مدينة الله
يرجع الصراع الجدلي بين المفكرين الوثنيين القدماء والمسيحية إلى القرن الأول (انظر أعمال الرسل). وجاء الرد على هجوم سلزوس الوثني في القرن الثاني الميلادي من قِبَل أوريجن في القرن الثالث. هاجم فرفوريوس بِدَوره أوريجن، وبدايةً من قسطنطين فصاعدًا دان الأباطرة، بخلاف يوليان المضطرب الذي لم يعش طويلًا، بالمسيحية. لكن أغلب أبناء الطبقة الأرستقراطية وأصحاب الأراضي الأثرياء، وكذلك الفلاحين الذين يعملون في أراضيهم، ظلُّوا متحفظين والتزموا بعبادة آلهة متعددة. ولا نقول بأن المفكرين آمنوا بالأساطير القديمة؛ فلطالما كان الأرباب الذين كان الناس يعبدونهم في المعابد محطَّ سخرية على خشبات المسارح، وقُوِّضوا على نحو أكثر تهذيبًا في قاعات المحاضرات. لكن الطقوس كانت طرقًا متلقاة لاستبقاء القوى غير المرئية على حالتها المستحسنة. لا شك أن الإهمال أدى إلى المجاعة والجفاف وانتشار الأوبئة والهزيمة العسكرية. وهجران تلك الطقوس يعني أنه يُفترض أن لدى المرء داعيًا يدعوه لاتباع طريقة عليا. وبالنسبة إلى كثيرين كان المهم أكثر من أي شيء التطهير الداخلي للروح، وكانت التضحيات والصور والطقوس الخارجية مهما كان نوعها محضَ تشتيت، ومجرد رموز على أحسن تقدير. وبالنسبة إلى آخرين، كانت الطقوس القديمة مهمَّة، وأمست أكثر أهمية إذ هاجمها المسيحيون. ومن الممكن القول بأن الأفلاطونيين الجدد بالقرن الرابع الميلادي كانوا ملتزمين بقدر كبير بالطقوس الوسواسية، وفي بعض الحالات كانت تصاحبها ظواهر إعجازية للدفاع عن معتقداتهم. ولقد تصرفوا بطريقة بدت وكأنها تُشَدِّد على تماهي الطائفة الوثنية من وجهة النظر المسيحية مع الشعوذة والسحر والتنجيم.
وفيما يتعلق بمسألة الطائفة (كما رأينا من قبلُ)، كتب فرفوريوس وِجْهَتَيْ نظرٍ؛ فمن ناحية، أقرَّ بأن الطقوس القديمة كان لها ثقل التقليد السحيق، ولا شك أنها استرضت أرواحًا شريرة؛ ومن ناحية أخرى، مقت فرفوريوس القرابين من الحيوانات.
وقرابة الفترة التي رُسِّم فيها أوغسطينوس، أقرَّت السياسة الإمبراطورية سلسلةً من المراسيم التي تقضي بغلق المعابد وحظر الذبائح الوثنية. ترتَّب على ذلك تولُّد الكراهية الشديدة للكنيسة. ووقع أكثر من حدثِ شغبٍ ضد المسيحية أسفر عن خسائر في الأرواح والممتلكات. وفي روما قدَّمَ ٤١٠ أرستقراطيين وثنيين قرابين خاصة لتفادي قوطيي القائد ألريك، بينما كان رجال الدين المسيحيون يستجدُون شفاعة بطرس وبولس ولورانس وغيرهم من القديسين الراعين للمدينة. نهب ألريك المدينة، لكن جنوده أبدَوا احترامهم للكاتدرائيات المسيحية. وظن المسيحيون أن الكارثة وقعت بسبب وجود عدد كبير جدًّا من الوثنيين. ولام الوثنيون تجاهل المسيحيين للأرباب القدماء، وتساءلوا لِمَ كانت الكوارث في العصور المسيحية أكثر عددًا. ولقد أثار سقوط المدينة الخالدة في الرابع والعشرين من أغسطس عام ٤١٠، وهي التي كانت لها أهمية رمزية أعظم من أهميتها السياسية، نقاشًا عن العناية الإلهية في التاريخ، وحوارًا عن كون المسيحية على وشك أن تفضي إلى انهيار الإمبراطورية الرومانية. وفي ظل احتدام هذا الجدل، شرع أوغسطينوس في كتابة «عمل ضخم وشاقٍّ» سمَّاه «مدينة الله»، طرح فيه أفكارًا سبق أن ظهرت بالفعل في كتابه «حول الدين الحق» الذي ألَّفه وهو علماني، لكن طريقة الطرح الجديدة كانت أوسع من حيث المنظور.
