حبي الشديد للحرية
كنت أحب الحرية والاستقلال في العمل إلى حد جعلني أكره أن أقوم بالرياضة البدنية؛ لأني كنت مضطرةً فيها أن أخضع لما يلقى عليَّ من الأوامر دون فكر أو مناقشة؛ ولهذا كنت أسخر من تلك الأوامر، ولا أنتظم في اللعب مع باقي زميلاتي؛ فكنت آتي من الأعمال والأقوال ما يضحك جميع الزميلات فيضطرب النظام، وتضطر معلمة الرياضة البدنية إلى إخراجي من اللعب، وهذا كل ما كنت أتطلبه، وبتلك الحيل استطعت أن أفلت من تلقي دروس الرياضة البدنية حتى إذا اضطرتني المعلمة يومًا إلى اللعب أجبرتها على إخراجي بشتى الوسائل، فإذا قالت الذراع اليمين رفع، رفعتُ يساري، وأنا أقول ليس في المسألة تكليف، وما دام الغرض هو تحريك الأعضاء فلا فرق عندي بين اليمين واليسار، وإذا قالت مسير على أطراف الأصابع، قلت كلا لا بد من البرطشة، وهكذا من الأعمال والألفاظ التي كانت تضحك جميع الطالبات فتضطر المعلمة إلى إخراجي من بينهن.
وكانت المدرسة السنية تصرف لنا الملابس والأحذية، ولما كانت قدمي صغيرتين بحيث لا تزيد عن قدمي طفلة في العاشرة من عمرها، فلم أكن أجد من الأحذية ما يلائمها، فكنت آخذ حذاءً واسعًا لا أستطيع معه المشي على أطراف أصابعي في الرياضة البدنية، وهو ما كنت أريده، وقد علمت الناظرة بمناوراتي في دروس الرياضة وتهكمي عليها، فحضرت بنفسها درس الرياضة البدنية لترغمني على اتباع الأوامر، ولما رفضت السير على أطراف أصابعي طلبت مني أن أطيع الأوامر، فقلت لها: إن حذائي لا يمكنني من ذلك لكبر حجمه. قالت: لا بد من الطاعة. قلت: إذن أنا لست بمسئولة عن نتائج تلك الطاعة. ورفعت إحدى قدمي، وضربت فردة حذاء بالأخرى، فطارت فردة الحذاء من رجلي حتى سقطت على صدر الناظرة تقريبًا، وكانت لا تزال مزررةً، وغضبت الناظرة، ولكنها لما شاهدت فردة الحذاء مزررةً، وإنها مع ذلك خرجت من قدمي علمت أني كنت على حق في عدم إمكاني السير على أطراف أصابعي لسعة ذلك الحذاء، واضطرت الناظرة عندئذ أن تبرح المكان دون أن تقول لي شيئًا، ولكنها فكرت بعد ذلك في الانتقام مني، فطلبت أن أقوم أمامها بإعطاء درس الرياضة البدنية لزميلاتي، ولما كنت لا أحضر دروس الرياضة البدنية، فقد كان من المستحيل أن أقوم بإعطاء ذلك الدرس؛ ولهذا وقفت متحيرةً، وما كاد يقع نظر زميلاتي عليَّ وأنا أحتل محل معلمة الرياضة البدنية حتى أرسلن ضحكاتهن العالية من كل جهة، بينما وقفت أنا صامتةً لا أبدي حراكًا، فطلبت مني الناظرة أن أبدأ الدرس، وشدَّدت في الطلب، وكانت كلما طلبت ذلك علت ضحكات زميلاتي، وأخيرًا قلت لهن إنهن معاقبات لضحكهن، وهنا أمرتهن بالوقوف بدون حركة، وقد زاد ذلك في ضحكهن، ولكن الناظرة شددت عليَّ مع ذلك أن ألقي عليهن الدرس، وأردت أن أسخر بها وبهن، فقلت بصوت ثابت رزين: اليدان والرجلان رفع. واحد اثنين. وهنا لم تتمالك الناظرة، ومعلمة الرياضة البدنية من الضحك، وتبعها الطالبات فتركتني وتركتهن، وذهبت وهي تكاد تموت من كثرة الضحك، ومن ذلك اليوم تركتني وشأني.
