أثر حصولي على البكالوريا ومذهبي في الزواج
قدمت فيما مضى كيف حصلت على البكالوريا مع البنين، وكيف كان لهذا النبأ دوي اخترق البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وقامت له الصحف وقعدت، فكنت إذا كتبت مقالةً إلى صحيفة نشرتها لي في الصدر تحت عناوين كبيرة، وما كاد يمضي على ذلك شهر حتى وصلني خطاب من مأمور في السودان مرسل إلى نبوية موسى بالمدرسة السنية، مع أن نبوية موسى كانت معلمةً في مدرسة عباس للبنات، ولكن هذا المأمور لا يعرف عن نبوية موسى شيئًا سوى أنها نجحت في البكالوريا؛ ولهذا استنتج أن تكون تلميذةً في المدرسة السنية.
وصلني الخطاب، وكان الرجل أديبًا لبقًا في كتابته، وقد قال في خطابه إنه رجل مؤدب، وإنه لم يخاطبني ليخرج عن حدود الآداب الشرقية، ولكنه يريد أن يتزوجني، وهو لا يعرف عنوان ولي أمري، ولا من هو؛ لهذا اضطر أن يكتب إليَّ؛ لأن كتاباتي قريبة جدًّا من نفسه، ورجاني أن أدله على ولي أمري ليخاطبه في أمر الزواج.
أعجبني أدب الرجل واستقامته، وراقني أسلوبه العالي في الكتابة، ولو أني كنت أميل إلى الزواج لما تأخرت في قبول ما طلب، ولكني وأنا أكره الزواج، وأعتبره قذارةً، وقد صممت أن لا ألوث نفسي بتلك القذارة، فلا مندوحة لي عن رفض طلبه.
عرضت الخطاب على المرحوم شقيقي، وطلبت منه أن يكتب إليه بالرفض، وأن يتلطف فلا يؤلم الرجل، وقد اقترحت عليه أن يقول له: إنك لو رأيت أختي لما تقدمت إليها لأنها دميمة الخلقة، ولا أظنك تقبلها؛ ولهذا أرجوك أن تتقبل تحياتي، وأن تعدل عما انتويته، وسأكون صديقك إلى الأبد، ومع أن ذلك الكلام لم يكن من رأي أخي فقد كتبه مضطرًا.
وبعد ثلاثة أيام أو أربعة على الأكثر وصل أخي خطاب من الخطيب يقول فيه إنه لا يعبأ بالشكل، وإنه يحب روحي لقربها من روحه، وسيحب صاحبة تلك المقالات التي قرأها مهما كان شكلها، بل سيحلو له أن يراها، قرأ أخي الخطاب، وقال: الآن لا عذر لكِ؛ فالرجل يقبلك على أي شكل أنتِ عليه، وأنا بصفتي ولي أمرك أريد أن تتزوجي ذلك الرجل. وطال بيننا الشجار والأخذ والرد إلى حد كاد أن يخاطبني معه بغير الكلام لولا أن تلك لم تكن عادته، وفي ذلك الوقت دخل قريب والدتي مصطفى أفندي عبد الرازق، وسأله عن خبر هذا النزاع، قال أخي: إنها ترفض الزواج من رجل سبق أن كتبت له أنا شبه وعد. قلت: ولكنك غير محق في وعدك هذا، والرجل الذي تقترح زواجي به يتناول ٢٤ جنيهًا شهريًّا، وأنا كما تعلم لا أحب الزواج، فإذا قبلت قذاراته كان يجب أن يغريني المركز الجديد الذي سأكون فيه بعد ذلك الزواج، ومرتبي الآن ١٢ جنيهًا، فإذا شئت أن تبقى حالتي المالية كما هي، وجب أن يكون مرتب ذلك الزوج ٤٨ جنيهًا؛ ١٢ جنيهًا لي، و١٢ جنيهًا له، و٢٤ جنيهًا للأولاد، فكيف أقبل أنا الزواج على بغضي له، ثم أقبل معه انخفاض مستوى معيشتي، وهذا ما لا يعقل؟
انتصر لي مصطفى أفندي، وقال: لقد صدقت. قال أخي: ومعنى هذا أنها لن تتزوج، ومن ذا الذي يقبل زواجها، ومرتبه يبلغ ذلك المقدار الذي تطمع هي فيه؟ قلت: وهذا كل ما أريده أن تقف طلباتي هذه حجر عثرة في سبيل الزواج.
