الوحدة والانقسام
نثرت تبعاتُ الاضطهاد العظيم تحت حكم ديوكلتيانوس (٣٠٣ ميلاديًّا) بذورَ الانقسام بين الكنائس الأفريقية؛ فقد انقسمت حول المرحلة التي يستطيع المرء أو لا يستطيع الوصول فيها إلى تسوية مع السلطة العلمانية. كان المسيحيون الأفارقة يتبنَّون معتقدات تَنَبُّئيَّة بقوة؛ فقد فسروا وحي القديس يوحنا بأن المسيح سيعود حرفيًّا إلى الأرض ويحكمها مع قديسيه لألف سنة، وهو المذهب الذي شاركه إياهم أوغسطينوس نفسه في بداية الأمر حتى أمسى يفسِّر الألفية تفسيرًا رمزيًّا عن الفردوس. وعادةً ما كانت المعتقدات التَّنَبُّئيَّة تصاحب وجهة نظر سلبية جدًّا تجاه الحكومة الإمبريالية باعتبارها عاملًا من عوامل الفضيلة، وانتشرت الآراء التشاؤمية بسهولة بين صغار مُلَّاك الأراضي والمزارعين المستأجرين في نوميديا. ومراسيمُ الإمبراطور الوثني التي تحرم على المسيحيين الاجتماع للعبادة وتطالبهم بتسليم الكتب والأوعية المقدسة دفعت المسيحيين المتحمسين لدراسة قصة بطولة المكابيين ومقاومتهم الشرسة لأنطيوخوس الرابع منذ أكثر من أربعة قرون. لكن كان هناك شقاق حاد بشأن الحكم الأخلاقي بين الصقور والحمائم؛ فالصقور المسيحيون رفضوا رفضًا تامًّا التعاون مع السلطات العلمانية، ولم يُرِدْ حمائمُ المسيحية أيَّ مواجهات، بل سعَوا لأن يحيوا حياةَ فضيلةٍ وتواضع هادئةً. وكان من بين الحمائم أسقف قرطاج ورئيس شمامسته الذي اعتبر المتعصبين مستفزين ولا يستحقون لقب شهيد أو «مُعترِف» (وهو الاصطلاح المسيحي القديم للإنسان الذي يعترف بإيمانه أمام الحاكم ويعاني ويلات التعذيب والحبس، ولكنه لا يُمنح هبة الشهادة السامية). وحتى قبل اندلاع حملة الاضطهاد، كان هناك خلاف حاد بين مسيحيي أفريقيا فيما يتعلق بإن كان من الجائز ارتكاب جرائم التخريب بحق المقامات الوثنية باعتبارها حصونًا للفساد الشيطاني، أو إن كانت تلك الأفعال تؤجج فحسب مشاعر الغضب والسخط من الكنيسة بين العُبَّاد الوثنيين، وتفشل في توقير إخلاص النوايا الوثنية.
في عام ٣١١، لَقِيَ أسقف قرطاجة مصرعه وسارع حزب الحمائم بالتصرف، فجمعوا ثلاثة أساقفة بحثًا عن رئيس الشمامسة ليحل محله ويمسي خلفه. وشاع الاعتقاد بأن وَاسِم الكهنة الرئيس كان واحدًا من هؤلاء الثلاثة، وأنه سبق له منذ ثماني سنوات تسليم الكتب أو الأوعية المقدسة إلى سلطات المصادرة. واستعان الصقور برئيس أساقفة نوميديا الذي تمتع بتأييد قطاع كبير جدًّا من الأساقفة، ووُسِمَ أسقفًا منافسًا. وبعد بعض المفاوضات المؤرقة، لم تعترف كنائس شمال البحر المتوسط ولا الإمبراطور قسطنطين العظيم بالمرشح النوميديِّ. ومنذ ذلك الحين حتى الفتح الإسلامي لأفريقيا كانت توجد جماعتان متنافستان، لكلٍّ منهما أبرشيتها الخاصة بها، وكلتاهما تتلوان العقيدة نفسها، وكلتاهما لهما أشكال مقدسة مطابقة وهياكل شعائرية مماثلة. وأُقيم في كلِّ مدينة وقرية مذبح قبالة الآخر.
