الاعترافات
خشي أسقف هيبو العجوز، الذي رسم أوغسطينوس كاهنًا، من أن تستقطب أي كنيسة أخرى الأخيرَ ليكون أسقفها؛ ولذلك أقنع رئيس أساقفة نوميديا بأن يرسم أوغسطينوس مساعدًا لأسقف هيبو. ولقد أحاط بتعيينه في هذا المنصب (غير التقليدي في الشريعة الكنسية) جدل كبير؛ فمزيج ماضي أوغسطينوس المانويِّ وبراعته الشديدة ساعد على الارتياب فيه؛ فهيبو ليست بالمدينة التي يطالع أهلها الكتب، ولم تكن نوميديا إقليمًا تتوقع أبرشياته أن يحتل مقعدَ الأسقف فيها عبقريٌّ (ذكر أوغسطينوس أن الأساقفة الأميين كانوا محطَّ السخرية المفضل لأنصاف المتعلمين: «تلقين غير المتعلمين»). وأثار وجود أوغسطينوس المخاوف؛ فقد كان معروفًا بهيبته في تفنيد خصومه في المناظرات العامة. ولم يؤمن البعض إيمانًا لا يداخله شك بصدق هدايته في ميلانو.
خلال السنوات الثلاث الأولى له كأسقف، ألَّفَ أوغسطينوس تحفته الأدبية «الاعترافات» (وهي الكلمة التي تحمل في طياتها معنيين: الثناء والتوبة). والمُؤَلَّف شعريٌّ-نثريٌّ يقع في ثلاثة عشر كتابًا على هيئة رسالة إلى الرب، ويعتبر تعديلًا عميقًا ﻟ «مناجاة النفس» الأفلاطونية الحديثة التي انخرط فيها أوغسطينوس مع العقل في حوار. وبقدرِ ما كان يحوي هذا العمل في طياته غايةً جدلية؛ فقد وجَّهه أوغسطينوس ضد المانويين. وهناك تلميحات سوداوية لنقَّاد متشددين للتفسير الإنجيلي لأوغسطينوس ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكية، لكنه لم يحددهم قط. ولم يكن للدوناتيين الانشقاقيين سوى دور ثانوي جدًّا في المسرحية كلها.
كتب أوغسطينوس الكتب التسعة الأولى على هيئة سيرة ذاتية وصولًا إلى الفترة التي ماتت فيها مونيكا. والكتاب التاسع تحديدًا يتناولها ويتناول علاقته بها بقدرِ ما يتناول تطور عقله. ولا تصف الكتب الأربعة الأخيرة المخاوفَ الماضية، بل الحاضرة التي خطرت بباله كأسقف ومفسِّر للكتاب المقدس، وتتألف من تحليلات أفلاطونية حداثية للذاكرة والزمن والخلق، وأخيرًا إنجاز عظيم ممثَّل في تفسير دقيق لسِفْر التكوين ١، فُسِّرَ على أنه مجاز عن طبيعة الكنيسة والإنجيل والأسرار المقدسة. وتوضح الأقسام الذاتية الطابع أطروحةً ذكرتْها مجددًا في قالب أكثر لاهوتية الكتبُ الأربعة الأخيرة؛ ألا وهي أن المخلوق العقلاني انصرف عن الرب بإهماله؛ حيث فضَّلَ الأشياء الخارجية ووهِمَ أن السعادة تكمن في الإشباع الجسدي؛ ولذا فإن الروح تهبط إلى ما دون مستواها وتتفكك، كالابن الضال الذي انتهى به الأمر إلى أن يقتات على روث البهائم. لكن في أعمق هاوية للأنا («الذاكرة» هي الكلمة التي يستخدمها أوغسطينوس إشارةً إلى أي شيء ليس ضمن قائمة أولويات الفكر)، تستبقي الروح اشتياقًا لإعادة الاندماج والكمال. ويتحقق ذلك في حب الرب، ونموذج المسيح كوسيط ومعلِن عن ذاك الحب. لقد خَلَقَنا الرب لِذَاته، والقلب لا يهدأ أبدًا حتى يجد راحته فيه.
