عزة النفس تنقلب جبنًا
ذكرت في ذكرياتي السابقة كيف كانت مظاهرة الطالبات ضد الضابطة التي عاقبت إحداهن سببًا في خلق عداء بيني وبين الناظرة لم يكن لي ذنب فيه، وكأن هذا الدرس لم يفدني كثيرًا، فلم ألبث أن وقعت في خطأ غيره.
اعتاد معلم اللغة العربية أن يتركنا واقفات عند بدء حصته، فلا يأمرنا بالجلوس إلا بعد خمس دقائق أو ست، وفي أثناء ذلك يكون هو مشغولًا بالكتابة في كراسة تحضيره، ويظهر لي أن الرجل لم يكن يعد درسه في كراسة التحضير قبل دخوله الفصل، فهو يتركنا واقفات إلى أن ينتهي من إعداد درسه حتى إذا دخلت الناظرة عليه لا تلاحظ أننا جالسات، بينما يكتب هو مذكرة الدرس أمامنا.
ساء ذلك زميلاتي؛ لأنهن اعتبرنه إهانةً لا مبرر لها خصوصًا لطالبات حصلن على الشهادة الابتدائية في الوقت الذي كانت فيه تلك الشهادة في نظر الناس أعلى من الدبلومات.
ساءهن ذلك، وشكون إليَّ أمرهن، وطلبن مني أن أكلم المعلم في ذلك؛ لأنهن لا يستطعن أن يعاتبنه خشية أن يثور عليهن، أما أنا فلي عنده مكانة خاصة أستطيع معها عتابه، هذا ما قالته زميلاتي، وإن كنت أنا شخصيًّا لم أقرهن عليه، كما أني لم أكن متألمةً من وقوفي ٥ دقائق، ولكنهن ألححن عليَّ في الطلب، فقبلت منهن ذلك، وقلت لهن سآمركن بالجلوس عند دخوله فأطعنني، وإذا أمركن بالوقوف، فإياكن أن تفعلن ذلك.
دخلنا الفصل على هذا الاتفاق، ودخل المعلم فقمنا له، ثم جلس ليكتب في كراسة تحضيره حسب عادته، فأمرت أنا زميلاتي بالجلوس بصوت مسموع وجلست معهن، وتنبه هو لذلك فغضب، وأمرنا في حدة بالوقوف، فوقفت الطالبات وبقيت أنا جالسة، فأمرهن بالجلوس وأمرني بالوقوف فلم أقف، وقلت: إني لم أفعل ما يستحق العقاب، وإن الطالبات لم يكن معاقبات، وليس للمعلم أن يعاقب الطالبات بلا ذنب ولا جريرة؛ ولهذا اعتبرت أن مجرد انشغاله بالكتابة هو الذي منعه من أن يأمرهن بالجلوس، وبما أني أولى هذه الفرقة فقد رأيت من واجبي أن آمر التلميذات بالجلوس بالنيابة عنه، فلا داعي إذن للغضب مما فعلت؛ ولهذا لا أرى معنى لعقابي بالوقوف.
غضب المعلم لذلك، ولكنه كظم غيظه وسكت، وتجنبني بعد ذلك فلم يكلمني إطلاقًا، ولم يسألني، ولم يكن ذلك مما يغضبني، بل كنت أسر من أن أستمع إلى المعلم، وهو يناقش الطالبات دون أن أدخل أنا في ذلك النقاش.
لهذا مضى عليَّ بعض الوقت دون أن يكلمني، ودون أن أتألم من ذلك الحرمان، وكانت زميلتي عائشة صبحي تجلس إلى جانبي، وكانت مؤدبةً خجولةً على جانب عظيم من الآداب الشرقية شديدة الحياء مع ذكائها، وتوقد قريحتها، فكان إذا سألها نظر إليها، فتخجلها نظراته إلى حد يجعلها ترتبك فتردد الكلمة «يا أختي» في شيء من الحيرة والتردد، وزاد ذلك منها مرةً إلى حد ضايقني، فقلت لها: ما هذا هل تريدين أن نحفظ منك هذه الكلمة؟! أرجوك إذا كنت تعرفين الجواب أن تدلي به وإلا فاجلسي.
وهنا قال المعلم لعائشة: أرأيت أنك لم تعجبي نبوية؟ وساءني ذلك منه فقلت له: كلا إني راضية عنها كل الرضاء، وأنت الذي لا تعجبني لا هي. وساءه ذلك، ولكنه لم يستطع أن يعمل شيئًا، واشتد الجفاء بيني وبينه، وسأل زميلتي في يوم آخر عن وزن الفعل آثر، وارتبكت كعادتها، فهمست إليها قائلةً إنه على وزن أفعل، وقالت هي الكلمة بعدي، فقال لها المعلم في شيء من الغضب: لقد كذبت أنت، ومن قالت لك هذا. فقلت له: وهل إذا كان ما قلته خطأ يعد ذلك كذبًا أم مجرد خطأ؟ قال: إن الكذب أن يقول الإنسان ما ليس بصحيح، فهو كذب. قلت: كلا إن الكذب أن يقول الإنسان شيئًا غير صحيح، وهو يعلم عدم صحته، أما إذا كان لا يعلم ذلك فهو مخطئ. وأصر المعلم على رأيه فقلت له: وهل إذا اتضح أن هذا الفعل ليس على وزن فاعل، كما تعتقد حضرتك يكون ذلك كذبًا من جانبك؟ قال: نعم. قلت: إذن هو ليس على وزن فاعل بدليل أن مضارعه يؤثر، وقد جاء في القرآن بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ولو أن ذلك الفعل على وزن فاعل لكان مضارعه يؤاثر، فخجل المعلم، ولم يستطع جوابًا.