اضطر أخي أن ينزل على إرادتنا؛ أي إرادتي وإرادة مصطفى أفندي، ولكنه كان مكرهًا، قال: إذن سأكتب للرجل، ويجوز أن الله أراد له الخير بذلك الرفض. أمسك القلم وأخذ يقرأ ما يكتبه بصوت عالٍ، قال: تحيةً وسلامًا وعذرًا أيها الصديق إذا أنا أخبرتك في خطابي السابق بدمامة خلقة شقيقتي فقط، ولكني نسيت أن أقول لك إنها فوق ذلك قليلة الأدب متكبرة متغطرسة، لا يطيق الإنسان أن يعاشرها يومًا واحدًا، وأنا كصديق أنصحك أن لا تعاودني في أمرها، ولا أخفي عليك أنها تتكبر على أمثالي وأمثالك، فلا تذكرها لي مرةً أخرى.
أخذ يقرأ ذلك الخطاب بصوت عالٍ ليغيظني، ولكني كنت أضحك مقهقهةً، وأقول: إن هذا خير ما يكتب في مثل هذا الموقف، وكان الرجل قد أرسل مع الخطاب هديةً فرددناها إليه.
وفي سنة ١٩١٤ كنت ناظرةً لمدرسة معلمات المنصورة، فجاءني رجل بخطاب كتبه إليَّ ذلك المأمور يرجوني فيه أن أقبل ابنة ذلك الرجل بالمدرسة الابتدائية مجانًا، وقال في خطابه إنه تزوج، وإنه رزق أولادًا، وإنه مسرور جدًّا بأسرته الجديدة، وكأنه يريد أن يقول لي على رأي مثلنا العام «بركة يا جامع اللي جت منك.»
عرفت من هذا أن الرجل لا يزال متألمًا من الحادثة، وكنت أخجل أن أذكر مسألة خطبة أو زواج أمام رجل، فنظرت إلى قريبه الذي أتى بذلك الخطاب، وقلت له: هل تعلم من أين يعرفني قريبك هذا؟ قال: نعم إني أعرف القصة. قلت: أرجوك أن تخبره أني لم أرفضه احتقارًا لشأنه، أو لأي عيب فيه، ولو أني كنت أنتوي الزواج لما تزوجت بأفضل منه، ولكني لاعتبارات شخصية أرفض هذا الزواج، ولكي أشرح لك موقفي أقول إني لو كنت قد قبلت ما عرضه عليَّ لكنت الآن تحت أمره أطلب منه الرضا والعطف، أما الآن بعد رفضي فهو الذي يطلب مني أن أعطف عليه وعلى أقاربه، وأنا لأجل خاطره سأدخل ابنتك بالمجانية في مدرستي، ولو أني كنت أخاطب الرجال لكتبت إليه الرد على خطابه هذا، ولكني آليت أن لا أفعل، فأرجوك أن ترد عليه أنت، وأن تخبره بما قلته لك.
لقد بنيت رفضي على رأي اعتمدته منذ طفولتي، وهو ألا أتزوج؛ لأني على ما أتذكر لم أكن طفلةً بالمعنى الصحيح، أجهل ما يحيط بي، ولكني كنت أعلم ما بين الرجل والمرأة مع أنه لم يكن في منزلنا رجل، ولكن يظهر لي أن الأمر غريزة طبيعية، أو أني كنت أعلم بالإشارة، أو بما أراه من الحيوانات، كنت أعلم ذلك تمام العلم، وأرى أنه قذارة خصوصًا نصيب المرأة فيه، فكنت أنفر منه، وربما ترجع مسألة خروجي من المنزل في سن الثالثة عشرة، والتحاقي بالمدرسة إلى كرهي لهذا الأمر؛ لأني لو بقيت بلا عمل لما استطعت أن أبقى أيضًا بلا زواج، وليس لي من الأملاك ما يقوم بسد حاجتي؛ لهذا انصرفت عن الزواج بتاتًا، ثم شاء الله أن تزداد فكرتي رسوخًا ووضوحًا، فسمعت رجلًا يتشاجر مع امرأة على قارعة الطريق، ويقول لها ما معناه: امرأة مثلك أقضي في جوفها حاجتي تتجرأ أن تكلمني بما تقولين؟ شرحت لي تلك الكلمة ما هناك، وكرهت أن يقف مني رجل ذلك الموقف القذر المريع؛ لهذا كنت أكره أن أسمع الزواج في شبابي، أما بعد أن كبرت فقد أصبح مجرد هذا الاقتراح سبة لا يشتمني أحد بأقبح منها.