وتولَّى قيادة الحزب النوميدي دوناتس وهو أسقفهم في قرطاج. ورفض الدوناتيون المجتمع الكاثوليكي الذي كان في نوميديا أقلية سواء في المدينة أو في الريف، وازدروه باعتباره دمية في يد الحكومة العلمانية، وأداةً لتحقيق غايات سياسية لوَّثها سجل طويل من الحلول الوسط فيما يتعلق بالأمور الدنيوية. ورفض الدوناتيون الإقرارَ بصحة الطقوس الكاثوليكية ونقائها أيًّا كان نوعها، وبذلك كان أوغسطينوس في أعينهم علمانيًّا منشقًّا ومهرطقًا. وأمسى انعدام الثقة والضغائن بين الجماعتين أمرين راسخين. وحرَّمَ الجماعتان الزواج المختلط بينهما، وشرَّع كلٌّ منهما تشريعات كنسية مناهضة للجماعة المخالفة. وكان من الشائع جدًّا أن تنقسم العائلات وتنشق، وقد كان لأوغسطينوس نفسه ابن عم دوناتيٌّ.
آمن الدوناتيون بحماس شديد بأنهم وحدهم حماة القداسة الأصيلة والنقاء الطقسي لمعبد الرب الممثل في الكنيسة. وللدفاع عن رفضهم الإقرارَ بالأسرار المقدسة التي تُقَدَّم خارج حدود الكنيسة الطاهرة، استطاعوا الالتجاء، لسبب محدد، إلى كتابات أعظم الأبطال المسيحيين في أفريقيا الرومانية؛ القديس سيبريان أسقف قرطاج الذي استُشهد عام ٢٥٨. وبدت مزاعم الكنسية الكاثوليكية بأنها الملة الصحيحة للدوناتيين باطلةً تمامًا بفعل تسامحهم مع خطيئة الردة الكارثية؛ فقد كان أسقف قرطاج الكاثوليكي، وكذلك حقًّا أسقف روما نفسه لو كان يدعم الكاثوليكيين الأفارقة (وهكذا كان الحال فعلًا)، عميلين للمسيح الدجال يتقلدان مقعدًا لا ينبغي أن يكون لهما في ملاذ الرب نفسه. وبلغ الأمر ببعض الدوناتيين أن قالوا كذلك إن القداس الكاثوليكي، بدلًا من كونه ضربًا من خدمة العشاء الرباني، احتفال فاسد يُسَنُّ فيه تجديف لا اسم له. ولم يكن التجار الدوناتيون يتعاملون مع رجال الدين الكاثوليكيين ما استطاعوا.
رد الدوناتيون على الزعم الخطير بأن الرب لم يكن ليقصد أن تُختزل كنيسته الكاثوليكية في منطقة صغيرة من الإمبراطورية بأن الخصوصية هي نفسها مبدأ التجسد، وأنه في الأمور الأخلاقية عامة تكون الأقليات على حق، بينما تكون الأغلبية الصامتة اسمًا آخر للمساومين الضعاف الشخصية، وأهم من ذلك كله أن قداسة الكنيسة مُقَدَّمَة على وحدتها وتفردها وتعتبر أساسًا لهما. واتفق الدوناتيون والكاثوليكيون معًا على أن فُلْكَ نوح دَلَّ مُسبَّقًا على الافتداء عبر كنيسة المسيح الواحدة. ومنح هذا الرأي الدوناتيين الرضا بأن يظنوا أن الفُلْكَ كان يحوي فحسب ثمانية أشخاص.
عندما أصبح أوغسطينوس أسقفًا، وجد الطائفتين مستسلمتين بخنوع لخمسة وثمانين عامًا من العداء المتبادل وانعدام الثقة التام. واستمرت الأحقاد والضغائن من جانب الدوناتيين بأعمال العنف المخيفة التي مارسوها ضد البنايات الكاثوليكية ورجال الدين الكاثوليكيين. ووجد المتحمسون الذين سبق أن شنُّوا هجومهم على المقامات الوثنية هدفًا جديدًا ممثَّلًا في الكاتدرائيات الكاثوليكية؛ حيث كانوا يهدمون المذبح الخشبيَّ على رأس الأسقف الكاثوليكي المسكين إذا لم يكن حكيمًا بالقدر الكافي ولم يرحل عن المكان. ولم تكن قصيرةً قائمةُ رجال الدين الكاثوليكيين الذين شُوِّهت أجسادهم أو أصيبوا بالعمى إذ ألقي في أعينهم الجير والخلُّ، أو لَقُوا حتفَهم مباشرة. ولقد نجا أوغسطينوس نفسه ذات مرة من فخٍّ دوناتيٍّ كان الغرض منه إسكاته إلى الأبد؛ وذلك لأن دليله سلك الطريق الخاطئ. وشجب الأساقفة الدوناتيون علنًا أعمالَ العنف التي كان ينظمها أساسًا رجال الدين الريفيون.
