نزق الشباب
كان بقسم المعلمات كما قدمت ١٤ طالبةً، ولم يكن في مصر قاطبةً من نال الشهادة الابتدائية إلا هؤلاء الطالبات الأربع عشرة، وكانت الضابطات اللائي يقمن بمباشرة نظام المدرسة لم ينلن شهادات، فكانت الطالبات يتكبرن عليهن؛ لأنهن يعتقدن أنهن أعلم من ضابطاتهن، وأن بأيديهن برهانًا قاطعًا على صدق هذا الرأي ألا وهو الشهادة الابتدائية التي لم ينلها أحد غيرهن.
وحدث أن عاقبت إحدى الضابطات طالبةً من هؤلاء الفطاحل، فقام قسم المعلمات لذلك وقعد وأرغى وأزبد، وشمخ بأنفه واستكبر، وقر رأي الطالبات جميعهن على الاحتجاج على ذلك العمل الذي لا يليق بكرامة فتاة نالت الشهادة الابتدائية، وكانت السيدة آسيا عبد الفتاح، أو صاحبة العصمة حرم محمد بك حمدي مرتضى أولى السنة الثالثة؛ أي أولى قسم المعلمات فكتبت احتجاجًا، وطلبت من جميع الطالبات إمضاءه والذهاب معها إلى الناظرة لتقديم ذلك الاحتجاج، وكنت أنا في السنة الأولى من قسم المعلمات، ولكني سخرت من ذلك العمل، ورفضت أن أنضم إليهن في مثل هذا الاحتجاج السخيف، وقلت إنه لا بد للمدرسة من ضابطات يحافظن على النظام، وما دام ليس في مصر من يحمل الابتدائية فلا بد من وجود ضابطات لا يحملنها، ولا بد من وجوب احترامهن ليستطعن القيام بعملهن، وعارضتني الطالبات في آرائي هذه، وقلن إنهن لا يحتجن إلى من يشرف على نظامهن؛ لأنهن حاصلات على الشهادة، ولأن المشرفات جاهلات، وصممت على رأيي، وأخيرًا ذهبت الطالبات إلى السيدة مَلَك حفني، وشكون إليها عصياني، وعدم تضامني معهن في احتجاجهن فطلبت مني أن لا أخالف الإجماع، وأن أنزل على رأي الأكثرية من زميلاتي، فقلت لها: إني أقبل ذلك على شرط أن يتعهد هؤلاء الزميلات بالوقوف في وجه الناظرة إن هي غضبت من ذلك الاحتجاج، وعاقبتنا جميعًا. فقبلت هذا الشرط، وتعهدت الطالبات بأنهن يتركن المدرسة إن أوقعت الناظرة بهن عقابًا لهذا الاحتجاج.
وهكذا ذهبنا جميعًا نقدم الاحتجاج إلى حضرة الناظرة، وكان اسمها مس جون ستون، أو «حنا حجر» كما كنا نترجمه، وما كاد يقع نظرها علينا حتى غضبت، وأمرتنا بالانصراف فانصرفنا، واستدعت الأولى، وهي السيدة آسيا عبد الفتاح، وأخبرتها أننا جميعًا معاقبات، وأنه يجب علينا أن نلزم حجرة النوم من الساعة الرابعة بعد الظهر، وأن تكتب كل منا الجملة الآتية، وتعلقها على سريرها، وهي «يجب على الطالبات إطاعة الضابطات»، وجاءتنا السيدة آسيا بالورق والدواة تطلب منا الكتابة، وتبلغنا العقاب، وثارت ثائرتي، ورفضت أن أكتب، وطلبت من السيدة ملك حفني أن تبر بوعدها لي، فأرغمت الطالبات على مخالفة ذلك الأمر والذهاب إلى الناظرة للاحتجاج عليه، وارتدت كل منا ملابسها، وذهبنا إلى الناظرة لنخبرها بأننا لا نستطيع تنفيذ هذا العقاب، وأننا مصممات على ترك المدرسة إذا هي صممت على عقابها هذا.