وعلى ذكر تلك الخطوبة أقول: إني خُطبت بعد ذلك مرتين، سأذكرهما هنا على سبيل ذكر أشياء وقعت لي في حياتي.
كانت تلك الخطوبة الأولى في سنة ١٩٠٧ كما قدمت، وفي سنة ١٩١٣ كنت ناظرةً لمدرسة معلمات المنصورة، وكنت ألقي محاضرات في الجامعة المصرية، كانت تكتب في جميع الصحف، فوصلني خطاب من أحد المهندسين يقول فيه: إنه معجب بمقالاتي، وإنه يطلب من الله أن يكثر من أمثالي في الأمة المصرية.
لم يكن الرجل في طبقة الخطيب الأول من الكتابة، فلم يقع كلامه من قلبي موقعًا حسنًا على أنه لم يقل شيئًا صراحًا، بل أكثر في مدحي، وقد أرسل لي في طي خطابه صورةً فوتوغرافيةً له.
وقد فهمت من تلك الصورة ما كان يرمي إليه في طيات كلامه، وشاء الله أن يكون شقيقي ضيفًا عندي في ذلك اليوم، ففضضت الخطاب، وبعد أن قرأته قذفت به شقيقي في ضحك، وقلت له: لو لم يكن هذا الرجل مؤدبًا في الكلام لعاقبته بإرسال صورتي إليه، أما وهو مؤدب فلا معنى إذن لذلك العقاب. وقع الخطاب والصورة على أرض الغرفة، ولم أُعِرْهما بعد ذلك أية التفاتة حتى إني نسيت اسم الرجل، أو قل إني لم أقرأ إمضاءه.
وبعد أيام من ذلك الحادث جاءني البواب يقول لي إن محمد أفندي حافظ يطلب مقابلتي، وكان لي خال بهذا الاسم فظننت أنه خالي أتى من القاهرة ليراني في المنصورة، فقلت للبواب أن يدخله بسرعة، وقمت له ضاحكةً لأقابل ذلك الخال، وما كدت أراه حتى استولت عليَّ الدهشة؛ لأني عرفت أنه صاحب الصورة التي أرسلت طي الخطاب السابق، وعلى كل حال فقد اضطررت أن أحييه، وأن أجلس معه.
عرفت بالطبع ما جاء به، وما يريد أن يطلبه، وأردت أن أمنعه من ذلك فقلت له: لقد وصلني خطابك، وليس لي أي انتقاد عليه؛ لأنك كنت فيه مؤدبًا، وإني مستعدة أن أساعدك في كل ما تطلبه مني إذا كنت تريد إدخال بناتك بالمجانية في مدرستي هذه، وسأساعدك بكل ما أستطيع.
احتار الرجل في أمره، وقال متلعثمًا: ولكني لا أسرة لي، وقد جئت اليوم من أجل ذلك. فقاطعته قائلةً: اسمع يا بني لقد صممت منذ كنت في سنك على أن لا أتزوج، فإذا كنت أنت اليوم لم تتزوج فأنصحك أن لا تفعل. فدهش الرجل من تلك المفاجأة، وقد كان أكبر مني سنًّا؛ أي كان في سن المرحوم أخي.
فلم تدخل عليه الحيلة، وقال: لست بابنك أولًا، وثانيًا اسمحي لي أن أسألك لِمَ صممت على عدم الزواج؟ ضايقتني تلك الجرأة منه، وقلت له: إنك لم ترني إلا اليوم، ومع ذلك تسألني عن أمر هو من أخص خصائصي، وما كان لك ولا لغيرك أن يتدخل فيه، مع هذا فسأشبع حب الاستطلاع في غريزتك، وأقول لك إني قد صممت على عدم الزواج؛ لأني لا أحب الرجال، ولا أحب أن أنحط في معيشتي، بل لو أني تزوجت وأنا اليوم أتناول مرتبًا قدره ٢٤ جنيهًا كان يجب عليَّ أن لا أقبل إلا رجلًا مرتبه ٩٦ جنيهًا؛ ٢٤ جنيهًا لي، و٢٤ جنيهًا له، و٤٨ جنيهًا للأطفال، ومثل هذا الرجل ما أظنه يطلب الزواج مني. قال الرجل: وما المانع من أن تتزوجي وأنت في وظيفتك؟ قلت: عفوًا يا سيدي، فقد قلت لك إني أكره الرجال، فما معنى أن أقبل القرب من رجل وأنا لا أزال أعمل، وما فائدة ذلك الرجل؟ وما قيمته في حياتي؟ قلت ذلك وانتصبت واقفةً، واعتذرت إليه بأن لدي درسًا سألقيه الآن، وأن في استطاعته أن يمكث مع معلمي مدرستي في غرفتهم إذا شاء.