استقى أوغسطينوس عنوان الكتاب من الزبور، واختاره بحيث يمثل نقيضًا متعمدًا لكتابَي «الجمهورية» لكلٍّ من أفلاطون وشيشرون. وكانت أجزاء من ذلك الكتاب معركة حامية الوطيس بينهما وبين أوغسطينوس. استغرق تأليف ٢٢ فصلًا من هذا العمل ثلاثة عشر عامًا؛ فقد بدأ تأليفه وهو في التاسعة والخمسين من العمر وأنهاه عندما بلغ الثانية والسبعين.
أجابت الفصول الخمسة الأولى على المشركين الذي يعبدون آلهة متعددة ويرون أن الآلهة القديمة تحمي المصالح الرومانية بشكل متفرد. ولكن أَلَمْ تكن تلك الآلهة رجالًا مؤلهين فحسب؟ لقد استغل أوغسطينوس استغلالًا عظيمًا الدراسةَ العتيقة للعقيدة الرومانية للعالم الشهير فارو، والمثقلة بإحاطة واسعة وشاملة بأكثر الجوانب تفاهة للطائفة الوثنية. ويتساءل المرء لِمَ جمع أوغسطينوس وصفه للشرك من كتاب وُضِعَ منذ خمسة قرون بدلًا من وصف الأحداث الجارية في أفريقيا حتى سنوات قليلة سابقة وحسب. لقد اكتسب المفكرون الوثنيون المعاصرون، ربما دفاعًا عن أنفسهم، اهتماماتٍ قويةً بما هو قديم، ويمكن أن يرى المرء ذلك في «تعليق على حلم سكيبيو» للقديس ماكروبيوس أو «عيد الشمس الوثني». ومفاد محاجتهم المناوئة للمسيحية أنها ليست التقليد الأصلي البدائي. وبادر أوغسطينوس، انطلاقًا من سلطة موثوقة، ببيان كيف أن المسائل الأصلية البدائية كانت غير ملهمة ومثيرة للحرج.
وُجِّهَت الكتب من السادس حتى العاشر إلى الأفلاطونيين الجدد الذين كانوا يعيدون تفسير التقليد الشركيَّ كدرب للتطهير؛ حيث تلعب الآلهة دور الوسطاء ما بين البشرية وأسمى العوالم. وأتاحت الكتابات الأفلاطونية لزميله الأفريقي أبوليوس الكثيرَ من النصوص للنقاش.
كان أوغسطينوس على دراية بأن نقاشه الودود والنقديَّ في الوقت نفسه للأفلاطونية سيصدم المتحمسين المعاصرين الذين تعاملوا مع أفلاطون باعتباره سلطة مقدسة لا ينبغي تعديل أي شيء في كتاباته أبدًا. ولكن أوغسطينوس وجد في فرفوريوس حداثيًّا يعيد تفسير التقليد الأفلاطوني بطرق ثورية، وبهذه الطريقة جعله أقرب صلة بالمسيحية التي يكرهها فرفوريوس.
