نهضة تعليم البنات في مصر
في يونيه سنة ١٩٠١ نجح في الشهادة الابتدائية لأول مرة ثلاث تلميذات هن السيدات: المرحومة ملك حفني ناصف، وفيكتوريا عوض — الآن مدام هنري بك بدير مدير مخازن وزارة الصحة — وألجرابلنتر، وفي أكتوبر سنة ١٩٠١ فتح قسم المعلمات في السنية، ودخل فيه هؤلاء الثلاث في السنة الأولى، وفي يونيه سنة ١٩٠٣ نجح في امتحان دبلوم معلمات السنية لأول مرة أيضًا طالبتان؛ هما المرحومة السيدة ملك حفني ناصف، والسيدة الفاضلة فيكتوريا عوض، أما الثالثة فرسبت في الامتحان، وفي أكتوبر سنة ١٩٠٣ عين كل من المرحومة السيدة ملك حفني ناصف والسيدة فيكتوريا عوض معلمةً بالمدرسة السنية.
وفي نفس هذا التاريخ دخلت أنا السنة الأولى من قسم معلمات السنية أي في أكتوبر سنة ١٩٠٣، وكان قسم المعلمات يشمل ثلاث سنوات الأولى والثانية والثالثة، ومجموع تلميذات هذه السنوات الثلاث كان بالتحديد ١٤ طالبةً، بالسنة الثالثة أربع طالبات هن السيدات: ألجرابلنتر التي رسبت في أول امتحان لدبلوم معلمات السنية، وآسيا عبد الفتاح — الآن حرم محمد بك حمدي مرتضى وكيل مديرية المنوفية — وتوحيدة صبحي — الآن حرم حضرة صاحب العزة محمد بك شفيع — وعائشة الشيمي. وبالسنة الثانية خمس طالبات هن المرحومتان السيدة فاطمة عمر شقيقة عبد العزيز باشا فهمي، وحرم عبد المجيد باشا عمر، والمرحومة السيدة نور الهدى عبد الله، والسيدات زينب بهجت، وزينب فؤاد، وهانم صالح. أما السنة الأولى فكان بها خمس طالبات أيضًا؛ هن السيدات: عائشة صبحي — الآن حرم إسماعيل باشا رمزي — وبهية حسونة، ونور حسن، وأديل دياب، ونبوية موسى، على أنه لم ينجح في دبلوم معلمات السنية من هؤلاء الطالبات الأربع عشرة إلا ثمان فقط؛ اثنتان نجحتا في سنة ١٩٠٤، وهما السيدتان آسيا عبد الفتاح، وتوحيدة صبحي، على أن الأخيرة منهما لم تعمل في التعليم، واثنتان في سنة ١٩٠٥ هما السيدتان نور الهدى عبد الله، وزينب بهجت، والأخيرة منهما لم تعمل في التعليم أيضًا، وفي سنة ١٩٠٦ نجح جميع طالبات السنة الأولى اللائي ذكرتهن الآن ما عدا السيدة عائشة صبحي مع أنها كانت من المتقدمات؛ إذ كانت الثانية دائمًا، ولكنها تركت المدرسة في نهاية السنة الثانية، وقد كانت أمهر طالبات السنية في اللغة الإنجليزية، حتى إنها كانت تكتب في الإنشاء الإنجليزي ما يزيد عن أربع صفحات فلا تخطئ فيها مرةً واحدةً.
ومن العجيب أن هذا الفصل الذي كنت أنا إحدى طالباته نجح كله في دبلوم معلمات السنية، واشتغل كله أيضًا بالتعليم ما عدا السيدة عائشة صبحي كما قدمت، وفي الصفحة التالية صورة تاريخية لجميع طالبات قسم المعلمات بالمدرسة السنية، ومعهن ثلاث معلمات إنجليزيات إحداهن مس كارتر، وهي الآن كبيرة مفتشات اللغة الإنجليزية بوزارة المعارف، وقد خدمت تعليم البنات في مصر ٣٨ سنةً، خدمته بإخلاص ونشاط قلما يوجدان في غيرها، فتقدم طريقة التعليم باللغة الإنجليزية يعود إلى جهودها الجبارة وإخلاصها النادر، ومس كارتر تكاد تتوقد ذكاءً وعبقريةً، وهي كتلة نشاط إلى الآن لم تكل قواها، ولم تتضعضع عزيمتها، بل هي الآن بنفسها مس كارتر الشابة التي كانت تدهش طالباتها باجتهادها ونشاطها النادرَيْن.