وكانت ناظرة المدرسة تمنع الطالبات من شراء الفاكهة، وكان يعز عليَّ ذلك كثيرًا؛ لأن غذائي كان أكثره من الفاكهة، فكنت أجد صعوبةً عظيمةً في حرماني منها؛ لهذا كنت أشتريها رغم الأوامر الصادرة لجميع الخدم بعدم شراء الفاكهة للطالبات، فكنت أرشي الخدم لأحملهم على مخالفة أوامر الناظرة، وفي أحد الأيام بينما كنت أسير بعد الساعة الرابعة، وقد وضعت في حجري عددًا عظيمًا من البرتقال، أريد أن أضعه في دولابي بعد أن أخذته من الخادمة التي اشترته لي، وكان اسمها نبوية إذ فاجأتني الناظرة، وصرخت في وجهي قائلةً: ما هذا؟ أفزعني صوتها، فسقط البرتقال من حجري، وانتشر على الأرض، ووقفت وسطه مندهشةً، ونظرت إليَّ الناظرة في غضب، وأعادت قولها: ما هذا؟
عدت إلى صوابي، واستجمعت قواي، وقلت في ثبات وحزم: إنه برتقال كما ترين. قالت: وكيف خالفت أوامر المدرسة واشتريت الفاكهة؟ فقلت: لأنها أوامر تخالف المعقول، بل تخالف الواجب، فإن المدرسة يجب أن تحافظ على صحة الطالبات، ولقد سمعتك أمس تقولين إنك تأكلين كل يوم في الصباح برتقالةً، وإنك تجدين في ذلك صحةً، فهل يجوز لك بعد هذا أن تحرمي الطالبات مما تتمتعين به وتحافظين به على صحتك؟! قالت: ولكن هذا البرتقال كثير جدًّا! قلت: لو أنك سمحت لنا بشراء الفاكهة دون عقاب لاكتفيت بشراء برتقالة أو برتقالتين في اليوم، أما وأنتِ تمنعين الخدم من شراء الفاكهة لنا فإني مضطرة أن أرشيهم بالنقود لشراء ذلك البرتقال، وليس من المعقول أن أكلفهم مخالفة أمرك كل يوم، فأنا أطلب منهم شراء ما يكفيني شهرًا، أو ما يقارب الشهر.
فكرت الناظرة قليلًا ثم قالت: ومن الذي اشترى لك هذا البرتقال؟ قلت: إني لا أسمح لنفسي بذكر اسمه. قالت: ولكني آمرك. قلت: كلا، لك أنْ تعاقبيني إن شئت، أما غيري فلا سبيل لك عليه، ولست أبوح باسمه مهما كانت الظروف. ورأت أنه لا فائدة من الأخذ والرد معي فتركتني، وأحضرت ضابطة المدرسة، وكانت سيدةً نمساويةً، وطلبت منها أن تسأل الخدم، وتبحث عمن اشترى ذلك البرتقال لتفصله من المدرسة، وما زالت الضابطة تسأل، وتتجسس حتى عرفت الفرَّاشة المسكينة التي اشترت ذلك البرتقال، وأرادت أن تقدمها للناظرة، وما كاد يصلني الخبر حتى جنَّ جنوني، وأشفقت أن تفصل تلك المسكينة بسببي فأسرعت إلى الضابطة، وكانت تخشاني وتحبني في آنٍ واحد، فقلت لها: أرجوك أن لا تخبري الناظرة باسم الفرَّاشة المسكينة، وسأذهب أنا إلى حضرة الناظرة، وأطلب منها معافاتك من البحث عن شارية البرتقال من الآن. قالت: حسنًا فسأقبل ذلك إن فعلت. وفي الحال دخلت على الناظرة، وأنا متأثرة لا أستطيع حبس دموعي، فقلت لها في شيء من الحدة والتأثر: إني لا أستطيع أن أمكث في المدرسة ولا ساعة واحدة إلا إذا منعت الضابطة عن البحث عن الخادمة أو الخادم الذي اشترى لي البرتقال؛ لأن الضابطة تضايق الخدم جميعًا، وكلهم يدعون عليَّ؛ لأنني أنا سبب تلك المضايقة، فإما أن تأمري بالكف عن ذلك البحث، وإما أن تسمحي لي الآن بترك المدرسة. ورأتني مصممة على ما أقول فسكتت قليلًا، ثم قالت: أتعدينني أنك لا تكلفين الخدم مرةً أخرى شراء الفاكهة؟ قلت: نعم أفعل ذلك. قالت: قد اتفقنا. قلت: ولكني لا أبرح تلك الغرفة حتى تأمري الضابطة أمامي بعدم البحث عن الخادم الذي اشترى البرتقال. فأحضرت الضابطة وأمرتها بما طلبت، وخرجت معي من غرفة الناظرة وهي تضحك وتربِّت على كتفي قائلة: لقد نفعت بجرأتك تلك المسكينة التي كادت تفصل بسببك.