). وإذ كان الدين ذا قيمة عظيمة كتدريب على المنطق من وجهة نظره (واعتبره لا غنى عنه بالنسبة إلى علماء اللاهوت)، فقد كان يمس مستويات أعمق من الشخصية. ولقد تحدث عن الحقيقة الدينية باعتبارها تنويرًا داخليًّا من «الرب شمس الأرواح». ولم يقترح قط أن الأفكار الحقيقية متأصلة في الروح أو كامنة بداخلها، فهي دومًا تبدو كهبة الخالق.
واجه أوغسطينوس الأكاديميين المشككين في احتمالية اليقين كرجل كان في فترة من الفترات واحدًا منهم. طاب لهم القول بأن المرء يستحيل أن يصل للحقيقة، بل جلُّ ما يستطيع أن يبلغه محض احتمال أو تقريب؛ شيء أشبه بالحقيقة. وظن أوغسطينوس أنه إذا استطاع القول بأن ثمة مقترحًا ما يشبه الحقيقة، فلا بد أن هناك حقيقة يحكم المرء بناءً عليها أن ذلك المقترح يشبهها. ولقد أكدَّ كثيرًا على حجة غالبًا ما كان يكررها، وأمست، في سياق آخر، ذات أهمية كبيرة لديكارت في القرن السابع عشر: «أنا أفكر، إذن أنا موجود؛ حتى وإن كنت مخطئًا، فأنا موجود.» إن الشخص الذي يشكك يجب أن يكون على الأقل واثقًا تمام الثقة بوجوده الشخصي، وإلا لما كان في موقف يسمح له بالشك. ولذا، فإن تعليق الحكم ليس موقفًا محكمًا أو عقلانيًّا.
قد نلاحظ بشكل عابر أن أوغسطينوس، على العكس من ديكارت، لم يحتجَّ بأن اليقين موجود حصريًّا في الحالة الذاتية للعقل الشكاك؛ فهو لم يكن بحاجة، شأن ديكارت، لأنْ يجعل تفكيره الأساس الوحيد للمعرفة. لكن صحيح أنه اعتبر الحقائق المحضة للرياضيات مؤكَّدة عن أي إدراكات حسية للحواس الخمس.
شارك أوغسطينوس أفلوطين في بُغضه لفكرة أن الشيء المعروف متمايز بالكامل عن الذات العارفة وخارج عنها لدرجة أنه في فعل المعرفة لا يوجد عنصر شخصي مهم. يرتبط عنصر الوعي بالذات بمعرفتنا بالعالم الخارجي، والذات الشخصية لا يجوز استبعادها؛ فإذا كنت تعرف شيئًا، فأنت تعرف أيضًا أنك أنت الذي يعرف ذاك الشيء؛ ولذا، فإن فكرة أن الفهم يتطلب حبًّا كي يحقق غايته تمتزج من هذا الطريق مع علم اللاهوت. عبَّرَ أوغسطينوس عن هذه الفكرة على النحو التالي: كل البحث والتقصي في مسألة كيفية معرفتنا للرب تتلخص في السؤال التالي: «ما مفهومنا للحب؟» (الثالوث). إن حب الخالق كامن في عقل المخلوقات العاقلة وإرادتهم (الثالوث). «إننا نقترب إلى الرب لا بالمسير بل بالحب.» «ليست أقدامنا هي التي تُقرِّبنا إليه بل طبيعتنا الأخلاقية. ولا يتم تقييم الطبيعة الأخلاقية بما يعرفه الإنسان بل بما يحبه» (الرسائل).
وعلى ذلك، فالمسار السلبي الذي يحيط فكرة الرب بصفات سلبية حصرًا ليس السبيل الوحيد. لا شك أننا نستطيع أن ننفي عن الرب ما ليس من ماهيته أكثر من قدرتنا على تحديد ماهيته (شروحات المزامير). لكن، على الأقل جهلُنا جهل مُطَّلع (الرسائل). ولغة المؤمن تتذبذب ما بين الثقة والاستحياء. هنا نسب أوغسطينوس مفارقةً لنفسه عثر عليها في أعمال فرفوريوس. إن التدبر في الرب تجربة تتجاوز التفكير، «وهذه الأشياء بطريقة ما تُعرف من طريق عدم المعرفة؛ لذا، وبهذا النوع من عدم المعرفة، يُدرَك غموضها» (مدينة الله؛ الاعترافات، الكتاب الثاني عشر).
ألَّفَ أوغسطينوس أطروحةً «حول الدين الحق» لأجل رومانيانوس، صاحب العقارات الثري بمدينة طاغست الذي سبق أن كان مصدر التمويل الأساسي لتعليم أوغسطينوس، وهداه الأخير في شبابه إلى المانوية، وكان على أوغسطينوس أن يهديه مجددًا ويعيده إلى الكاثوليكية. وكانت الأطروحة تتمتع بنبرة معادية للمانوية، لكنها كانت مميزة في المقام الأول لاحتوائها على أفكار أفلاطونية حديثة داخل إطار مسيحي وكاثوليكي بقوة. وكانت حجته تفرُّد الكنيسة الواحدة، «الكنيسة الكاثوليكية» تلك التي تقر وتعترف حتى الطوائف المنافسة بتفردها («سَلْهُم أين الكنيسة الكاثوليكية في مدينةٍ ما؟ حتى هم لن يتجرءوا على دعوتك إلى اجتماعاتهم السرية الخاصة»). وصكوك ملكية هذه الكنيسة الواحدة تكمن في تاريخ مقدس مُسجل في الكتاب المقدس. ومذاهبها مثبتة بموجب اتساقها مع المنطق (أي مع الأفلاطونية).
