دروس التربية العملية
أما أنا فقد كنت أعد ذلك الاتفاق غشًّا وتدليسًا لا يجوز لطالبة تتدرب على طرق التعليم؛ أي تعد نفسها أن تكون معلمةً أن تأتيه؛ ولهذا لم أكن أطلع تلميذات المدرسة الابتدائية على أي درس أريد إلقاءه عليهن.
وقد أغضبت تلك الخطة تلميذات المدرسة الابتدائية خصوصًا السنة الرابعة، وقد كان الفرق بيننا وبينهن في العمر لا يتجاوز السنتين أو الثلاث على الأكثر؛ فكن يعتبرن خروجي عن المألوف مع زميلاتي تكبرًا عليهن، فيقابلنه بكل عناد وعداء، ومع هذا فقد كنت أستطيع حفظ النظام في التدريس أكثر مما تستطيعه زميلاتي.
كان الضرب ممنوعًا؛ ولهذا كنت إذا تغيظت من تلميذة في فصلي أضغط على ذراعها ضغطًا يؤلمها، وبينما كنت واقفةً في طابور الساعة العاشرة، وكان عليَّ في ذلك الوقت أن ألقي درس حساب على السنة الثالثة الابتدائية …
بينما كنت واقفةً في ذلك الطابور، وإذا بي أسمع ضجةً في طابور السنة الثالثة الابتدائية، وأراهن يطلبن دبابيس صغيرةً من زميلاتهن في الفصول الأخرى، فكانت الواحدة منهن تقول لغيرها: أعطني دبوسًا صغيرًا أرده إليك بعد درس أبلتي نبوية موسى.
ولفتني هذا إلى أن هناك مؤامرةً بين تلميذات السنة الثالثة تدبر لدرسي، فوجهت عنايتي لأقف على مدى تلك المؤامرة، وأخيرًا عرفت أن التلميذات يضعن في أكمام ملابسهن فوق العضد تلك الدبابيس حتى إذا ضغطت على ذراع إحداهن بيدي في الدرس دخلت الدبابيس فيها، وتعجبت من ذلك السخف؛ لأن الدبابيس في تلك الحالة قد تدخل في العضد لا في يدي أنا، وعرفت التلميذات اللائي فعلن ذلك بالذات، وكن لا يتجاوزن الخمس، فلما دخلت الدرس ناديتهن وعرفتهن خطأ ما ذهبن إليه، وكيف أن تلك الدبابيس قد تفتك بعضلات عضدهن أكثر مما تفتك بعضلات كفي، وهددتهن بالعقاب إذا هن عدن إلى مثل هذا العمل الطائش، فخجلن ونزعن الدبابيس من ملابسهن.
وجاء امتحان آخر السنة، وكنت قد اخترت درسًا في اللغة العربية للسنة الرابعة، وأرادت التلميذات أن ينتقمن مني فتوصلن إلى سرقة مذكرة درسي بمساعدة إحدى زميلاتي، وكنت قد أعددت الدرس إعدادًا طيبًا باللغة العربية، فأعددت بعض الأسئلة التي كنت أظن أن تجيب بها التلميذات، ولما دخلت الدرس أمام المفتش الممتحن — وكان المرحوم الشيخ شريف — كانت التلميذات تجيبني على أسئلتي بنفس الإجابات المكتوبة في مذكرة التحضير، وعلى حسب ترتيبها في تلك المذكرة.
وساءني ذلك لأنه يدل في ظاهره على أني أطلعت التلميذات على درسي قبل إلقائه فخجلت وتوقفت عن التدريس برهةً، فقال لي الشيخ شريف: ما الذي يمنعك عن إلقاء الدرس، وأنت كما نعلم قوية في اللغة العربية؟ قلت: يلوح لي أن التلميذات يعرفن درسي من قبل. قال: لا غرابة في ذلك فنحن في آخر العام، وقد ذاكرت التلميذات جميع الدروس استعدادًا للامتحان. قلت: ولكنهن يعرفن الأجوبة التي حضرتها في مذكرة درسي بالذات. قال: وهل يضيرك ذلك؟ قلت: نعم؛ لأنه يظهر لي أنهن اطلعن على تلك المذكرة بحيلة شيطانية. قال: لا بأس، فاستمري في درسك. وأتممت الدرس، وأنا في أشد ما يكون من الألم.
أردت السنة التالية أن أحتاط، فلا يعلم بدرسي أحد، فأخفيت مذكرة الدرس الذي كنت مكلفة إلقاءه في امتحان النقل، وكان درسًا على الفرق بين الحجم والوزن في السنة الرابعة، وهو درس يحتاج إلى حسن إلقاء، وحسن استنتاج، وقد علمت أن التلميذات سيتعنتن معي ويتظاهرن بعدم الفهم مهما شرحت، أو يكابرن فيما أريد شرحه، وقد حصل ما توقعته، فكلما عرضت شيئًا على الفصل لأستنتج منه أن الحجم يمكن معرفته بالنظر، أما الوزن فلا بد من حمل الشيء حتى يستطيع الإنسان معرفة وزنه، كن يكابرن ويقلن إنهن يعرفن وزن الشيء بالعين، فإذا عرضت عليهن قطعة من الخشب كبيرة الحجم، وأخرى من الحديد تصغر عنها كثيرًا، وسألتهن عن أيهما أثقل من الأخرى أجبنني أن قطعة الحديد أثقل، وإذا أردت أن أستنتج منهن أنهن عرفن ذلك الثقل أو الوزن؛ لأنهن سبق أن حملن الحديد والخشب، وعرفن وزن كل منهما، أنكرن ذلك علي، وقلن إنهن يعرفن وزن الأشياء بمجرد النظر، وهذا ما كنت قد توقعته من قبل، وأخيرًا أخرجت لهن بيضتين إحداهما تكبر عن الأخرى قليلًا، ولكن العين تستطيع معرفة حجم الكبيرة منهما، وسألتهن أي البيضتين أثقل وزنًا من الأخرى، وظنت التلميذات أني ظننت أنهن لا يفرقن بين حجم البيضتين، فأشرن إلى البيضة التي كانت في يميني، وقلن إنها أثقل من الأخرى، قلت لهن أنتم تعلمن ذلك؛ لأن حجم البيضة التي في يميني أكبر من حجم الأخرى التي في يساري، فأنكرن عليَّ ذلك، وقلن إن عيونهن تعرف الوزن، وبعد أن أكدت عليهن في أن يقلن صراحةً أي البيضتين أثقل، وأجمع رأيهن على أن البيضة التي في اليمين أثقل من البيضة التي في اليسار، وضعت البيضتين في كفتي ميزان، وهنا دهش الجميع حتى المفتش؛ لأن البيضة الكبيرة ارتفعت وهبطت البيضة الصغيرة مما يدل على أنها أثقل منها.
واضطُرت التلميذات في تلك الحالة أن تعترفن أن النظر لا يمكن أن يعرف الوزن، وأمرت إحداهن بحمل البيضتين، وهنا عرفت الخفيفة من الثقيلة بمجرد اليد، واتضح للجميع أني قد أفرغت ما في قلب البيضة الكبيرة بثقب صغير لم يرَه أحد، وهكذا استطعت أن آخذ درجةً حسنةً في إلقاء ذلك الدرس بالرغم من عناد التلميذات ومكابرتهن، ومن ذلك اليوم استطعت أن أحفظ النظام، وأخضع تلميذات السنة الرابعة دون أن أتفق معهن على درسي من قبل إلقائه كما كانت تفعل ذلك زميلاتي.