الغش في الامتحانات
كنت أكره الغش في الامتحانات فلم أحاوله، ولم أساعد طالبة أخرى عليه مهما كانت الظروف، وكانت الامتحانات في المدرسة السنية تعمل في صالة متسعة جدًّا يجلس فيها طالبات قسم المعلمات وتلميذات القسم الابتدائي، فكانوا يرتبون تلميذةً من قسم المعلمات، وعلى يمينها تلميذة من السنة الأولى الابتدائية، وعلى يسارها أخرى من السنة الثالثة الابتدائية، وأمامها إحدى تلميذات السنة الثانية الابتدائية مثلًا، وخلفها تلميذة من السنة الرابعة الابتدائية، وهكذا، فكانت طالبات قسم المعلمات يساعدن تلميذات القسم الابتدائي إذا هن طلبن المساعدة، أما أنا فلم أكن أساعد واحدةً منهن إطلاقًا؛ فكانت التلميذة التي يقضي عليها سوء الحظ بأن تجلس إلى جانبي تخرج أول يوم ساخطةً متذمرةً تشكو حالها لكل من يصادفها قائلةً: أمري إلى الله في هذا الامتحان، فقد جلست إلى جانب أبلة نبوية.
كنت كما قدمت أكره الغش، وكنا نتلقى الحساب على معلمة إنجليزية لم تكن تشرح لنا المسائل، بل كان يبدو لي أنها هي نفسها لا تفهمها، فكانت تكتب المسألة على السبورة، ثم تطلب منا حلها، فإذا عجزت الطالبات عن ذلك قامت هي بكتابة الحل على السبورة دون شرح أو مناقشة، فتنقله الطالبات حرفًا بحرف دون أن يفهمن منه شيئًا، ومن الغريب أنها لم تكن تختار إلا المسائل العقلية الصعبة جدًّا، وعلى ذلك لم تستفد الطالبات منها شيئًا في ذلك العام.
واعتادت المعلمة أن تعطينا يوم السبت من كل أسبوع ١٠ مسائل في كراسة خاصة تحوي حوالي ٩٦ صفحةً لنحلها كواجب منزلي، ثم تأخذ منا هذه الكراسة يوم الخميس، وتردها إلينا مصححةً يوم السبت، وهكذا.
ولما كانت الطالبات لا يفهمن في تلك المادة شيئًا، وكنت أنا ميالةً إلى ذلك النوع من المسائل؛ فقد كن ينتظرن حتى أنتهي أنا من حلها، ثم ينقلن ذلك الحل مني دون أن يعرفن عنه شيئًا، وكنت في العادة أنتهي من حل تلك المسائل في مساء السبت نفسه لشدة ميلي إليها، فكان لديهن من الوقت ما يكفي لنقلها على مهل.
كانت زميلتي السيدة عائشة صبحي قد تركت المدرسة السنية في نهاية السنة الثانية، ونقلنا إلى السنة الثالثة، ولم تكن هي معي فضايقني ذلك؛ لأني كنت أتنافس معها لذكائها واجتهادها، فلما خرجت لم أعد أجد في بقية الزميلات من أهتم بمنافستها، فشعرت بشيء من الملل والسآمة، ونظرت إلى زميلاتي في شيء من السخرية، وأردت أن أنصحهن حتى يمتنعن عن نقل الحساب، فقلت لهن إني مستعدة أن أشرح لهن تلك المسائل حتى يستطعن حلها فيستفدن بدلًا من أن ينقشنها دون فهم أو معرفة. ساء زميلاتي ذلك القول مني، وشعرن بسخريتي بهن فثرن علي، وقلن إنهن لا ينقلن مني، وإني مغرورة بنفسي، وهذا ما يدفعني إلى اتهامهن بذلك، قلت: حسنًا! فسأحل هذه المسائل، وإني أحذركن أن تمسها إحداكن وإلا فعلت بكن ما لا تحمد عقباه. فقلن: ستعلمين أننا لا ننقل منك شيئًا، وعليك إن ضبطت إحدانا متلبسةً بجريمتها أن تفعلي بها ما تريدين.