هذا هو مجمل بسيط لنهضة تعليم البنات في مصر، ولست أتغالى إذا قلت إن قسم المعلمات في المدرسة السنية في ذلك الحين كان أقوى بكثير في اللغة الإنجليزية على الخصوص من الحاصلين على شهادة كلية الآداب، أو المعلمين العليا الآن، وكان ذلك يرجع لنشاط مس كارتر ودقتها في العمل.
لقد خرجت المرحومة فاطمة عمر من المدرسة السنية في سنة ١٩٠٤ دون أن تتم دراستها لأسباب ربما شرحتها فيما بعد، وقد تركت التعليم وتزوجت ورزقت أطفالًا انشغلت بحبهم انشغالًا عجيبًا مدهشًا، وكان المظنون بعد هذا كله أن تنسى كل شيء عن التعليم، ولكنها كانت مع هذا تتكلم باللغة الإنجليزية كإحدى بناتها، وتكتب باللغة العربية بأسلوب أدق وأرقى من أسلوب النابهين من طلبة التخصص في اللغة العربية بالأزهر الشريف أو طلبة دار العلوم العليا، وكذلك السيدة عائشة صبحي، أو حضرة صاحبة العصمة حرم إسماعيل باشا رمزي؛ فهي تجيد اللغتين الإنجليزية والعربية إجادةً يدهش لها من سمعها تتكلم اللغة الإنجليزية، أو قرأ ما تكتبه باللغة العربية هذا مع عنايتها التامة بأبنائها ومنزلها.
ومن لطائف ما أتذكره أن المعلمات الإنجليزيات كن يخالطننا مخالطة الند للند، ويلعبن معنا، وكنا مع احترامنا وحبنا لهن نترجم أسماءهن على سبيل الفكاهة والتسلية، وكان لأغلبهن أسماء لها معناها؛ فكنا نقول عن مس كارتر مثلًا الست عربجي، وعن مس هاني برن مدموزيل عسل محروق، ومس ليتش الآنسة دودة، ومس بورد السيدة لوح، وكان سرورنا بمخالطة المعلمات الإنجليزيات عظيمًا خصوصًا عندما كنا نمزح معهن فلا يغضبهن ذلك المزاح، فكنا ننادي مس بورد عن بعد يا سيدة لوح، وكانت تعرف أن هذا اسمها فتضحك ونضحك، ومن هذه المخالطة اكتسبنا قوةً في اللغة الإنجليزية يندر أن توجد في طلبة العصر الحالي، وكانت الوزارة هي التي تقوم بامتحانات النقل في المدرسة السنية؛ ولهذا كانت كل معلمة تجتهد في تقوية تلميذاتها في المادة التي تدرسها خشية أن يظهر ضعفها في التدريس أمام الوزارة في آخر العام.
وكانت الوزارة تُعنى بامتحاننا عنايةً تامةً فتمتحننا تحريريًّا وشفويًّا، ويقوم بذلك الامتحان أكبر رجال الوزارة مقامًا وسنًّا.
وكان من مفتشي وزارة المعارف المستر بويد كاربنتر، فجاء ليمتحننا في اللغة الإنجليزية شفويًّا، وكنت قد سمعت باسمه فأخذ يناقشني في أفكار المصريين، فقال إنهم يهتمون بالتعليم، ويهملون الصناعة، وأردت أن أنتصر لبلدي فقلت: إنهم على حق يا سيدي، فإنه لا صناعة بلا تعليم، والعلم هو الذي يرقى بالصناعات، أما صناعة الجهلاء فلا قيمة لها. قال: ولكن المصريين يحتقرون الصناعة وأربابها. قلت: إنهم على حق ما دام أرباب الصناعة الآن جهلاء، ألست ترى يا سيدي أنه من العار أن تكون الفتاة ابنة نجار مثلًا؟ قلت ذلك، وضغطت على كلمة نجار، ومعناها بالإنجليزية كاربنتر، وهو اسم المفتش، ضغطت على الكلمة في شيء من الدعابة، وفهم المفتش أني أريد التلميح باسمه فضحك، وقال: أشكرك، ثم أعطاني الدرجة النهائية.