لم يسعَ بعضُ معاصري أوغسطينوس ممن فقدوا كلَّ إيمانهم بالأرباب القديمة وراء أي بديل لها بالتطلع إلى المسيحية. ووصفهم أوغسطينوس بأنهم ينكرون كل الأديان على اعتبار أنها مجرد خرافات آسرة، وأرادوا أن يشددوا على حرية الفرد وسيادته كَرُبَّان لروحه في رحلته في بحر الإيمان. وكان تعليق أوغسطينوس (الذي كان قاسيًا أكثر منه صحيحًا) أن التأكيد على الاستقلال الرائع سيكون أكثر إبهارًا لو لم ينتهِ المطاف بالذين يزعمون أنهم تخلصوا من أصفاد كل الأديان إلى أن يجدوا أنفسهم في الأَسْر. وقد تتمثل عبوديتهم الأنانية في الإمتاع والراحة الجسديتين، أو الطموح المحض للسلطة والثروة، أو — في حالة النخبة المثقفة — السعي اللانهائي وراء تلك المعرفة الدنيوية التي لا تنعقد الآمال قطُّ على أن تكون أكثر من مجرد كونها نسبية، والتي تميل إلى التذوق الفني. (أثرت الأفلاطونية أيضًا التي لم تشجع أوغسطينوس كثيرًا على الاهتمام بالعلوم الطبيعية فيه واصطدمت بفكرة أرسطو القائلة بأنه يجوز السعي وراء المعرفة لِذَاتها. لقد اعتبر أنه من البديهيات أن تكمن المهام الرئيسية للفلسفة في المنطق والأخلاق.) «يكون الإنسان أسيرًا للشيء الذي يأمل أن يجلب له السعادة» (حول الدين الحق). والتوق لسعادة حقيقية هي النقطة التي يكتشف عندها الإنسانُ الربَّ بداخله (يلاحظ المرء هنا الامتزاج ما بين محاورة هورتنسيوس وفرفوريوس). «لا تخرج عن ذاتك»، ولو حتى بالنظر إلى العالم الخارجي بكماله الرياضي؛ ولكن عُدْ إلى شخصيتك الخاصة. إن العقل مرآة تعكس الحقيقة المقدسة، لكنه متقلب؛ ولذا، «تجاوزْ ذاتَك» واسْعَ وراء أساس ثابت وسرمدي للوجود كله، وحينئذٍ ستكتشف أن «خدمة الرب هي الحرية المثالية» (حول الدين الحق).
ويتقاطع مع نزوع الأطروحة إلى ما هو عموميٌّ في الطبيعة وفي المنطق فكرةٌ مختلفة كليًّا؛ ألا وهي التأكيد على الغاية المقدسة في التاريخ. وتُختزل هذه الفكرة في النقائض الإنجليزية بين الحنطة والزُّوَان، والعجوز والشاب، والخارجي والباطني. هناك «نوعان من الناس». إن هذه الازدواجية تتناول الوجود الغامض، في مجتمع مغترب وعلماني، لأناس ربانيين مستترين. وبهذه الطريقة، أمسى التباين الأفلاطوني ما بين الحس والعقل مندمجًا مع الفكرة الرئيسية المستخلصة في نهاية المطاف من سِفْر الرؤية الإنجيلي. وهذه الفقرة (حول الدين الحق) هي أول ذِكْر لفكرة سيشدِّد عليها أوغسطينوس إلى أقصى حدٍّ ممكن لاحقًا. بعد عشر سنوات، أمسى نَوْعَا الناس «حُبَّيْن» ومدينتين، بابل والقدس. وبعدها بأكثر من عشرين عامًا، أمسى مذهب المدينتين أساسًا لواحدة من أعظم أعمال أوغسطينوس؛ ألا وهو «مدينة الله».
كان هناك خلاف بين الباحثين حول المصدر أو الحافز الذي جعل تلك الفكرة مهمة لأوغسطينوس. أكانت بقايا الازدواجية المانوية بصراعها الكوني ما بين النور والظلام وما بين الرب وأمير الظلام؟ ثمة بديل بدا أكثر معقولية بكثير لأغلب العلماء؛ ألا وهو الانطباع العميق الذي تركه على أوغسطينوس تايكونيوسُ اللاهوتيُّ المحسوبُ على الدوناتيين الانشقاقيين الذين انشقُّوا عن زملائه إذ آمنوا بأن الكنيسة الحقة يجب أن تكون عالمية. ولقد قربته أفكاره جدًّا من الكاثوليكيين المكروهين لدرجة أنه حُرِمَ كنسيًّا. ولم ينضم إلى المجتمع الكاثوليكي لأسباب لا يمكن إلا أن نستنبطها؛ على سبيل المثال، أن التحول في الولاء الفردي يمكن أن يعوق التقارب المؤسسيَّ. ألَّفَ تايكونيوس «كتاب القواعد» — لا يزال باقيًا — لتفسير الكتاب المقدس، كما ألَّف مقالًا يعلق فيه على رؤيا يوحنا تدلل الشذرات المتبقية منه على أن التباين ما بين مدينتي بابل والقدس كان مهمًّا بالنسبة إليه.
لكن الاهتمام الكبير برؤيا يوحنا لم يكن قاصرًا على المنشقين الدوناتيين، بل كان شائعًا بين المسيحيين الأفارقة عمومًا.