رفض أوغسطينوس الإمبريالية الرومانية والكفاية الذاتية الرواقية وتطهير الذات الأفلاطونيَّ الجديد (رغم إعجابه الشديد والدين الشخصي الذي يدين به) باعتبارها تنويعة لتعبيرات عن الكبر والغرور. ورأى أوغسطينوس أن التوتر المطلق للبشرية لا يكمن في التوتر ما بين العاطفة والمنطق اللذيْن يمكن أن يكونا بالقدر نفسه أداتين لتأكيد الذات. وفي الجزء الرابع عشر من كتاب «مدينة الله»، يدافع أوغسطينوس عن المشاعر باعتبارها مكونات حميدة في الطبيعة البشرية وضعها الخالق عن عمد، وهاجم أوغسطينوس الفكرة الرواقية بأن المشاعر يجب كبتها؛ فالحب نزعة بشرية أساسية؛ ومن ثَم ينبغي توجيهها على النحو السليم؛ أي نحو الرب والجيران. كان المثل الأعلى الإنساني القديم يقضي بالارتقاء بكرامة الإنسان إلى حد المساواة مع ما هو إلهي. ولتحقيق هذه الغاية أوصت أطروحة فرفريوس «عن عودة الروح» بالنأي عن كل شيء جسماني. ورفض أوغسطينوس المماهاةَ ما بين الجسد وأصل الشرور. ومن ناحية أخرى، فقد اعتقد أنه من الوهم الافتراض بأن أسمى خير للإنسان يمكن أن يناله في هذه الحياة، ويجوز العثور عليه في إنجازاته الاجتماعية أو الثقافية أو التكنولوجية. ويكمن أعظم خير للإنسان في الحياة الأبدية في الرب وبمعيته. ولا يقتضي ذلك نبذًا لِقِيَم هذه الحياة، لكنه يجعلها نسبيةً.
توحي بعض الفقرات في كتاب «مدينة الله» بالتخلي تمامًا عن الإمبراطورية الرومانية وكل المؤسسات السياسية باعتبارها منظمات نَهمة للسلطة تسعى للهيمنة الخبيثة واضطهاد القوي للضعيف. لا شك أن صفحات المؤرخ سالوست التي تناول فيها الصراعات الطاحنة في التاريخ الجمهوري الروماني أثَّرت في أوغسطينوس، ويقتبس مؤيدًا القولَ المأثور اللاذع لسالوست إذ قال إن المجتمع الروماني كان يتَّسم بالثراء الشخصي والفساد العام. ورأى شيشرون (واحد من ضحايا تلك الصراعات الطاحنة) أن أي مجتمع منسجم يجب أن يكون لديه نظام قانون، وتتوثَّق وشائجه بروابط المصلحة المشتركة والتعويل المتبادل. ومع ذلك، لم يتوقف التاريخ الروماني قطُّ عن أن يكون قائمةً بالغزوات العدوانية. كيف يمكن أن يكون المجتمع الشركيُّ مجتمعًا تسود فيه العدالة؟ «إذا انتُزعت العدالة، فستُمْسي الحكومات مؤسسات لصوصية على نطاق واسع» (مدينة الله).
لم يعد أوغسطينوس الناضج الذي خط بيمينه «مدينة الله» يستخدم مثل هذه الكلمات التفاؤلية إذ يصف البِنى السياسية؛ فقد لاقى اعتناق قسطنطين للمسيحية ترحابًا شديدًا، لكن اعتناقه لها لم يمهِّد للألفية. يحلِّل الجزء التاسع عشر من الكتاب تداخل القيم ما بين المدينتين الأرضية والإلهية. وهما متمايزتان قطعًا بلا شك؛ فالعلمانية تختلف عن القداسة، وبابل تختلف عن القدس؛ فالمدينة الدنيوية المنظَّمة من أجل السلطة والثروة والراحة والمتعة تبعد بُعْدَ المشرقين عن المدينة السماوية. والإنسان يسعى وراء قِيَم مدينة الله حتى في هذه الحياة الدنيا بمعرفة الكنيسة المطابقة (متَّى ١٣)، إلى هذا الحد، لمملكة الرب. ولكن رغم أن الفارق يكمن في نطاق رؤيويٍّ حقًّا، فإن المدينتين معنيتَّان بشيئين تشتركان فيهما؛ ألا وهما العدل والسلام، رغم أنهما لا تقصدان الشيء نفسه بالضبط بهاتين الكلمتين.