تقص «الاعترافات» هداية أوغسطينوس إلى المسيحية، ويُحكى المشهد الذي وقع في بستان ميلانو بتنوع غَنِيٍّ من الأصداء الأدبية. وتُثبت المقارنة النقدية بمحاورات كاسيكياكوم التي كُتبت لاحقًا أن استعادة الأحداث اللاحقة ﻟ «الاعترافات» تطرح قصة موثوقة، رغم أنها مكسوة بكساء شبه شعريٍّ. ولأول وهلة نجد أن ثمة تباينًا ما بين «الاعترافات» العاصفة الانفعالية والمناخ الاستفساري الهادئ لمحاورات كاسيكياكوم. ولقد لَفَت أوغسطينوس نفسُه الانتباهَ أولًا إلى الفارق في المزاج بين الاثنين، ملاحظًا أنه وجد النبرة الحضرية لمحاورات كاسيكياكوم علمانية وأكاديمية في روحها بشكل مبالغ فيه. ومن العبث القول بأن نصوص كاسيكياكوم أكثر أفلاطونية من «الاعترافات»؛ حيث أَثَرُ أفلوطين وفرفوريوس لا يقل انتشارًا وتفشيًّا بشكل واضح. لكنَّ ثلاث عشرة سنة مرت، وأمسى الآن أوغسطينوس مسئولًا عن نقل الكلمة والأسرار المقدسة إلى الناس. وتبيِّن «الاعترافات» انشغالًا أعمق بالقديس بولس.
بات أوغسطينوس مقتنعًا بأن الصراع الأخلاقيَّ الداخلي الوارد في رسالة أهل رومية السابعة لم يكن فحسب تصويرًا مجسِّدًا للإنسان الذي لم ينعم بعدُ بعفو الرب وآلائه، بل كان تصويرًا ذاتيًّا لبولس بعقله المشتت الذي يشبه عقلَه بشكل استثنائي. لقد أمسى الإنسانُ، أعظمُ خلق الرب على الأرض، والمخلوقُ الذي وهبه الربُّ ذكاءً وقدراتٍ غيرَ عادية للتآزر الاجتماعي؛ غيرَ اجتماعيٍّ بفعل الفساد الداخلي (مدينة الله)، وانحراف الإرادة عن جادة الصواب والوقوع اللاحق في أَسْر عادة خبيثة. في كَوْنٍ يتَّسم بأسمى درجات النظام والجمال، تبدو الإنسانيةُ وأنانيتُها النغمةَ الشاذة. ويتجلَّى اعتلالُ القلب البشري في ذاك الجزء من الثانية من المتعة السرية الفاضحة عندما يعرف الإنسانُ بأَزْمَةِ أخيه الإنسان، أو في الرغبة بإتيان شيء مُحَرَّم لا لأنه ممتع في حدِّ ذاته؛ بل لأنه مُحَرَّم، وهي الحقيقة التي شدَّد عليها أوغسطينوس بقصة انحرافه عن جادة الصواب في مراهقته وسرقته للكمثرى، لا لأنه كان يعشقها؛ بل لأن التجربة بالنسبة إليه كانت مغامرة مخالفة للقانون، في إعادة تمثيل لحبة الفاكهة التي اقتطفها آدم وحواء. لقد اعتبر قصَّته قصةَ كل البشر.
