إحلال النساء محل الرجال في الوظائف ونتائجه السيئة على شخصي الضعيف
كانت كل أمنيتي من دخول امتحان البكالوريا أن أكون كالرجال في درجات الوظائف، وقد كان، فقد أعطتني الوزارة مرتبًا قدره ١٢ جنيهًا كخريجي مدرسة المعلمين العليا.
ولهذه المناسبة الطريفة أقول إن مرتب خريجي دار العلوم العليا في ذلك الوقت كان ستة جنيهات فقط، وكان مرتبي ضعف مرتب المعلم من دار العلوم، وقد شاء الله أن تنسى وزارة المعارف قراراتها القديمة، وأن تعتبرني الآن من معلمات السنية، ويظهر أن للكبر أثرًا، وعلى هذا الاعتبار المعكوس الذي لا أفهم معناه كانت تعطيني الوزارة — بارك الله فيها — إعانةً شهريةً مقدارها أربعة جنيهات، وسبحان مغير الأحوال، والظاهر أن ما نقصه خريجو دار العلوم من المعلومات في عصرهم الحالي زادوا به مالًا، ولله في خلقه شئون.
كانت الوزارة في ذلك الوقت تريد إحلال الآنسات محل الرجال في وظائف التعليم بمدارس البنات، ورفض المرحوم الشيخ حمزة فتح الله أن يسمح لفتاة بتدريس اللغة العربية التي كان هو زعيمها حتى إذا تخرجن سمح لي بذلك.
قام رجال دار العلوم وقعدوا لذلك النبأ الغريب في نظرهم، وساءهم جدًّا أن تدرس فتاة اللغة العربية للسنة الرابعة، وهم أصحاب امتياز تلك اللغة، وكانوا في ذلك الوقت لا يسمحون لأحد أن يسمح لنفسه بما احتكروه لأنفسهم من تدريس اللغة العربية مهما كانت الظروف، ومن هنا أخذ اسم نبوية موسى يظهر لا بالذكرى الحميدة — والحمد لله — ولكن بالذكرى السيئة، فسموني هادمة بيوت الرجال، وقاطعة أرزاقهم، وغير ذلك من الألقاب التي أسبغوها علي، وكانوا يتحينون الفرص للإيقاع بي، فكنت إذا درست أخذوا يسترقون السمع، ويدونون ما أقوله وما أعطيه لتلميذاتي فينتقدونه، ويذهبون إلى الناظرة فيبالغون في ذلك الانتقاد، ولكنها كانت تعرض عنهم في السنة الأولى من مباشرتي العمل.
كنت في ذلك الوقت أكتب في صحيفة يومية اسمها «مصر الفتاة» تحت اسم مستعار اتخذته لنفسي، وهو «ضمير حر في جسم رقيق»، وقد أردت بكلمة رقيق المعنيين؛ رقيق أي نحيف دقيق، وقد كان هذا من صفاتي، ورقيق أي مستعبد، وقد كان هذا — ولا شك — من صفة كل مصري يباشر التعليم.
ذهب معلمو اللغة العربية إلى الناظرة، وأحضروا لها عددًا وافرًا من نسخ «مصر الفتاة»، وأطلعوها على المقالات، وادعوا أني إنما أنتقد فيها السياسة الإنجليزية، وبذا استطاعوا أن يصلوا إلى قلبها بعد أن كان مغلقًا في وجوههم.
أصغت الناظرة إليهم أخيرًا، فقلبت لي ظَهْرَ المِجَنِّ، فأرادت في أول الأمر أن تنتقم مني بتوصيل انتقاداتهم إلى الوزارة، فدعتني إلى مكتبها، وكان إلى جانبها أحد معلمي اللغة العربية بالمدرسة؛ أي مدرسة عباس الأميرية، وقالت لي: إن الأستاذ غير راضٍ عن طريقة تدريسك، فأرجو أن تستمعي إلى نصائحه، وأن تعملي بها. قالت لي ذلك باللغة الإنجليزية، وكأنه كان بينها وبين الأستاذ اتفاق من قبل، فاندفع هو يسمعني نصائحه الغالية، فقلت لها بالإنجليزية أيضًا غير عابئة بما كان يقوله الأستاذ: إني لا أعمل برأي أحد هنا إلا برأيك أنت ناظرة المدرسة، وأنت لا تستطيعين أن تعطيني آراءك في تدريس اللغة العربية؛ لأنك — والحمد لله — تلميذتي في تلك اللغة، فأنا أدرسها لك، وقد كانت الحكومة انتدبتني لتدريس اللغة العربية للمعلمات الإنجليزيات؛ لأني أستطيع تفهيمهن اللغة العربية أكثر من الشيوخ؛ إذ أشرح لهن ما يصعب عليهن من العبارات باللغة الإنجليزية، أما الشيوخ فكانوا لجهلهم اللغة الإنجليزية يستعملون الأيدي والأرجل في تفسير العبارات الغامضة، وهم — والحمد لله — لا يحسنون الإشارة.