فيما يتعلق بالعدالة، كانت مدينة الله متحيزةً للفقراء. ولاحظ أوغسطينوس أن أعلى المدافعين صوتًا عن الوثنية كانوا عمومًا مدافعين عن النظام الاجتماعي القديم الذي تودد فيه الفقراء إلى الأغنياء واستغلَّ الأثرياء تابعيهم الذين يعوِّلون عليهم (مدينة الله). أدرك أوغسطينوس كم كانت الزكاة الخاصة وخزانة الكنيسة بسجلها من الفقراء المعدمين الذين يتناولون يوميًّا طعامهم من مطعم الفقراء لا تفيان بالغرض؛ فقد كانت أبعاد الفقر أكبر بكثير من سدِّ حاجة المعوزين إلا بالضريبة المُعاد توزيعها (مدينة الله).
عندما حاجج مفكر وثني بأن العظة على الجبل يستحيل أن توضع موضع التنفيذ على أرض الواقع دون القضاء على الإمبراطورية، أجابه أوغسطينوس دون خجل بأن القصاص للجروح ليس السبيل لكي يعيش أي مجتمع في سلام بالمرة؛ ولذا فإن مبادئ المسيح لم تكن غير ذات صلة بالمرة بسعادة العالم الدنيوي وطمأنينته؛ فالمجتمع الموسر المهووس بالثروة والسلطة يعاني من مشاعر الخوف والكِبْر والحسد الشيطانية التي تطارد الأثرياء ثراءً فاحشًا. ببصيرة مشهودة لِمَا سيحدث في الغرب في غضون جيل من وفاته، أشار أوغسطينوس إلى أن العالم سيكون مكانًا أكثر سعادة إذا خلف الإمبراطورية العظيمة المتكبرة عددٌ من الدول الأصغر حجمًا (مدينة الله)؛ فمملكة الرب تَسَعُ القوطيين والرومان على حدٍّ سواء.
أغضبت لغة أوغسطينوس الإمبراطوريين الوطنيين؛ فقد كان على دراية بأن الإمبراطوريات تقوم وتضمحل. ولم يعتقد أن الإمبراطورية الرومانية مكتوب لها الهلاك، كما زعم بعض المتشائمين المعاصرين له. ستسقط روما وحسب إذا سقط الرومان. لعن الناس العصور التي يعيشون فيها، «ولكنَّ طِيب العصور أو سوءها أمر يعتمد على الجانب الأخلاقي للفرد ومدى طيب الحياة الاجتماعية، وهو مرهون بنا شخصيًّا» (العظات). ولاحظ أوغسطينوس أن كلَّ جيل يعتقد أن زمانه بَشِع دون غيره من الأزمان (العظات)، وأن الأخلاق والعقيدة لم يتدنَّيَا قطُّ كما تدنَّيَا في جيله، ولم تكن القيم المدنية أكثر عرضة للخطر كما كانت في عصره. وظن أوغسطينوس أن واجبه أن يهاجم الجبرية، وأن يستنهض الناس ليستشعروا بالمسئولية إذا سارت الأمور على غير ما يرام؛ فمن الممكن أن يكون لهم رأي فيما سيحدث في المستقبل.