فخرج الرجل من عندي لا أدري مودعًا بماذا، ولكني استدعيت البواب في الحال، وقلت له: إذا جاءك هذا الرجل مرة أخرى قل له إني غير موجودة، وإياك أن تدخله عندي مرةً ثانيةً، أو تطلب مني حتى السماح له. وبعد أيام جاءني خطاب منه يقول لي فيه: بالرغم من أنك تدعين أنك أكبر مني سنًّا، وأنك لا أمل للرجال فيك لدمامتك، فإني شخصيًّا أرى فيك غير ذلك. قرأت الخطاب ومزقته، وقلت: سبحان الله! من أخذ رأيه في هذه الأمور، وما الذي يهمني من رأيه فيَّ؟ إن رأيي فيه، وفي كل رجل أن لا أتزوج، ولا ثاني لهذا الرأي عندي.
هذه هي الخطوبة الثانية، أما الثالثة فقد دلت — والحمد لله — على أننا نحن السيدات كالعبيد، كلما كبِرنا رخص ثمننا.
كنت ناظرة مدرسة المعلمات بالإسكندرية في سنة ١٩١٩ على ما أتذكر؛ أي بعد الحادثة الثانية بست سنوات، فوصلني خطاب قد كتب فيه كاتبه ما يربو على ٧ صفحات. أخذت أقرأ «ويلت الرجل ويعجن كما يقولون»، ويصف لي حاله وعمره ومرتبه، وهو — والحمد لله — ستة جنيهات، وهو أيضًا كمساري على ما أظن في السكة الحديد، حسبت وهو يشرح لي هذا أنه يشكو لي ضيق حاله، وأنه يطلب مني المعونة كما كان الكثيرون يفعلون ذلك، ولكن كم كانت دهشتي شديدة عندما قال في خطابه: «إني إذا حادثت رجلًا دقيقةً أو دقيقتين أتجرأ على الكلام معه، وأنا الآن قد كتبت لكِ ما يزيد على ست صفحات، وإذن أصارحك برأيي بكل شجاعة وجرأة، وهو أني أريد الزواج منك، ولا أريد أن أرجع لأهلك في هذا الموضوع؛ لأني أسير على تعاليم المدنية الحديثة.» عجبت حقيقة من تلك الجرأة، ومن ذلك المنطق المعتل الخاطئ، كيف يجرؤ عليَّ بذلك الكلام لا لسبب سوى أنه كتب لي ست صفحات، هل كنت أنا حاضرةً عند كتابة ذلك حتى يعد سكوتي على تلك الكتابة مبررًا لجرأته عليَّ؟ حقًّا إنه منطق عجيب، خصوصًا وقد حدد لي ٢٤ ساعةً إبداء رأيي في الموضوع.
كنت في ذلك الوقت لا أرفض الزواج فحسب، بل أعد طلب الزواج ممن كانت في سني جريمة أو إهانة تلحق بي لا يغسلها إلا الدم، غضبت لهذا، وأردت أن أنتقم منه، وفكرت في حيلة لذلك الانتقام، وقلت أرسل إليه خطابًا مع خادمي أقول فيه إني قبلت ما عرضه علي، وإذا قبل هذا أرسلته إلى منزل أحد أقاربي، فأعقد خطبته على امرأة غسالة كانت بالمدرسة، واسمها فاطمة، ولا بأس فنبوية تكتب في شهادة الميلاد فاطمة النبوية، حتى إذا تمت الحيلة، ودخل على صاحبته، عَرَّفْتُه مقدار مدنيته الحديثة من طلب الزواج من امرأة لم يرها، وهنأتُه بالزيجة الخيرة المباركة.
دققت الجرس للساعي فحضر، ووقف بعد أن كتبت جواب الرضا، وأردت أن أسلمه إليه، ولكن عز على نفسي أن يذهب الساعي إليه بذلك الجواب فيفهم منه أني قبلت الزواج منه، وهي سبة لست أرضى أن يظنها خادمي، ولو ربع ساعة، فترددت في الأمر، ثم نظرت إلى الساعي، وقلت له: اخرج.
وقد انتقمت لا منه، بل من خطابه فمزقته إربًا، واكتفيت بهذا.
وهكذا أنا — والحمد لله — لا أنتقم من ضعيف.