لأول وهلة يبدو هيكل «الاعترافات» محيرًا. وبعد تسعة كتب من السيرة الذاتية تصل ذروتها في وصف حساس جدًّا لوفاة أمه وجنازتها، يربك هذا العملُ القارئَ غيرَ الخبير؛ إذ يستطرد أوغسطينوس ليتكلم عن الذاكرة والزمن والخلق. وتحمل الكتب الأربعة الأخيرة في حقيقة الأمر مفتاح العمل بأكمله؛ فقد استوعب أوغسطينوس سيرته الذاتية كعالم صغير من عوالم قصة الخلق بأكملها، والسقوط في هوة الفوضى وعدمية الشكل، و«هداية» عالم المخلوقات إلى حُبِّ الرب بينما يعايش آلام الحنين إلى الوطن الموجعة. إن ما تصوِّره الكتب التسعة الأولى في استكشافه الشخصي لتجربة الابن الضال يكتسب بُعْدًا كونيًّا في الأجزاء الختامية للعمل بأكمله. وترتبط أجزاء السيرة الذاتية كتمثيل عارض للتشرد الهائم لروح الإنسان في «عالم التباين» (وهي العبارة التي يستخدمها أفلاطون إشارةً إلى عالم المادة المنفصل تمامًا عن العالم الربَّانيِّ). والرحالة الشارد أشبه بمسافر أنهكَه العطشُ في صحراء لا ماء فيها، أو عاشق يَتُوقُ لأن يرى محبوبته البعيدة (شروحات المزامير).
طوال حياته كان أوغسطينوس مهتمًّا بشكلٍ غريب بدراسة سلوك الرُّضَّع كمصدر خاص لفهم الطبيعة الإنسانية. وفي «الاعترافات»، انطلق أوغسطينوس يبيِّن أن البشر لا يبدءون حياتهم ببراءة؛ حيث يقتفي أثر سحابة المجد التي تُعتم بفعل بيئة الراشدين. فما من مخلوق أكثر أنانية، بحسب ظن أوغسطينوس، من الرضيع في مهده: «إذا كان الرُّضَّع لا يُلحقون الأذى؛ فذلك لأنهم يفتقرون للقوة لا للإرادة» (الاعترافات، الكتاب الأول). وَلِفَهْمِ سلوك الراشدين وهم يتفاوضون بشأن معاملة تجارية صعبة، يحتاج المرء فقط إلى مراقبة الأطفال الصغار وهم يلعبون. وبعد ذلك يأتي بؤس المرحلة المدرسية؛ فاكتساب المهارات الذهنية عمل مجهد لا يقل بشاعةً عن الأعمال الشاقة التي حُكِمَ على آدم أن يقوم بها بسبب سقوطه. ولاحظ أوغسطينوس أن كَدَّ المفكر أسوأ؛ وذلك لأن العامل اليدوي ينام قرير العين على الأقل.
والصداقة سلوان يمنحه الرب في عالم قاسٍ (مدينة الله). كانت مونيكا بالنسبة إلى أوغسطينوس أسمى الأصدقاء؛ فقد أدرك أن حبها وطموحها وحبها للتملُّك كل ذلك اتَّسم بعنصر دنيوي. ورغم أنها كانت من مواطني صهيون، فإنها «كانت تعيش في ضواحي بابل». لكن اللغة السامية لمشاعر الامتنان تجاه أمه أحيانًا ما تشبه اللغة التي يمكن أن يستخدمها إشارةً إلى الكنيسة الأم. وتأتي ذروة «الاعترافات» في الكتاب التاسع حيث وصف أوغسطينوس تجربة صوفية عاشها مع مونيكا في أوستيا قرب نهاية أجلها؛ فقد تبادلا أطراف الحديث حول سرعة زوال كل الأشياء الدنيوية بجمالها ومجدها، على النقيض من الحكمة السرمدية للرب. لِلَحظة شَعَرا وكأن حوارهما أغرقهما في عالم سرمدي. وقال أوغسطينوس صراحةً إنه كان يستخدم لغةً في كتابه لم تكن مستخدَمة آنذاك. والفقرة غنية بالعبارات المستخلصة من أفلوطين، وتوضِّح كيف أتاح له الأفلاطونيون الجدد لغةً يتحدث بها عن تجربته (الاعترافات، الكتاب التاسع).