لم يُعَرِّف أوغسطينوس «السلام» الذي سعت إليه الكنيسة والإمبراطورية على حدٍّ سواء بِلُغة سياسية أو مدنية فحسب وكأنه كان نتاجًا لحلٍّ وسط هشٍّ أو عابر في الصراع الأبدي من أجل السلطة. سلَّمَ أوغسطينوس بأن الحكومة القوية فحسب يمكنها ضمان السلام للناس وتمكينهم من العيش دون خوف من الاضطرابات الاجتماعية، وتَعامَلَ مع القانون الروماني — الذي كان مُلِمًّا به إلى حدٍّ كبير — باحترام شديد، باعتباره لا غنى عنه لتجانس المجتمع. ولا ينبغي على المرء مثلًا أن يجعل من نفسه قاضيًا على الناس وكأن القانون ملك يمينه إذ يواجه قاطع طريق. إن القانون والحكومة ضروريان؛ نظرًا لطباع التشوُّه والجشع والفساد المناوئ للمجتمع الموجودة في القلب البشري. وفي الوقت نفسه، فإن هذا الفساد يتعمق بشدة لدرجة تَحُول دون فرض حالة من السلم دون العناية الإلهية الشافية. وأساس السلم عدالة تعطي كلَّ ذي حق حقَّه. والسلم الحقيقي والعدالة الحقة يتجاوزان هذا العالم على حاله وعلى النحو الذي سيئول إليه، وينتميان إلى مستوًى أعلى لغاية الرب. ومن المعروف أن عدد المواطنين الذين تمس العناية الإلهية حياتهم لا يتجاوز أقلية قليلة جدًّا، لكن هذه الأقلية يمكن أن تكون ذات أهمية عظيمة. لقد فهم فهمًا وافيًا أن الحكومة أكثر فعالية في قمع الرذائل من التشجيع على الفضائل. كان لدى الحكام مسئولية جسيمة تقضي بتوفير الأمن والنظام العام والراحة الفعلية والرخاء، وربما كذلك تسلية الناس والتسرية عنهم. لكن هذه المسئوليات لم تكن تخلو من مسئولية عن الفضيلة المدنية. وإذا كان الحاكم أو القاضي مسيحيًّا، فعليه واجب ديني وعامٌّ بأن يدعم الخير والحقَّ الذي هو مَعْنِيٌّ بنشرهما.
لم يكتب أوغسطينوس قطُّ عن المشكلات السياسة دون وعيٍ منه بأن النظام يجب أن يترسخ على فرض أن الجشع البشري سيؤدي إلى اضطرابات واسعة النظام ما لم تكن هناك قيود وعقوبات. ومع ذلك فقد كان يعتقد أن العالم ينتمي إلى الرب؛ وعالمه لم يكن وحشيًّا كعالم توماس هوبز، واستطاع أن يتكلم عن الحكومة والتشريع الرشيد باعتبارهما معتمديْن في سلطتهما لا على القوة وحسب، بل وعلى إدراك امتلاكهما لأساس أخلاقي، ومن ثَم لمسحة أو صورة للعدالة الحقة، وﻟ «قانون أزلي». لقد كانت الحكومة بالنسبة إليه تجسيدًا لمبدأ النظام المرتبط بالعناية الإلهية والمفروض على القوى التدميرية التي أُطلق لها العنان بفعل سقوط آدم. وفي هذا السياق، قد لا يُبطل النظام كل ما هو خطأ بقدرِ ما يطوِّع الشر لأغراض حميدة غير مقصودة. ومثال على ذلك الرق والممتلكات الخاصة.
ربما يُساء استغلال هيمنة شخص على آخر، لكن هذه الهيمنة أهون الضررين؛ حيث إن البديل هو الفوضى والانعزالية. كَرِه أوغسطينوس تجارة الرقيق، ومتى سنحت له الفرصة، كان يستغل خزانة الكنيسة لتحرير العبيد المضطهدين من الْأَسْر. ذات مرة، اتخذ أهلُه إجراءً مباشرًا وبادروا بتحرير عبيد من سفينة راسية بميناء هيبو، واستخدمت الخزانة لتعويض المالكين المتضررين. كان من الصعب منع الآباء الفقراء فقرًا مدقعًا من بَيْع أبنائهم. وحار أوغسطينوس ذات مرة من مستأجر باعَ زوجته، وعندما ناقشه أوغسطينوس، أعلن الرجل أنه يفضِّل المال على زوجته. ورغم ذلك، لم تكن العبودية شرًّا محضًا متى كان العبيد يعيشون في بيوت رحبة، ويرتدون أحسن الثياب، ويتناولون أطايب الطعام، ويأوون إلى بيوت أفضل من تلك التي يعيش فيها العاملون بالسخرة الذين كانوا يمثلون غالبية القوى العاملة.