أردت أن أوقعهن في شَرَك لا يستطعن التخلص منه، وأن أسجل عليهن الغش بطريقة عملية صحيحة، فحللت المسائل بشكل غريب مدهش لا يتصوره عقل؛ إذ كنت أنظر في المسألة دون أن أقرأَها، ثم أضرب أي عدد وقع نظري عليه في عدد آخر أي أضع بينهما علامة الضرب، وأضع حاصل ضرب من خيالي، وقد يكون أصغر من أحد العددين، أو أقسم عددًا على الآخر، فيكون خارج القسمة أكبر من المقسوم نفسه، وهكذا وضعت في تلك الحلول من التخريف والسخف ما لا يقره عقل، وبعد أن انتهيت من ذلك، وضعت الكراسة في قمطر كان معدًّا لذلك في نهاية الفصل، وحذرت زميلاتي من أن يمسسن الكراس، وتغافلت في الأيام التالية، وكنت أخرج من الفصل كثيرًا وقت المذاكرة لأعطيهن فرصة الغش، وما جاء يوم الأربعاء إلا وقد نقل جميعهن تلك الحلول الجنونية السخيفة، وفي مساء الأربعاء أخذت الكراسة، وانتزعت منها الأوراق التي كتبت فيها تلك الحلول، وحللت المسائل حلًّا صحيحًا مقبولًا، وحرصت أن لا أترك الكراسة في الفصل بعد هذا حتى أضطر من لم تكن نقلت في الماضي أن تنقل من كراسة زميلة أخرى سبقتها إلى ذلك النقل، وفي يوم الخميس سلمنا الكراسات إلى المعلمة.
دخلت المعلمة الفصل يوم السبت عابسةً مضطربةً؛ لأنها غضبت من تلك الحلول التي لا يبررها عقل، وعجبت كيف تتفق عليها جميع الطالبات مع بعدها عن المعقول، دخلت عابسةً ونظرت إلينا في حدة وقد وقفنا لتحيتها، فلم تحينا بل أشارت إليَّ بالجلوس، وأمرت باقي الزميلات بالاستمرار في الوقوف، وأخذت تسألهن عن معنى هذا السخف الذي اتفقن عليه في كراساتهن، ودهشت الزميلات لجلوسي، وتعجبن كيف لا تلومني مثلهن، وقد نقلن ذلك السخف الذي تسميه المعلمة من كراستي، فكان المنظر مضحكًا غريبًا؛ إذ تسألهن المعلمة فلا يجبنها، بل ينظرن إليَّ ويقلن لي باللغة العربية ما معنى هذا، وقد نقلنا ذلك الحل من كراستك أنت؟ قلت: كيف ذلك وقد ادعيتن أنكن لا تنقلن مني؟ زاد غضب المعلمة، وعجبت كيف لا يجيبها أحد، وكيف ينصرفن عنها إليَّ؟ وكلما سألتهن كلمنني باللغة العربية، كانت هي في وادٍ والطالبات في وادٍ آخر، فلم ينظرن إليها ولم يعبأن بغضبها، بل كان كل اهتمامهن أن يطلبن مني شرح ذلك اللغز، وأخيرًا سألتني المعلمة عن السبب في التفاتهن إليَّ وتكلمهن معي، فشرحت لها القصة، فعاقبت جميع الزميلات، ولعل القارئ يظن أن كلمة جميع هذه تدل حقيقةً على جمع مع أنها لا تفيد إلا ثلاث طالبات؛ لأنه لم يكن بفصلنا إلا أربع طالبات فقط، وأنا رابعتهن — ليس ذلك من سورة الكهف.
كانت معلمة الحساب تعلمنا دروس التربية العلمية والعملية، كان علينا في ذلك اليوم أن نلقي دروسًا في الحساب على طالبات القسم الابتدائي، وكانت هي تنتقدنا في إلقاء تلك الدروس كلما تمت دروسنا، وجئنا لنسمع الانتقاد، قالت: من الغريب أن أخلاق المعلمة تؤثر دائمًا على طالباتها، وقد مررت عليكن أثناء الدرس اليوم فوجدت أن كل التلميذات يغششن في الحساب إلا تلميذات نبوية، وهي الطالبة الوحيدة التي لم تغش، وهكذا تأثرت تلميذاتها بها.