وكان الشيخ شريف، وهو من أكبر مفتشي اللغة العربية في ذلك الوقت يمتحننا في اللغة العربية شفويًّا، وكان رجلًا شديدًا في امتحانه، لا يكف عن الأسئلة إلا إذا عجزت الطالبة عن الإجابة، ولما كان أول اسمي نونًا فقد كان يوضع في آخر كشف الامتحانات، وأخذ الأستاذ يناقش زميلاتي الواحدة بعد الأخرى، ولا ينتهي من امتحان إحداهن إلا عجزت، وأجابته بجملة «لا أعرف»، وجاء دوري فأخذ يناقشني وأجيبه، ويظهر أنه ضايقه هذا، وأراد أن يحملني على الاعتراف بعدم المعرفة، وكان في يده صحيفة المؤيد لصاحبها السيد علي يوسف باشا، وبها أربعة أبيات للمرحوم إسماعيل باشا صبري، ولم أكن قرأت تلك الصحيفة، وكانت الأبيات حديثةً لم تدون في كتب الأدب، ومع هذا فقد قرأها لي الأستاذ، ثم سألني عن قائلها، وكانت أسئلته ببطء وبنغمة مخصوصة، فقال ما نصه: «أنت. تعرفي. مين. اللي. قال. هذه الأبيات؟» وعرفت غرضه، فتحاملت عليه وأجبته بنفس نغمته وترتيبه، فقلت: «أنا. مش. ضروري. أعرف مين. اللي. قال. هذه الأبيات.»
وما كاد الأستاذ يسمع هذا التهكم حتى رفع رأسه، وشعر بخطئه في السؤال فنظر إليَّ وقال: متشكر، ثم وضع لي الدرجة النهائية.
وعلى ذكر هذه الامتحان أقول إننا كنا في الشهادة الابتدائية نحسن التخاطب باللغة الإنجليزية أكثر من طلبة البكالوريا الآن، وأذكر أنه في امتحان الابتدائية كان يمتحنني في اللغة الإنجليزية رجل وسيدة، فقال لي الرجل: ما اسم السيدة التي تخيط ملابسك؟ ولم أتذكر كلمة خياطة في ذلك الوقت، وأردت أن أشغله بإجابة أخرى حتى أتذكر الكلمة، فقلت له: إني أنا التي أخيط ملابسي. قال: وماذا نسميك إذن؟ قلت: وهل تستطيع أن تسميني إلا تلميذةً سواء في ذلك أأخطت ملابسي أم لم أخطها؟ قال: افرضي أنك ترسلين ملابسك لسيدة لخياطتها فما اسمها؟ قلت: إن هذا الفرض يحتاج إلى المال الذي ليس معي شيء منه؛ ولهذا لا أستطيع أن أفرضه. واغتاظت السيدة من تلاعبي هذا، وقالت لي بحدة: إنها هي ترسل ملابسها إلى سيدة لخياطتها، فما اسم هذه السيدة؟ وهنا تذكرت الكلمة فضحكت ضحكة الظافر، وقلتها لها، على أن كلام السيدة كان فيه ما ذكرني بالكلمة المطلوبة، وأراد الرجل أن يداعبني، أو يضايقني بعض الشيء فقال: أتحسنين الغناء؟ قلت: كلا. قال: هل تعرفين الرقص؟ قلت: لا. قال: فهل تلعبين على البيانو؟ وساءني أن تكون إجابتي كلها بالنفي، وهي كلمة لا تدل على مقدرة الطالبة في اللغة الإنجليزية فقلت له: لا تسألني هذه الأسئلة، فإني لم أخلق لمثل هذه الحياة. قال: فبماذا تتسلين إذن؟ قلت: أحل بعض المسائل الحسابية. فضحك الرجل، وقال: مخلوق عجيب!
وفي اليوم التالي كان امتحان الحساب، وكان فيه مسألة عقلية صعبة لم تحلها تلميذة واحدة في اللجنة، فجاءني المفتش، وكان مراقبًا في الحساب، وطلب مني أن أريه نتيجة تلك المسألة، فلما رآها قال: صدقت فيما قلته أمس من حبك للحساب.