كان النظام مهمًّا جدًّا لدرجة أن الإمبراطور الشرعي — حتى لو كان ظالمًا — له السمع والطاعة. وكان تابع المسيح يُخْضِع جسدَه لخدمة القيصرِ وعقلَه وروحَه للربِّ. ورغم أنه قد يشارك في الحياة السياسية «كمسافر في بلد غريب» (مدينة الله)، إذا أهَّلته مواهبه لها، فلا ينبغي أن تكون هذه المشاركة إذعانًا سلبيًّا بل واجبًا إيجابيًّا. إن المجتمع بحاجة إلى أشخاص يتحلَّون بالنزاهة في الخدمة العامة، وكذلك في مجال التجارة؛ أولئك الذين يتمتعون بالشجاعة ويقفون بالمرصاد للرشوة وتهديدات أصحاب النفوذ والأثرياء. توضح ملاحظات أوغسطينوس أن هؤلاء نادرون.
بالنسبة إلى الضمير المسيحي، كانت العدالة الجنائية والخدمة العسكرية تمثلان أكثر القرارات الأخلاقية إشكالًا. شارك أوغسطينوس وجهةَ النظر التي كادت تكون عالمية للكنيسة الأولى، والتي مفادها أن التعذيب والعقوبة القصوى غير مقبولين في دولة مستقلة تستند إلى تقييم مسيحي للإنسان. ويجب على المرء أن يقول إن وجهة النظر هذه «كادت تكون عالمية» ما دام هناك أيضًا رأي — يدعمه رجل قانون مسيحي معتكف مجهول الهوية في القرن الرابع — مفاده أن القانون الجنائي للإمبراطورية المسيحية ينبغي أن يجسِّد مبدأ القصاص الخاص بالعهد القديم، وأن يكون أكثر حزمًا من القانون الروماني التقليدي؛ في العصور الوسطى أمسى كتابه الصغير متداولًا على نطاق واسع جدًّا. كان أوغسطينوس معارضًا بشدة للتعذيب الذي كان أمرًا اعتياديًّا في الإجراءات الجنائية، ولا سيما محاكمات الخيانة العظمى؛ فقد كان التعذيب يحمل الأبرياء على الاعتراف بأفعال لم يقترفوها ويشوِّه أجسادَهم في نهاية المطاف. وحكم أوغسطينوس أن العقوبة القصوى لا تتوافق مع نية الإصلاح، وعلاوة على ذلك، أحيانًا ما تُرتكب الأخطاء. ولكن، فيما يتعلق بالخدمة العسكرية، كان أوغسطينوس أقل تشددًا؛ فقد سلَّمَ بأنه دفاعًا عن النفس أو استعادةً للممتلكات المسروقة، يمكن أن تكون القوة مشروعة. ألم يحاجج شيشرون نفسه بأن الحروب لا ينبغي أن تُشَنَّ إلا دفاعًا عن النفس أو الشرف؟ بالنسبة إلى أوغسطينوس، لم تكن الحرب وسيلةً مناسبة لتسوية النزاعات، وشارك الأمل بأن يتم تقويض الحروب في العصور المسيحية. لكنه أدرك أن العدوان الغاشم الذي تعين مقاومته لأجل القيم التي يُجِلُّها المسيحيون إجلالًا عظيمًا سيستمر؛ فعندما أغار رجال قبائل الصحراء الغربية على المستوطنات الرومانية، راسل القائد العسكري المسيحي ناصحًا إيَّاه بأن يعتبر قمع المغيرين واجبًا دينيًّا.
ومع ذلك، آمن أوغسطينوس بأن تعظيم ضبط النفس فيما يتعلق بالأعمال العدائية ضرورة دينية وسياسية. إن الطبيعة الإنسانية التي يقتضيها الدين كانت أيضًا صحيحة سياسيًّا. وعلى أساس أن الحروبَ قد لا يكون هناك مفرٌّ منها أحيانًا، فإنها يجب أن تُشنَّ باحترام للإنسانية، فلا ينتهي الحال بالخصم إلى الشعور بالذل والامتعاض بما يغرس بذور ثقافة الصراع. ولا ينبغي بأي حال من الأحوال قتل الأسرى (كما كانت العادة في الحروب القديمة). ولكن، إذا وجد جنديٌّ ما نفسَه يشارك في حرب تبدو عدالتها بالنسبة إليه موضعَ شكٍّ، فكفاه إراحةً لضميره أنه كان يُطيع الأوامر لا أكثر. لكن المبادئ العامة للقانون الجنائي الداخلي لإمبراطورية عادلة كانت تنطبق بالمثل على الصراعات بين الدول.