ومن بين علامات المؤمن الحق، حدَّد أوغسطينوس أنه يجب أن يحبَّ الكنيسة، بما لها وما عليها. ولم ينكر أنه إبَّان فترة الاضطهاد العظيم قدَّم بعض الأساقفة تنازلات غير لائقة للحكومة. ولقد أُعجب هو أيضًا بالمكابيين وحماسهم المتَّقد للرب. لكن الأخطاء التي وقع فيها أساقفة بعينهم لم تستطع أن تلوث مجتمعًا أو تعاقب أسقفًا. ولم تعوِّل العناية الإلهية في فعاليتها على القداسة الشخصية لكاهن وحيد، بل على كونه يستجيب لأوامر الرب؛ وبذلك يثبت درايتَه بأن الكنيسة كلها تنفعل لأفعاله المقدسة؛ وذلك لأن كلَّ فعلٍ من أفعال الكنيسة كاثوليكي. والسر المقدس يُنْسَب للمسيح، فهو ليس ملكية شخصية للكاهن، والخلاص دائمًا وأبدًا من أفعال الرب لا الإنسان؛ ولذا، فإن سر التعميد المقدس الذي يمنحه القديس الأرثوذكسي، والمنشق في ذات الوقت، يجب ألا يتكرر بأي حال من الأحوال. لقد ختم التعميدُ الروحَ بِخَتْمٍ حاسم مرةً واحدة وإلى الأبد، بالضبط كما مات المسيح مرة واحدة وإلى الأبد ليخلِّص البشرية. وباعتراف الجميع، لا يمكن أن يكون التعميد الذي يُمنح في ظل الانشقاق الديني وسيلةً لِنَيْل العناية الإلهية بالكامل حتى يتصالح المتلقي مع الكنيسة. وعلى المبادئ نفسها أنكر أوغسطينوس إنكارًا محضًا أنه من الممكن أن يكون هناك توريث للإثم حتى لو نبع سلسال من الترسيمات من أسقف متهم بخطيئة مهلكة.
لقد دفعتِ الأعمال الوحشية الدوناتية التي قام بها متعصبو نوميديا أخيرًا الحكومةَ الإمبريالية إلى تبنِّي سياسة إكراهٍ أقوى ضد المنشقِّين. في بداية الأمر كان لدى أوغسطينوس أقوى التحفظات حيال نشر الحكومة قواتها، وشاركه شكوكَه كثيرٌ من الأساقفة الكاثوليكيين في أفريقيا. ولم ينكر أوغسطينوس أن الإكراهَ على قمع أعمال العنف الإجرامية كان شرعيًّا، ولكن الضغط على الدوناتيين للانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية بالتهديد بفرض غرامات أو الحرمان من حق توريث الممتلكات بدا لأوغسطينوس غير ملائم بالمرة. وسينجم عن هذا الإجراء حالات هداية على سبيل النفاق والمداهنة أو زيادة مهولة في الأعمال الإرهابية التي يتعذر إيقافها أو حتى حالات انتحار بين الدوناتيين. وفي ظل الضغوط الحكومية الشديدة، جرت العادة على أن يلقي متعصبو نوميديا بأنفسهم من على المنحدرات الشاهقة، وزادت حالات انتحارهم من الكراهية التي تعاطى بها الدوناتيون مع المجتمع الكاثوليكي الذي حُمِّلَ المسئولية كاملة.