قلت لها ذلك والأستاذ لا يزال مندفعًا في إرشاداته دون أن أستمع إليه، وأخيرًا عز عليَّ أن أتركه يكلم نفسه فالتفت إليه، وقلت له: لا تتعب نفسك لأنني أنا غير راضية عن طرق تعليمك للغة العربية بمقدار عدم رضائك عن طرقي، وقد أكون على حق، وقد تكون أنت على باطل، ولا بد أن يكون بيني وبينك حكم يفهم تلك اللغة، أما هذه الناظرة فلا يمكن أن تكون ذلك الحكم، وهي تجهلها تمامًا.
قلت ذلك، ثم ترجمته للناظرة فساءها ذلك، وقالت: إذن ماذا أصنع في إرشادك؟ قلت: لهؤلاء المعلمين أن يكتبوا تقريرًا بالإرشادات التي يريدونها، وسأرد عليهم أنا، ويرفع تقريرهم وتقريري إلى الوزارة، فتتخذ الوزارة ما ترى بشأن التقريرين.
طلبت الناظرة من المعلمين ذلك فرفضوا كتابة التقرير؛ لأنهم في ذلك الوقت لا يحسنون فن الإنشاء، وكل معلوماتهم في اللغة العربية كانت تنحصر في نبوغهم في الإبدال والإعلال؛ فهم يعرفون أن سار أصلها «سير»، ولكنهم لا يعرفون الفرق بين سار، وصار، وثار؛ ولهذا لم يستطع أحد منهم أن يتقدم بكتابة ذلك التقرير، وأرادت الناظرة إحراجي، والحق مع القوة لا مع المعول، فطلبت مني أن أكتب أنا التقرير، فقلت: يا سيدتي إني لم أنتقد طرق هؤلاء الرجال، ولا يهمني ذلك الانتقاد، فكيف أكتب تقريرًا في حالة لم أنتقدها، ولم أطلب تغييرها، وهي طريقة تدريسهم، وإن كانت في نظري عقيمةً. قالت: دعك من تلك الفلسفة، وأمامك أمران لا ثالث لهما؛ فإما أن تكتبي التقرير، وإما أن تتبعي إرشادات المعلمين.
اضطررت أن أكتب التقرير، وأمري لله، وكان تقريرًا موفقًا؛ فقد شرحت فيه تلك الطريقة التي كان يستعملها أساتذة اللغة العربية، فلا يهتمون بالإنشاء ولا بفهم العبارات، بل يهتمون بأمور لا قيمة لها من أبواب الصرف التي لم أشعر إلى الآن أن لها فائدة فيما كتبته وما سأكتبه؛ أي إنها لا تفيد التلميذ أية فائدة في فن الإنشاء، بل هي علل خلو من كل شيء حتى من المنطق الصحيح؛ فقد كان التلميذ يجهل معاني الكلمات فلا يعرف معانيها، ولكن الأستاذ يعلمه أصولها؛ أي أجدادها القدماء؛ فيقول له إن كاد أصلها كيد، وهو نفسه لا يفهم الفرق بين كاد وقاد، ولا كيف تستعمل الكلمتان، وهو يعرف أصلهما قبل أن يعرفهما.
هذا فضلًا عن أن المنطق الذي يذكر في تلك العلل منطق سخيف لا يستقيم له معنى؛ فيشرح الأستاذ أن «قاضٍ» استثقلت فيها الضمة على الياء فحذفت الضمة، والتقى ساكنان التنوين والياء فحذفت الياء للتخلص من التقاء الساكنين، على أن «نبي» لم تستثقل فيها الضمة على الياء وبقيت كما هي، وفي هذا الكلام خطأ منطقي؛ إذ يفهم منه أن كل ياء تستثقل عليها الضمة مع أن الضمة هنا لم تستثقل إلا لانتقال النطق من كسر إلى ضم، وقد لا يكون ذلك السبب؛ فكثيرًا ما تجدنا قد انتقلنا في نطقنا من كسر إلى ضم، ولا ضير في ذلك كيوجد، وغير ذلك.