لم يرَ أوغسطينوس، شأنه في ذلك شأن أفلاطون وَأرسطو، أن مهنة السياسة منفصلة عن كافة القضايا الأخلاقية، رغم أنه لم يعتقد أن العالم العلماني قادر على إقامة مجتمع عادل بحقٍّ.
في «مدينة الله» هناك أماكن تمثِّل فيها روما الرأس الرمزيَّ للمجتمع الدنيوي في يد قوات شيطانية، بينما تمثِّل الكنيسة على الأقل إرهاصًا بمدينة الله. يُعطى النقيض التنبئي أقصى زخم له، وبذلك يخلق الفرضيات المسبقة ﻟ «العلمانية» من قبيل فرضية كون الدين عالمًا من عوالم الاهتمام لا يمت بِصلة إلى انشغال العالم في الأساس بالسلطة والشرف والثروة والجنس. ولكنْ هناك أيضًا نصوص يُضفى فيها على روما أهمية في غاية الرب من هذا العالم، بينما يُنظر إلى الكنيسة التجريبية على اعتبار أنها تفشل في تحقيق نوايا إلهية؛ نظرًا لتنازلاتها للعالم العلماني. كان أوغسطينوس على يقين من أن اعتناق المسيحية سيخفِّف من حِدَّة بعض المشكلات الاجتماعية والسياسية لكنه لن يقدِّم حلولًا فورية. وتبيِّن كتاباته المناهضة للدوناتية أنه لم يَرَ «الكنيسة والدولة» كقوتين مستقلتين. ورغم أنه آمن بأن الحاكم المسيحي يجب أن يدعم الكنيسة ويُشاع عنه معارضته للرذائل، كان من الممكن أن يصاب بالذهول بشدة من واضعي القوانين الكنسية في العصور الوسطى الذين فسَّروا أنه يُلمِّح إلى أن الإمبراطورية ينبغي أن يديرها الأساقفة على أن يرأسهم البابا. لقد أُشرب أوغسطينوس حب الكنيسة، لكن إخفاقات أعضائها — الكهنوتيين والعلمانيين على حدٍّ سواء — جعلته يعيش لحظات كئيبة سوداوية.
في خاتمة «مدينة الله» أورد أوغسطينوس المذهب المسيحي ﻟ «الأشياء الأخيرة»: للمدينتين الدنيوية والسماوية أَوْجُهما الخاص بكلٍّ منهما في الجحيم وفي الفردوس. ولقد غرست بداخله الحقيقة المطلقة لهذا الخيار بين الأبيض والأسود شكوكًا. فلا شك أن الكنيسة ضمَّت على الأرض أفرادًا يتحلَّون بالإخلاص والخيرية المتفانيين، رغم أنهما مبهمتان عادة؛ أفرادًا يدركون الحالة الملائكية في هذه الحياة الدنيا. وضمَّت الكنيسة كذلك أناسًا كان لاعتناقهم المسيحية، على الأقل في بداية الأمر، دافع دنيوي جدًّا؛ حيث كانوا يخشون إثارة غضب قديس مساند واسع النفوذ، أو يريدون أن يخطبوا ودَّ امرأةٍ ما، أو يعقدون الآمال على أن تجلب لهم المسيحية حظًّا وفيرًا في تجارتهم. ودخل البعض في المسيحية طلبًا للصحة البدنية، ولم يكن أوغسطينوس قطُّ يُقلِّل من شأن هؤلاء، رغم أن معلمي الديانة المسيحية ينبغي أن يعلموهم أن الدين له غايات أسمى. كان أغلب أعضاء كنيسة أوغسطينوس «أناسًا عاديين». وفيما يتعلق بأساس الإيمان، وجد أن السجل الأخلاقي لهؤلاء كان أشبه بالخشب والقش القابل للاشتعال منه إلى الذهب