كره أوغسطينوس العنفَ، وعنَّف بشدةٍ رفاقه الكاثوليكيين الذين تكلموا بقسوة عن الدوناتيين (الرسائل). ولم ينسجم الجدل مع الإكراه. تضمَّنت نظرية أوغسطينوس اللاهوتية المبدأ القائل، والمفاجئ لكثير من معاصريه، بأن كل الأسرار المقدسة للدوناتيين، وفي ذلك الترسيم، كانت صحيحة. رأى أوغسطينوس أن ذلك سيزيل حاجزًا أساسيًّا أمام لَمِّ الشمل المؤسسي، وربما في الوقت نفسه أيضًا يحلُّ مشكلةً يعاني منها المجتمع الكاثوليكي الذي كان يعاني قصورًا شديدًا في عدد رجال الدين الذين يعملون في الأبرشيات. علاوةً على ذلك، فقد كان من بين الدوناتيين كثير من المسيحيين المخلصين الأنقياء القلوب الذين شعر أوغسطينوس بأن الرب أوجد بينهم عددًا ممن اصطفاهم. وسيثبتون أنهم حقًّا مصطفون إذا أخلصوا فعلًا لكنيسة الرب الحقيقية.
لقد حققت سياسة الإكراه الحكومية نجاحًا منقطع النظر عمليًّا، ولا سيما بين أصحاب الأملاك والتجار في المدن، وكان لذلك أثر أقل في بداية الأمر بين الفلاحين المتحدثين بلغة قرطاج. لكنَّ كثيرًا منهم لانَ بمرور الوقت، وحينئذٍ أُوكل إلى أوغسطينوس مهمة البحث الشاقة عمن يجيدون لغة قرطاج للأسقفيات الريفية. كثير من العلمانيين في أفريقيا اعتبروا صراحةً انتماءهم إلى ملة بعينها مسألة غير ذات أهمية بالمرة للخلاص. ومن بين الفلاحين، كان هناك مسيحيون ممن اعتنقوا المسيحية لغايات مادية على أُهبة الاستعداد للانحياز إلى أي طائفة تلبي مصالحهم المادية أفضل من غيرها. لقد جعل بؤس الشقاق وعذابه كثيرين يرتدُّون إلى وثنيَّتهم القديمة. ولعب الإرهاب في نوميديا دورًا كبيرًا في الحفاظ على الولاء الدوناتي، وكان الذين يرتدُّون عن الدوناتية إلى الكاثوليكية عرضةً للنهب والسرقة تحديدًا.
شغلت عملية المصالحة قسمًا كبيرًا جدًّا من وقت أوغسطينوس وجهده على مدار سنين طويلة. وعَجَّلَ بِلَمِّ الشمل مؤتمرٌ ضخم عُقِدَ في قرطاج عام ٤١١؛ حيث واجه أساقفة دوناتيون وكاثوليكيون بعضُهم بعضًا برئاسة مفوِّض إمبراطوري (كاثوليكي) وُكِلَ إليه التحكيم بين الأحزاب المتخاصمة. كان أوغسطينوس متحدثًا رسميًّا أساسيًّا باسم القضية الكاثوليكية، وأقنع الأساقفة الكاثوليكيين بالبدء على الملأ في الإعلان عن أنه إذا قَبِل الدوناتيون بتناول العشاء الرباني معهم وقبلوا الوحدة، فسيدعون حينئذٍ أقرانهم من الدوناتيين للمشاركة في رعاية كل أبرشية. ولم يكلِّف العرض السخي شيئًا. كانت الضغائن المتبادلة أعظم أثرًا من العرض بحيث قَضَتْ على كل فرصة لقبوله.
كانت نية الحكومة إذ دعت إلى عقد ذاك المؤتمر، وقد أصدرت حكمها مُسبَّقًا لصالح الكاثوليكيين، تبريرَ سياسة لاحقة من الضغوط المستمرة على عموم الدوناتيين. هل يمكن تبرير الإكراه استنادًا إلى أي أسباب بخلاف النجاح العملي؟ من سوء الطالع أن أوغسطينوس رأى كم كانت الضغوط الحكومية تحقق من نجاح؛ ففي مدينته هيبو، تحوَّلت أقلية كاثوليكية إلى أغلبية. وقرَّر أن يطرح دفاعًا نظريًّا من شأنه أن يتلاقى مع مخاوف الأساقفة الكاثوليكيين الذين شعروا بأنه ما من قوة أو ضغوط اجتماعية يجوز توظيفها للتأليف بين أي إنسان والكنيسة، وأن الكنيسة فيها ما يكفي من المنافقين المداهنين بالفعل من دون أن تدعو إلى أحضانها عددًا كبيرًا من الأنصار المُكرَهين وغير المخلصين صراحةً. وسرعان ما اكتشف أوغسطينوس أنه من بين المُهتدين الدوناتيين كان هناك قلة من الأتقياء الأفاضل الذين سعد بانضمامهم. لقد كانت عملية الهداية على أي حال مسألة طويلة تتطلب حياة كاملة، ولم تكن قطُّ مسألة تتم بين ليلة وضحاها. وحتى الحاقدون والمستوحشون سيكتشفون بلا شك في نهاية المطاف أن الضغوط الساعية إلى لَمِّ شملهم بالكنيسة كانت لصالحهم ما دام أنها كانت لخلاصهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. أخبر الملك في قصة وليمة العُرس الإنجيلية حاشيته أن يملئوا مائدته عن طريق إجبار الناس على الحضور. لكن المسيح طرد التجَّار من المعبد بسوط من حِبَال رفيعة. إن الإعتاق من العقاب ليس دومًا بالفعل الذي يقوم به الآباء الحكماء والمحبون، والجرَّاح لا يستطيع أن يعالج دون أن يُلحق ألمًا، لكن غايته شفائية وإصلاحية.