يظهر بعض أكثر التحليلات عمقًا في «الاعترافات» في معالجة الذاكرة في الكتاب العاشر. والنقاش في هذا الكتاب مستقلٌّ عن أرسطو وأفلوطين. تعتبر هُويَّة النفس واستمراريتها متجذِّرة في الذاكرة، وهي مستوًى من العقل يضفي وحدة على تعددية التجارب المنفصلة في مجرى الزمن. تستقر الذاكرة في مستوًى أعمق من العلم والمشيئة، فهي «باطن العقل» (الاعترافات، الكتاب العاشر)، ومستودع محتمل وحسب في الوعي. ومن خلال بحث البشرية الشمولي عن السعادة، فإن الذاكرة هي أيضًا الوسط الذي من خلاله يصبح المرء سريع الاستجابة لآلاء الرب ونعمائه (الاعترافات، الكتاب العاشر). لم يقل أوغسطينوس إن الإنسان الطبيعي بمعزل عن فضل الرب، لديه بالفعل الرب في اللاوعي، حتى عندما ينكره أو يتجاهله بالمستويات الواعية من شخصيته. وتذكُّر المرءِ الربَّ فعلٌ إرادي وقرار بحدِّ ذاته. وحب الرب «ليس بشعور غير محدد، بل هو يقين بالوعي» (الاعترافات، الكتاب العاشر).
ومع ذلك، لم يعتقد أن البشرية يمكن أن تعثر على الرب إلا في أعمق هاوية في «الذاكرة»؛ حيث يُستدعى لذهن الشخص الذي لديه استعداد لتنظيم حياته على الطاعة (الاعترافات، الكتاب العاشر). يَستدعي هذا التأمل واحدًا من أشهر نصوص «الاعترافات»: «في نهاية المطاف، أمسيت أحبك، بجمالك القديم جدًّا، والمتجدد دومًا في ذات الوقت.» ومن بعده يأتي التصريح: «إنك تأمر بالعفة، فهب ما تأمر به، ومُر بما تريد.»
ويتابع الكتاب العاشر بيانَ إلى أي حدٍّ امتلك أوغسطينوس، الذي أمسى أسقفًا، ضبطَ النفس في مواجهة المغريات التي تعرضها على عقله حواسُّه الخمس. وتشبه الفقرة بشدةٍ نصًّا باقيًا من نصوص فرفوريوس. في «الاعترافات» لا تكمن المشكلة فيما تدركه الحواس بقدر ما تكمن في موافقة العقل، «لقد أصبحت مشكلتي الخاصة» (الاعترافات، الكتاب العاشر). ويختتم الكتاب العاشر بالاعتراف باستسلام النفس لنعمة الله المتسامح، المرهون بسر القربان المقدس، وهي فكرة غير أفلاطونية بالمرة. لكن هذا يُفضي بنا إلى استقصاء دقيق لطبيعة الزمن.
كان الزمن موضوعًا أساسيًّا على أجندة عمل الفلاسفة الأفلاطونيين الجدد، ويرجع ذلك نوعًا ما إلى ملاحظات أفلاطون في محاورة طيماوس عن الخلود؛ نظرًا للمفارقات في الكتاب الرابع لعمل أرسطو «الفيزياء»، الذي أثبت فيه أن الزمن غير حقيقي. لقد ورَّث أرسطو وعيًا قويًّا بتعقيد المسألة. وقال أوغسطينوس: «أعرف ماهية الزمن إلى أن يسألني أحد عنه» (الاعترافات، الكتاب الحادي عشر). وكان هذا رأي أفلوطين إلى حدٍّ كبير، ولو أنه ليس بالحدة نفسها. خالف أوغسطينوس أفلوطين في أنه يؤمن بأن النفس سرمدية؛ فالروح تُخلق من العدم. وهي تشارك من البداية في عملية التعاقب. ولكن حينئذٍ تُثار مسألة إن كان الخلاص يمكن أن يكون نجاة خارج إطار الزمن. وهو سؤال شائك جدًّا لعالِم لاهوت مسيحي يؤمن بأن الرب الذي يُعتبر ثابتًا صمدًا ومتجاوزًا للزمان والمكان تصرف في الوقت المناسب من أجل إنقاذ البشرية. من الواضح أن أوغسطينوس كان على دراية بمفارقات أرسطو، ولا سيما حجته بأن الماضي لم يَعُد له وجود، والمستقبل لم يوجد بعد، بينما الحاضر لحظة تخلو من هذا التمدد الزمني الذي يبدو أن مفهومنا للزمن يكتسبه.