أو الفضة القادريْن على الصمود أمام النار التطهيرية لحكم الرب (رسالة بولس إلى أهل كورنثوس). كانوا يدعون الله أن يغفر لهم خطاياهم، وبالنسبة إلى آمالهم في الآخرة، فكانوا يعوِّلون على رحمة الرب التي يلتمسونها في ذكرى القربان المقدس لفداء المسيح وشفاعة الكنيسة القائمة والسابقة. لم يكن أوغسطينوس قطُّ رجلًا يوحي بأن المطالب الأخلاقية المنوطة بالمسيحيين أقل من أن توصف بالمتشددة، أو أن المصير في الحياة الآخرة لا يرتبط بأعمال البشر في الحياة الدنيا؛ لكنه يدرك أنه في رحلة الروح الآن وفي مملكة الرب لا يمثِّل الفناء المادي للجسد إلَّا حادثًا عارضًا على الدرب. وفي هذه الحياة الدنيا، ما من أحد خالٍ من الخطايا سوى المسيح، وإذا أضفنا، «بحسب مقتضيات التقوى»، أن السيدة مريم العذراء لم تقترف ذنبًا فعليًّا (حول الطبيعة والنعمة الإلهية)، افترض أوغسطينوس أنها لم تولد مبرَّأة من الخطيئة الأولى، وأن ابنها هو الذي يخلِّصها (شروحات المزامير). وخلاف ذلك، فإن تدنيس الحياة في هذا العالم يلوِّث الجميع (مدينة الله).
ولذلك كان التطهير عملية طويلة متواصلة. وبعد الموت سيكون هناك الذين تقض مضجعهم أحلام تمنحهم استراحة (العظات). ظن أوغسطينوس أن «الجحيم» ليس بمكان فعلي بقدرِ ما هو حالة للروح العَمِيَة والمغتربة عن الرب. سَخِر الوثنيون من الفكرة كفزَّاعة لتخويف الناس وحملهم على اعتناق المسيحية. لكن الفلاسفة الأفلاطونيين أنفسهم ظنوا أنه ما من ذنوب تمر دون عقاب، وأن هناك تقويمًا تصحيحيًّا وتأديبًا. ووافق أوغسطينوس على أن العقاب السماوي تقويمي لكلِّ الذين ينالونه.
من الخطأ التعامل مع كتاب «مدينة الله» على اعتبار أنه بيان عن النظرية السياسية، أو على اعتبار أنه يحوي فلسفة تاريخية تستهدف استبيان نمطٍ سماوي علوي في مسار الأحداث. وحقيقة الأمر، في عدة مواضع من هذا العمل نجد أن الحجة مصممة بحيث تبيِّن كم من الصعب إدراك هذا النمط. يصعد نجم قُوًى عظمى ويخبو في تاريخ العالم، ولا تتجلَّى لنا قطُّ علة هذا الصعود والسقوط. وعدم إمكانية التنبؤ بالموت وبقرارات الإرادة البشرية يعني أن هناك الكثير من الأشياء غير المؤكدة. ويعتنق المؤمن فكرة أن ما لا ينسجم مع عقل الإنسان ينسجم مع الرب. وقد تَحْمِل الكوارث الإنسان على البكاء، لكنها لا ينبغي أن تصيبه بالذهول (الرسائل). ويقدِّم أوغسطينوس آمالًا أكثر للفرد مقارنةً بمؤسسات المجتمع البشري المُعرَّضَة تحديدًا أن تكون وسيلة للغرور الجمعي. على أي حال، ما من أفلاطوني يستطيع بسهولة أن يستشعر التاريخ انطلاقًا من كونه عملية مكتفية ذاتيًّا ومستقلة بنفسها لها عللها ومعلولاتها المنظورة وأهدافها المتأصلة في حركة السببية.