وتصادف أن زارنا في تلك المدة الشيخ حمزة فتح الله، وقرأ موضوعًا إنشائيًّا لإحدى زميلاتي فوجد فيه كلمة «كون» بدلًا من كان، فأخذ يعنف الزميلة، ويسألها من أين أتت بذلك الفعل «كون»، وأخيرًا تدخلت في الموضوع أنا وقلت له جاءت به من كلام معلمنا، فهو لا يزال طول الوقت يقول لنا إن «كان» أصلها «كون»، ولا بأس أن تذكر هي الأصل وتترك الفرع ما دام المعلم لم يعلمنا شيئًا غير هذا، فضحك الشيخ حمزة فتح الله، وخجل المعلم، ورأى أن خصامه لي لا ينجم عنه إلا تلك المواقف الحرجة التي يقفها من وقت إلى آخر، فأراد أن يصالحني، وكان بالمدرسة معلم آخر هو الشيخ أحمد إبراهيم بك، وكيل مدرسة الحقوق الآن، وكنت أحترمه لفضله ووقاره، فطلب منه أن يصالحني ففعل، وانتهت تلك المشكلة التي أوقعني فيها غدر زميلاتي وخروجهن عن العهود التي اتفقن عليها معي، ومن بعد هذه الحادثة لم أتفق معهن على شيء مهما طلبن مني ذلك.
وعلى ذكر الشيخ أحمد إبراهيم بك أقول إني كنت أحترمه احترامًا يدفعني إلى طاعته مهما كانت الظروف، وقد درس لنا اللغة العربية في السنتين الثانية والثالثة، فتصادف يومًا أن أعطانا موضوعًا إنشائيًّا على فوائد الصوم، وقال لنا: إن من فوائده تحسين الصحة. فعارضته أنا في ذلك، وقلت: إني أومن بكل فوائده الأدبية والدينية، أما أن نصوم لتصح أجسامنا، فهو ما لا أستطيع أن أومن به؛ لأن الغربيين — وهم قوم مسيحيون — لا يصومون رمضان، ومع ذلك فهم أصح أجسامًا منا، ولو أن الصيام كان للصحة لجاز لنا أن نمتنع عن الطعام في أوقات معقولة؛ أي نأكل في الصباح، ثم في المساء، أما أن نمتنع عن الأكل النهار كله مهما طال ولا نأكل إلا في الليل فأمر لا أظنه يفيد الصحة في شيء، وأصر الأستاذ على رأيه، وأصررت أنا على رأيي، وضايقه ذلك مني لأمرين؛ أولهما: أنه كان رجلًا فاضلًا يريد أن يغرس في نفوس طالباته أصول الدين وفضائله، وثانيهما: أن المدرسة كانت لا تسمح لنا بتلقي الدرس على أستاذ إلا بحضور مشرفة، وكانت تلك المشرفة أجنبية، وظن الأستاذ أنها تفهم اللغة العربية، فساءه أن تسمع مني أن المسيحيين أصح منا أجسامًا، وأن صيام رمضان قد يؤثر في صحتنا فغضب، وقال لي: أَلِكلمة يقولها أجنبي تزعزع عقيدتك في دينك؟ ورأيت أن الرجل على حق في شدة ميله إلى تهذيب طالباته، فلم يغضبني غضبه، بل اجتهدت في إرضائه، وإن كنت لم أغير رأيي فيما ذهبت إليه من عدم فائدة الصوم الصحية، وأخيرًا اصطلحنا، وأظنه لا يزال يذكر تلك الحادثة إلى الآن، على أن الأمر الذي أغضبه، وهو تخيله أن تلك المشرفة كانت تفهم ما نقول كان غير صحيح؛ لأنها كانت سيدةً يونانيةً لا تعرف كلمةً واحدةً من اللغة العربية، وكان جلوسها معنا لا قيمة له من الوجهة الأدبية الصحيحة؛ إذ كان يستطيع المعلم أن يقول لنا ما يشاء، وأن نجيبه نحن بما نشاء دون أن تفهم تلك المشرفة شيئًا مما نقول، فوجودها كان كالعدم خصوصًا وأنها كانت تتسلى أثناء وجودها معنا بالتطريز؛ فكانت تنهمك فيه انهماكًا يمنعها أن ترى شيئًا مما نفعل، فكانت تلك المشرفة تجلس معنا كحجر أصم لا تسمع ولا ترى، وكان جلوسها لا فائدة منه إلا أنه كان يغضب ذلك الأستاذ الفاضل ويؤلمه أشد الإيلام؛ لأنه كان يعتبر ذلك عدم ثقة به، وقد كان — وهو الحريص على الأخلاق والآداب في كل حركاته وسكناته، وفي كل كلمة تخرج من فمه — مثال النزاهة والكمال في كل شيء، ولم يكن بالطبع يحتاج إلى إشراف أحد عليه.