دخلنا مكتب الناظرة فاستقبلتنا بشدتها، وسألتنا ماذا نريد؟ فلم يستطع أحد أن يجيبها، وكررت السؤال مرارًا، وقابلنا ذلك السؤال بالصمت مرارًا أيضًا، وخشيت أنا أن تأمرنا بالخروج، وتضاعف لنا العقاب فقلت لها: لقد جئنا نخبرك أننا لا نستحق هذا العقاب؛ لأننا لم نفعل شيئًا، وإن كنا قد احتججنا على عقاب زميلة لنا، فما كان يستوجب ذلك عقابنا، بل كان عليك أن تشرحي لنا أننا مخطئات، وأن للضابطات حقَّ عقاب تلك الزميلة، ولو أنك فعلت هذا لخرجنا من عندك راضيات، أما الآن فنحن لا نقبل البقاء في مدرسة نعاقب فيها بلا ذنب، ولا جريرة. وساء الناظرة أن أتكلم أنا مع أني من السنة الأولى، وما كان لمثلي أن يتكلم، ومعه طالبات السنة الثالثة اللائي هن أحق مني بالكلام؛ ولهذا ظنَّتْ أني أنا التي دفعت الطالبات إلى هذا الاحتجاج، وأرادت أن تنهي المسألة فقالت: وإذا عفوت عنكن، فهل تعدنني أنكن لا تعدن إلى مثل هذا الطيش؟ قلت: لك ذلك. قالت: لا بأس! فاذهبن إلى شأنكن.
تحملت الناظرة مني منذ ذلك اليوم، وأرادت أن تنتقم مني منفردةً، وبعد ذلك الحادث بأسبوع مرضت معلمة الجغرافية، فحلت محلها الناظرة في إعطائنا حصة الجغرافية فدخلت الفصل، وأمرتنا بإخراج الأطالس وكتب الجغرافية، وكنت أنا آخر من أخرجت كتابها، فقالت لي بلهجة التأنيب: أبشرك بأنك سترسبين في آخر العام. فقلت: وأنا أؤكد لك أن هذه البشرى غير صحيحة، ومحال أن أرسب، وأنا أولى هذه الفرقة. قالت: أتعارضينني فيما أقول؟ قلت: ولِمَ لا؟ وهل من المنطق أن أرسب أنا! لا لسبب سوى أني تأخرت ثانيةً أو ثانيتين في إخراج كتابي؟ قالت: أرجوك أن تتركي الفصل الآن، وتذهبي إلى عنبر نومك، وأن لا تعودي إلى الفصل إلا إذا اعتذرت إليَّ. فتركت الفصل غاضبة وذهبت إلى عنبر النوم وبقيت به يومين دون أن أعتذر إليها، وكنت أقضي كل وقتي في المطالعة، ويئست هي من اعتذاري، وجاءتني في عنبر النوم متظاهرةً أنها نسيت وجودي فيه، وأظهرت دهشتها عند رؤيتي، ثم سلمت عليَّ فقمت لها، وسلمت عليها، وجلست على السرير، وأمرتني بالجلوس إلى جانبها، وقالت: لِمَ لمْ تعتذري إليَّ الآن؟ قلت: لم أفعل ما يوجب الاعتذار، فإني على يقين أني لن أرسب، وهذا ما قلته لكِ فهل في ذلك من بأس؟ وهل تُمنع الفتاة من أن تقول ما تعتقد ما دام ليس فيه ما يضر بغيرها؟ قالت: لقد صدقت، وإني أعتبر ذلك منك اعتذارًا، فهيا إلى فصلك. وسرت معها، وهي ممسكة بيدي إلى أن وصلنا إلى باب الفصل فدخلته.