تكلم أفلاطون عن الماضي والحاضر والمستقبل كأشكال للزمن تسعى لمحاكاة تزامن الخلود. وتكلم أغلب الأفلاطونيين عن الزمن مُحدَّدًا بحركات الأجرام السماوية. وعرَّفَ أفلوطين الزمن تعريفًا نفسانيًّا باعتباره تجربة الروح في حركتها من حالة حياة إلى حالة حياة أخرى.
كان أوغسطينوس بالطبع على دراية بأننا عادةً ما نُقَدِّر الزمن بالشمس والقمر؛ «فالعام ٣٦٥ يومًا وربع اليوم، وربع اليوم يتطلب يومًا كبيسًا يُضاف كل أربع سنوات» (تعليق حرفي على سِفر التكوين). لكن في «الاعترافات»، نجد أن تحليل الزمن وارد في سياق الصوفية باعتباره وعيًا سرمديًّا بما هو أبديٌّ؛ وعليه فإنه لم يُرد أن يُعرِّف الزمن بلغة الفلك، ولا باعتباره حركةً لأي شيء مادي. إن التعاقب والتعدد هما ببساطةٍ تجربة الروح في تدفق التاريخ. ولأن التعدد علامة على الدونية في البناء الأفلاطوني، فإن سرعة زوال حالتنا وفنائها لا بد أن يكونا مؤلمَين نوعًا ما. يفترض الزمن التغير (الاعترافات، الكتاب الحادي عشر)، «والتغير نوع من الموت» (معاهدة إنجيل يوحنا). لكن الزمن بطبيعته بُعْد من أبعاد العقل، وحالة نفسانية ترتبط بكون المرء مخلوقًا. في الواقع، حتى الملائكة — وهم خَلْقٌ أيضًا — يستقرون في مكانٍ ما وسيطٍ، ما بين الزمن والأبدية. لكننا يجب أن نقول إن الرب صَمَدٌ ومن ثَم فهو سرمديٌّ. وهو عليم بالماضي والمستقبل، ولكن ليس كعلمنا نحن يدور في مدار تجربة نفسانية من التتابع؛ ولذا، من الخطأ أن نطلق على المعرفة الإلهية المعرفة المُسبَّقة؛ فالرب يحيط علمًا بالماضي والمستقبل، ولكن ليس كعلمنا الذي يتشكَّل استنادًا إلى سلسلة من الأحداث.
على هذا الأساس، واجه أوغسطينوس الأسئلة التالية: لماذا خَلق الرب عندما خَلق؟ ولِمَ لم يخلق الخلق في وقتٍ أسبق؟ وماذا كان يفعل قبل أن يتخذ قرار الخلق؟ كانت المسألة جادة. وأسف أوغسطينوس لعبثية الإجابة الطريفة التي مفادها أن الرب قبل الخلق كان منشغلًا بإعداد الجحيم للمشككين. حسب أوغسطينوس أن الإجابة الصحيحة هي أنه يستحيل أن يكون هناك زمن قبل الخلق وأن الزمن والخلق وُجدا في الوقت نفسه. (فجعْل الخلق سابقًا بعدد محدد من السنوات لا يغير من المسألة؛ والقول بأنه ربما وقع في فترة لا متناهية سابقة بمنزلة استخدام ألفاظ ملغزة وغامضة.)