احتجَّ الدوناتيون على أن أفعال الحكومة الإمبراطورية ضدهم لم تبدُ دليلًا على الحب، وأنه كان من الخطأ مبدئيًّا أن تستغل الكنيسة الكاثوليكية القوة التي يوفرها لها ذراعها العلماني، وأن الكيان الذي يلجأ إلى الاضطهاد بحكم الواقع يزعزع الثقة في ذاته من حيث قدرته على تمثيل كلمة المسيح. ولم يعتقد أوغسطينوس أن هذه الاحتجاجات منطقية بالكامل إذ جاءت على لسان طائفة مسئولة عن قائمة طويلة من أعمال العنف ضد الكاثوليكيين في أفريقيا. ولم يعتقد أيضًا أن «التعنيف الأبويَّ» على المعارضة الإجرامية يرقى لمرتبة الاضطهاد.
بدا بديهيًّا لأوغسطينوس في نهاية المطاف أن الفعل الذي يحمل الإنسان على الانضمام إلى جماعة التوحيد، حتى لو كان ذاك الفعل مزعجًا بعض الشيء، هو حبٌّ بحد ذاته. ولكن بالطبع الوسيلة المستخدمة لتحقيق تلك الغاية كان يجب أن تخضع لرقابة وثيقة، ولا يجب أن تتجاوز إلحاق إعاقات طفيفة بأصحاب الممتلكات أو — كما في حالة العمال الريفيين — الجلد الخفيف.
ثمة اختلاف جوهري بين أوغسطينوس والدوناتيين يكمن في مذهب كمال الكنيسة المجاهدة هنا على الأرض. اقتبس الدوناتيون قول القديس بولس أن الكنيسة «لا تشوبها شائبة أو عيب». ولقد سلَّموا بأنه، حتى بين أبناء طائفتهم، كان هناك أفراد ممن تلقَّوا الأسرار المقدسة واتضح أنهم ظلوا متمسكين بعناد بمعتقداتهم البالية كما في السابق. ولكن إخفاقات الأفراد ورجال الدين والعامة لم تكن مطلقًا كتلويث الكنيسة. ولقد أكدوا أن الكنيسة هي جسد المسيح نفسه، وموطن القداسة، ومجتمع القديسين المضمون بموجب التعاقب الرسولي اليقيني لأساقفتهم.
كان التعاقب الرسولي مهمًّا للكاثوليكيين الأفارقة أيضًا؛ لأنه كان الشكلَ الخارجيَّ الذي ساعد على صيانة تقليد التعليم الرسولي المُقدس والأسرار المقدسة. لكنه لم يكن مُشددًا عليه إلا عندما كانوا يتحدثون عن التعاقب وصولًا إلى القديس بطرس في السُّدَّة الرسولية التي تمتعوا فيها بالعشاء الرباني بينما لم يتمتع الدوناتيون به (منذ عام ٣١٣). ظن أوغسطينوس أن الدوناتيين لم يكن بوسعهم أن يزعموا أنهم يمثلون الكنيسة الكاثوليكية الحقيقية الوحيدة في الوقت الذي كانوا فيه غير متوافقين روحانيًّا «لا مع روما ولا مع القدس». ولم يعتقد أن بطرس شخصيًّا كان الصخرة التي بُنيت عليها الكنيسة، رغم أنه في نهاية حياته ذكر أن بعض المفسرين حملوا النص الوارد في القديس متَّى على هذا المعنى، وأجازوا أن هذا أمر محتمل جدًّا. فسَّرَ أوغسطينوس كلمة «الصخرة» عادة على أنها اعتراف القديس بطرس بالإيمان بالمسيح ابن الرب؛ ونحن «المسيحيون لا نؤمن ببطرس بل بالذي آمن به بطرس» (مدينة الله). يطرح أوغسطينوس القديسَ بطرس كثيرًا كرمز لعمومية الكنيسة الواحدة ووحدتها. وعندما يتحدث عن «السُّدَّة الرسولية»، فهو عادةً ما يستخدم صيغة الجمع (العقيدة المسيحية).