وقد ترك هذا الحادث وسابقه في نفسها أثرًا عظيمًا، وأرادت أن تنتقم مني، فكتبت إلى الوزارة تقريرًا تقول فيه إن نبوية موسى متأخرة جدًّا خصوصًا في اللغتين العربية والإنجليزية والحساب، أما اللغة الإنجليزية فقد كنت متأخرةً فيها، ولكني لا أدري لم اختارت هاتين المادتين اللتين اشتهرت أنا بالتفوق فيهما، ولعلها أرادت بذلك أن تترك في نفس المفتشين أني ضعيفة في اللغتين، فإذا خجلت، أو تلعثمت في إحداهما وقت الامتحان الشفوي كان ذلك باعثًا لهم إلى عدم إنجاحي في الامتحان الشفوي.
وكان مكتب الناظرة في الفناء، وشاء الحظ أن أعثر على ورقة تطير في الفناء بقرب باب الناظرة، وإذا بها مسودة ذلك التقرير، وقد دهشت عند قراءتها، وكاد اليأس يقضي عليَّ لولا أني اعتزمت المثابرة والجد، وضاعفت جهودي في اللغة الإنجليزية لأكذب ما ادعته في تقريرها؛ فاجتهدت في ذلك العام اجتهادًا لم أقم به من قبل، وأجرت هي امتحان ثلاثة الشهور الأولى فكنت الأولى، وساءها ذلك فجاءت تؤنب الفصل جميعه، وتقول إن هذا الفصل أبلد فصل في المدرسة مع العلم أن فصل السنة الأولى كما قدمت كان هو الفصل الوحيد الذي لم يرسب منه أحد؛ إذ نجح في امتحان الدبلوم من السنة الثالثة طالبتان من أربع، ومن السنة الثانية طالبتان من خمس، أما من فصل السنة الأولى فقد تخرج منه أربع معلمات من خمس طالبات، أو بعبارة أخرى من أربع طالبات؛ لأن الطالبة الخامسة، وهي من المتقدمات لم ترسب، ولكنها تركت المدرسة، ومع هذا فقد زعمت الناظرة أن فصل السنة الأولى هو أبلد الفصول الثلاثة بدليل أن الأولى فيه لم تتغير مع أن الأولى في باقي الفصول تتغير من امتحان لآخر، وكانت تريد بذلك الكلام دفع زميلاتي إلى العمل حتى لا أكون أنا الأولى في امتحان ثلاثة الشهور الثانية.
وفي امتحان ثلاثة الشهور الثانية أرادت أن تزحزحني عن مكاني، وعلمت أنها لا تستطيع شيئًا في تغيير الدرجات التحريرية، فعمدت إلى الامتحان العملي للتربية؛ أي فن التعليم فحضرته بنفسها، ووضعت هي الدرجات فأعطتني ٤٠ درجةً من ١٠٠، وأعطت لكل من زميلاتي فوق التسعين، وبهذا اعتقدت أن هذا الفرق العظيم في درجات التربية العملية سينزل بي عن مكانتي، ودفعني اضطهادها هذا إلى مضاعفة جهودي في الامتحان التحريري، وظهرت النتيجة، وجاءت لتقرأها علينا، وقبل أن تبتدئ في القراءة قالت: إني آسفة أشد الأسف. فكمَّلت لها جملتها بسرعة قائلة: لأن نبوية موسى لا تزال الأولى. فنظرت إليَّ، وقالت: نعم هو ذلك ما آسف له، وما أوبخ زميلاتك عليه؛ لأنهن لو اجتهدن لما استطعت أنت المحافظة على مكانتك في كل امتحان.
دخلنا امتحان النقل بعد هذا، وقد قام به المفتشون، وكنت أولى فرقتي، وأرسلت الوزارة تقريرًا إلى المدرسة تقول فيه: لقد برهنت الطالبة نبوية موسى على أنها أولى قسم المعلمات جميعه في أغلب المواد خصوصًا في اللغتين العربية والإنجليزية والحساب، وكان هذا ردًّا خالصًا على تقرير الناظرة.