فتلك العلل النحوية لم تكن تستقيم مع المنطق حتى يتعلم منها التلميذ حسن التعليل، ولم تكن تفيده كثيرًا في الكتابة، وكان يكفي أن يشرح المعلم الأسماء الناقصة، ثم يقول للتلاميذ في بساطة إن ياءها تحذف في حالتي الرفع والجر، وتبقى في حالة النصب، ولا داعي إلى ذلك الخطأ المنطقي المرذول في تعليل ما ليس له تعليل.
ومن تلك العلل قولهم: نظرت إلى كتابي، كتاب مجرور بإلى وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. سلسلة من أخطاء منطقية لا يفهمها — والحمد لله — إلا أولئك الشيوخ؛ فحركة المناسبة التي يقولون إنها منعت ظهور الحركة الأصلية هي الكسرة، وهي ليست حركة مناسبة في الواقع؛ فكثيرًا ما تسبق الياء بحرف مفتوح كهيئة؛ فلا معنى إذن لحركة المناسبة هذه؛ أي مناسبة الياء على أننا نقول كتابَيْ محمد بفتح الباء، ونترك المناسبة، وأمرها لله.
هذا الخطأ الأول، أما الخطأ الثاني فكيف برَبِّكَ تنوب الكسرة عن الكسرة؛ لأن حركة هذا الاسم هي الكسرة إذ هو مجرور بإلى، وحركة المناسبة هي الكسرة، فهل يستطيع إنسان يعقل أن يقول إن الكسرة تمنع الكسرة عن الظهور لتظهر هي؟!
ومن هذا نعلم أن قولهم منع من ظهورها — أي الكسرة — اشتغال المحل بحركة المناسبة غير معقول بالمرة، وما قال أحد إن إنسانًا يشتغل بالصلاة عن الصلاة، فكيف اشتغل ذلك المحل بالكسرة عن الكسرة؟!
إنهم لو أصابوا لقالوا إن ياء المتكلم المضافة إلى الأسماء تسبق دائمًا بالكسر، هكذا نطقت العرب تلك اللغة، ولا معنى لإيراد علل غير منطقية.
كذلك شرحت في ذلك التقرير قولهم نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فتحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها بحسب الآن فقلبت ألفًا كاستطال، وتعجبت في تقريري هذا كيف تكون الحركة الواحدة على الواو حركتين تتحرك بها الواو بحسب الأصل، كما يتحرك الساكن قبلها بحسب الآن، وهل إذا كان مع الإنسان ألف جنيه وسرقها لص يجوز له أن يشتري منزلًا بحسب الأصل كما يشتري اللص بها منزلًا بحسب الآن؟ أليس ذلك هو السخف كله؟!
جاء هذا التقرير من السيدة نبوية موسى — وقد كنا في ذلك الوقت لا نقول آنسة — فنرسله إليكم رجاء اتباعه في مدرستكم.
وزع هذا التقرير على جميع مدارس البنات، ومن ضمنها مدرسة عباس التي كنت موظفةً بها، وقد دهشت الناظرة، وجن جنونها عند اطلاعها عليه، فأحضرتني وقالت: ما هذا؟! لقد كان هؤلاء يدرسون قبل أن تولدي أنت، فكيف تصححين لهم طرقهم؟ قلت: لا غرابة في ذلك يا سيدتي؛ فقد درست أنا بهذه المدرسة في العام الماضي، وكانت نتائجي في التدريس محمودةً، وكنت أنتِ راضيةً عني، وها هو رضاؤكِ في هذا العام قد انقلب سخطًا؛ أي إنني لما درست عامًا جهلت ما كنت أدرسه في العام الأول، فلم أستطع إرضاءك بقدر ما أرضيتك في أول تدريسي، إذا قست ذلك علمت أنهم الآن لا يعرفون شيئًا ما دام الإنسان في عام واحد ينقص كل هذا النقص؛ أي يرجع إلى الوراء، فما بالك بهم وقد درسوا ما يزيد عن عشرين عامًا؟! قالت: هكذا أنت لا تصلحين إلا في الفلسفة.
اضطرت الناظرة أن تؤجل الحرب التي بيني وبينها مؤقتًا، وتتظاهر بالرضاء عني، ولكنها كانت تسر لي ضد ما كانت تظهر.