ومع ذلك، فشأنه شأن غيره من الأساقفة الأفارقة جميعًا بالمجتمع الكاثوليكي، كان أوغسطينوس على دراية تامة بحقيقة أن علة الوجود الكاثوليكية في الأقاليم ذات الغالبية الدوناتية إلى حدٍّ كبير مثل إقليم نوميديا كانت تعتمد على الاتفاق مع روما. ولقد سلَّمَ أوغسطينوس بأن السُّدَّة الرسولية من الممكن أن تُمارس سلطة إعفاء إذا كانت عملية القانون الكنسي المجمعيِّ الصارمة تتسبب في إحراج شديد. وافترض أوغسطينوس أنه فيما يتعلق بشئون الكنيسة الأفريقية يمكن للأساقفة الأفارقة أن يصدروا حكمًا متعلقًا بالمجمع الكنسي مستقلًّا؛ لكنهم كانوا يسعدون عندما تعزز السلطة الرومانية من حكمهم. وحيثما حدث ذلك، فلا شك أنه كان يحسم المسألة الجاري مناقشتها؛ قضي الأمر (العظات وفي مواضع أخرى). من ناحية أخرى، كَرِه الأساقفة الأفارقة على استحياء لجوءَ رجال الدين المدرَّبين في أفريقيا مباشرة إلى الكرسي البابوي، ولم يَرُقْ لهم مسألة عدم إحاطة الباباوات أنفسهم علمًا كاملًا بالقضايا موضوع النقاش. في عام ٤١٨، وقعت حادثة سيئة السمعة لكاهن مُقَصِّر يُدعى أبياريوس أوقفه أسقفه مؤقتًا حيث لجأ للبابا (زوسيموس) ونال جلسة استماع سخية جدًّا، لدرجة أن الأساقفة الأفارقة استاءوا جدًّا من الاستهتار باستقلاليتهم، وطرحوا أسئلة سديدة حول القانون الكنسي الذي بموجبه زعم البابا لنفسه سلطة اتخاذ القرار. وأخيرًا، سنُّوا هم أنفسهم قانونًا رسميًّا «ينص على أنه ما من أحد يجرؤ على اللجوء إلى الكنيسة الرومانية.»
أسِفَ أوغسطينوس أسفًا شديدًا على رعونة البابا فيما يتعلق بمسألة أبياريوس، واستعداد البابا نفسه للاستماع إلى المهرطقين؛ لكنه بذل قصارى جهده من أجل إخفاء هذه الأمور. كان على يقين من أنه ما من أسقف من أساقفة روما سيقع في خطأ إصدار حكم مناقض للعقل الجمعي لهيئة الأساقفة.
تكلم أوغسطينوس عن الكنيسة باعتبارها جسد المسيح بلغة غنائية، وكانت الكلمة والأسرار المقدسة التي أَوكلت للكنيسة سبيل الخلاص وأدواته نفسها؛ ولذا، فالكنيسة هي الحمامة أو العروس المحبوبة لأنشودة الأناشيد، ومجتمع كل المؤمنين، والجسد الذي يمثل المسيح منه الرأس الذي لا ينفصل عنه قطُّ، حتى إن «المسيح الكامل» هو الرب وكنيسته معًا بشكل راسخ، والجسد الذي يمثل الروح القدس روحه. وكانت مرثا ومريم ترمزان إلى الكنيسة المجاهدة والكنيسة المنتصرة (لوقا ١٠)، وهما رمزا النَّشِط والمتأمل. ولكن في هذه الحياة، لا مفر من أن تشوب المجتمع الكاثوليكي التجريبي شائبة. والزلات والأخطاء كثيرة وجسيمة.