هاجم المفكرون الوثنيون المسيحية لافتراضها أن الرب، سواء في الخلق أو في التجسد أو في إجابة دعاء المتوسلين إليه، قد يغير رأيه أو يُقْدم على فعل جديد. واعتبروا أنه من البديهي أن الدورة الأزلية للعملية الكونية وحدها، التي يستحيل أن تتطفل عليها أي تفصيلة دقيقة، يمكن التوفيق بينها وبين عقلانية الرب. في رأي أوغسطينوس، هذا الوضع يحبس العالم في نظام محدود ونهائي. لم يكن في الكون الوثني مجالٌ للَّاتناهي، بل لكلِّ ما هو محدود ونسبي فحسب. في الكتاب الثاني عشر من «مدينة الله»، شنَّ أوغسطينوس هجومًا شاملًا على مذهب الدورة الكونية الأبدية؛ فلم يكن فيها مجال للإبداع والتفرد ولا لِلَامحدوديةِ النعمة الإلهية.
من ناحية أخرى، حذَّرت الكثير من عظات أوغسطينوس من أن الدعاء ليس وسيلة لإعلام الرب ولا للتزلف إليه لتغيير رأيه، بل هو وسيلة للتوفيق بين إرادتنا وإرادته؛ وذلك لأن إرادة الرب وغايته «سرمديتان». فلا يستطيع الرب وحدَه، بل ولا الإنسان أيضًا، إحداثَ تغيير دون أن تتغير إرادته، ودون أن يبدو عليه أي تناقض على المدى البعيد فيما يختص بخططه الطويلة الأجل. علاوة على ذلك، كان أوغسطينوس على دراية عميقة بأخطار خيبة الأمل في صلاة التوسل. وفي مثل هذه التجارب، يتعيَّن على المرء أن يتفكر في أننا عادةً ما نحب الأشياء الخاطئة، وأنه لو أجيبت صلواتنا حينئذٍ، لكانت إجابتها تجليًا لغضب الرب. وقد تكون إجابات بعض الدعوات الأنانية عقوبات من الرب (شروحات المزامير). كان يعرف تمام المعرفة خطورة التجسيد المبالغ فيه. وعن الوجود الثابت للرب في عالمه، كتب أوغسطينوس بثقة: «يستبقي الخالقُ النظامَ المخلوق من نقطة العلة المفصلية الأعمق والأسمى» (الثالوث). من بين الأشياء التي لم يرها الفلاسفة الوثنيون حقيقة أن الزمن والعملية التاريخية لهما نقاط تحوُّلٍ مهمة في الحكمة الخفية للرب (مدينة الله).
أدرك أوغسطينوس أن مشكلة علاقة الرب بعالمه تتحول إلى مسألةِ إن كان (أ) الخلق ينبع من خيرية الرب وحدها بفعل التدفق التلقائي كنشوء حتمي ومادي تقريبًا، أم (ب) الخلق ينتج عن الإرادة القديرة للعلة الأولى المكتفية ذاتيًّا بالكامل التي لا تحتاج — بأي شكلٍ من الأشكال — النظامَ المخلوق. يميل النموذج الأسبق إلى استخدام تشبيهات مادية كانتشار الضوء أو نمو النباتات. ويبدو النموذج الأخير أشبه بتمجيد للتعسف المستبد كسِمَة إلهية. هل نشأ الخلق بتدفق الخيرية الإلهية أم بقرار يتعذر تفسيره للإرادة الإلهية؟ لم يدخر أوغسطينوس جهدًا ليتفادى معضلة الطبيعة أو الإرادة. وتحمس لمقترح وجده في أعمال أفلوطين مفاده أن مادة الرب وإرادته لا ينفصمان.