لم يشارك أوغسطينوس صديقه جيروم وجهة نظره المتشائمة التي ترى أن الكنيسة المعاصرة تنبَّأ بها الإسرائيليون في العهد القديم، وشجبها الرسل على اعتبار أنها ميالة ميلًا فريدًا للردة. وتَصوُّرُه لرجال الدين المعاصرين له يثبت أن الكمَّ والكيف كانا متدنيين، وأن الفضائح لم تكن أحداثًا نادرة. كان يعرف أنه من بين عامة الناس بعض المُعمدين ارتكبوا ذنوبًا قاتلة، وبعدها قيل لهم إنه لا يجوز لهم حضور العشاء المقدس حتى يَبرءوا منها. لكن الخطايا القاتلة تشمل مسائل جسيمة كالزنا أو السرقة. والخطايا البسيطة يبرأ منها المرء بِصَلاته اليومية للرب وبالزكاة.
بدت لغة الدوناتيين الخاصة برجال الكهنوت المرسومين الضمانة العليا لأسرارهم المقدسة بالنسبة إلى أوغسطينوس التي تحمله على الافتراض مسبَّقًا بمفهوم كهنوتيٍّ أكثر من اللازم للكنيسة. كان لدى رجال الكهنوت خدمة ضرورية جدًّا عليهم أداؤها. وكان الترسيم تقديسًا من الروح القدُس. وكان من الواضح والجليِّ أن رئاسة العشاء الرباني يجب أن تُمنح للمخوَّل لهم بموجب الترسيم تولي هذا العمل. ولم يحلم أحد (إلا في الطوائف المهرطقة) برئاسة علمانية. لكن أوغسطينوس لم ينظر للكنيسة قطُّ باعتبار أن قِوامها رجال الدين. لقد كانت الكهانة مكانة ثانوية، ومجرد خدمة. واستمرارية الكنيسة على العقيدة الرسولية كانت لها في النظام الكهنوتي وسيلة وعلامة، ولكن عندما بحث أوغسطينوس، في تفنيده ﻟ «الخطاب الأساسي» المزعوم لماني، عن تأصيل لحقيقة الإنجيل، تطلع إلى عقيدة الكنيسة الكاثوليكية: «لم أكن لأصدق الإنجيلَ لو لم تكن سلطة الكنيسة الكاثوليكية تُلزمني بأن أفعل ذلك.» ولم يكن أوغسطينوس لينكر نقيض هذه العبارة.
لم يكن أوغسطينوس يظن أن الرب يخاطب الإنسان حصريًّا عبر العناية الإلهية وعبر الإنجيل والأسرار المقدسة، لكن هذه السبل كانت بالتأكيد الوسائط المحورية الطبيعية. إن كلمات البشر الواردة في الكتاب المقدس وماء التعميد وخبزه وخمره والقربان المقدس كلها عناصر دنيوية واهنة. لكن الرب يجعلها وسائله الخاصة، وهي تبثُّ الحقيقة والعناية الإلهية في القلب المؤمن. ومن دون الإيمان، لا تُجدي الأسرار المقدسة الروحَ نفعًا. ومن هنا جاءت المقولة: «آمِنْ وستكون قد أكلت» (معاهدة إنجيل يوحنا). والأسرار الكونية دلائل، أما «الكتاب المقدس فيتكلم عن الدلائل باعتبارها الواقعَ المشار إليه» (معاهدة إنجيل يوحنا). توظِّف لغة أوغسطينوس القربانية كلًّا من اللغة الرمزية المنسجمة مع الأفلاطوني الذي يميل للشعور بالحرج من ظاهرية العلامة المقدسة، واللغة الواقعية المميزة للإنجيل والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالفكرة الأخروية الخاصة بتحقيق مملكة الرب هنا والآن؛ وعليه فإننا نجد تمايزًا بين السر المقدس والواقع (لم يعنِ أوغسطينوس أي شيء مادي) ينقله هذا السر المقدس (معاهدة إنجيل يوحنا؛ مدينة الله). أدى به الجدال مع الدوناتيين إلى التشديد على التلقي الداخلي للروح، بينما منعه الجدل بينه وبين المانيين من افتراض أن عناصر العشاء القرباني أكثر دنيوية من أن يستخدمها الرب.