صاحبة الجلالة الصحافة وأثرها عليَّ سابقًا
اضطرت ناظرة مدرسة عباس الأميرية أن تجعل بيني وبينها هدنةً، وفي النفس ما فيها، ولكنها ما لبثت أن ثارت؛ إذ ذكر لها المعلمون أني لا أزال أكتب في «مصر الفتاة»، وأن كتابتي ضد الإنجليز، وعلم الله ما كان في كتابتي شيء من ذلك، وما كانت إلا نقدًا بريئًا على أساليب التعليم في المدارس، طلبت منهم إحضار نسخ عديدة من «مصر الفتاة» التي تحتوي على تلك المقالات، ولا أدري كيف استطاعوا أن يحضروا لها ما يربو على الثلاثين مقالًا، وقد أشَّروا بالمداد الأحمر على كل مقال، واستدعتني حضرة الناظرة فدخلت عليها، وإذا أمامها تلك الأعداد من مجلة «مصر الفتاة»، وقد طويت طيًّا يظهر موضع مقالاتي، ثم قالت لي وقد أشارت إلى تلك الأعداد: هل تكتبين في هذه الصحيفة؟ قلت: لا حق لكِ يا سيدتي في سؤالي عن هذا، وكل ما لك هو أن تفتشي عن عملي المدرسي وأن تنتقديه، وقد علمت مما سبق أنك أنتِ شخصيًّا لا تستطيعين ذلك، وأن إخواننا المشايخ لا حق لهم فيه. قالت: ولكن الوزارة تحرم على الموظفين الكتابة في الصحف. قلت: الوزارة هي إذن التي تسألني عن ذلك، أما أنتِ فلا شأن لك فيه.
قالت: إذن سأذهب إلى الوزارة، وسأريك نتيجة أعمالك. قلت: لا بأس.
اختطفت نسخةً من النسخ التي كانت أمامها، وذهبت بها إلى الوزارة، ثم عادت من الوزارة، وقد هدأت ثائرتها، وأصبحت صديقةً من جديد، فاستدعتني وقالت لي في ابتسامة: ما الذي كتبته في تلك المقالة التي ذهبت بها أنا اليوم إلى الوزارة؟ قلت: وهل أعرف أنا شيئًا مما تقولين؟ قالت: لقد أخذتُ نسخةً من هذه النسخ — أي من نسخ الصحيفة التي كانت لا تزال مكدسةً على مكتبها — وذهبتُ بها إلى سعد باشا زغلول، وما كاد يقرؤها حتى أشرقت أسارير وجهه، وسُرَّ بها سرورًا عظيمًا، وقال إنه يتمنى لو أنك أرسلت إليه بتلك المقالات قبل إرسالها إلى الصحف ليصححها لك، قلت: إذا جننت في القريب العاجل، فسأفعل ذلك يا سيدتي. فقالت: ما وجه الجنون؟ قلت: وهل يكون جنون أكثر من أن معلمة في إحدى المدارس تنتظر من وزير المعارف أن يصحح لها ما تكتبه قبل إرساله إلى الصحف؟! قالت: لو كنت مكانك لفعلت ذلك. قلت: ولو كنت أنا مكانك لما طلبت من معلمتي هذا. قالت: إنك لا تتركين فلسفتك.
مضى على ذلك يومان، وفي اليوم الثالث حضر سكرتير المغفور له محمد باشا سعيد في عربة الباشا، ومعه خطاب من وزارة المعارف يصرح لي فيه بالتدريس لبنات محمد باشا سعيد، فعجبت من التصريح، وكيف عرفني محمد باشا سعيد؟ ومن أين؟ أردت أن أتوقف عن الذهاب في تلك العربة، ولكن الناظرة أصرت على أن أذهب؛ لأن الوزارة خاطبتها بالتليفون، وأمرتها بإرسالي، فخرجت وأنا مندهشة، فحياني سكرتير محمد باشا سعيد، وكان في ذلك الوقت رئيسًا للوزراء، وطلب مني أن أركب إلى جانبه لنذهب إلى منزل الباشا للتدريس لبناته.
قلت: وما السبب في وقوع اختيار الباشا عليَّ؟ قال وقد أشار إلى نسخة من صحيفة «مصر الفتاة» كانت في يده: إن الباشا اطلع على هذا المقال، وقال لسعد باشا إنه ما دام في مصر معلمات يجدن اللغة العربية إلى هذا الحد، فهو لا يرضى أن يعلم بناته رجال. وكان في ذلك — ولا شك — قطع رزق لرجال دار العلوم أيضًا، فقلت له: ولكني لست أنا بكاتبة ذلك المقال، فإذا كان قد وقع الاختيار عليَّ على زعم أني كاتبته فأرجوك أن تعيدني إلى المدرسة. قال: لسنا بصدد التحقيق معك يا سيدة، وقد جئت بأمر من وزير المعارف لتدرسي لبنات رئيس الوزراء. قلت: على شرط أني لست كاتبة هذا المقال. قال: لا بأس فقد قبلنا هذا الشرط.
ثم أخذ يسرد لي الأسباب التي كنت أجهلها فيما وقع بين الناظرة ووزير المعارف، وتصفحت المقال فرأيت لدهشتي أنه كان مدحًا لسعد باشا زغلول، فقد اختارت الناظرة نسخة، وكان المقال بها لحسن الحظ مدحًا لسعد باشا زغلول، قلت فيه: إنه مع نبوغ وزير المعارف وعلو كعبه في العلوم، وإنه خير مصري لذلك المركز، فهو مع ذلك لا يستطيع إصلاح المدارس؛ لأن المدارس لا تصلح إلا بمن فيها، وهكذا كان في المقال مدح مستطاب للوزير، ونقد مر على نظم التعليم خصوصًا تعليم اللغة العربية.
أعجب المغفور له سعد باشا زغلول بالمقال طبعًا؛ لأنه مدح فيه، وقال للناظرة بعد أن قرأه: هل أنتِ واثقة أن هذا من كتابتها؟ قالت: نعم، تمام الثقة. قال: بشرك الله بالخير إذا كان في مدارسنا الآن مثل هذه الكاتبة. قالت: ولكن الكتابة في الصحف محرمة على الموظفين. قال: نعم، ولكني لا آخذها بالشك، ولا أعاقبها على الكتابة في الصحف إلا إذا جاءني منها إمضاء صريح بأنها هي التي تكتب تلك المقالات. ولهذا جاءت الناظرة تطلب مني أن أكتب بإمضائي للوزير ليصححه، وكنت على حق إذ رفضت ذلك، وقد أعجب سعد باشا زغلول بالمقال فأخذه، وذهب به إلى سعيد باشا، وأخبره أن كاتبة ذلك المقال هي نبوية موسى إحدى خريجات المدرسة السنية، وسر سعيد باشا لهذا النبأ، وطلب أن تدرِّس تلك الكاتبة لبناته اللغة العربية.
ذهبت إلى منزل المغفور له محمد باشا سعيد فقابلني في غرفة الاستقبال، وكان واقفًا يتأهب للخروج، وبعد أن حياني قال لي: أعجبتني آراؤك في المقال الذي أطلعني عليه سعد زغلول باشا. قلت: ولكنه ليس من كتابتي. قال: لقد وقع اختياري عليكِ مدرِّسة لبناتي، فلا معنى للتنحي، وقد أخبرني سعد باشا أيضًا أنك أول معلمة عُينت لتدريس اللغة العربية. قلت: ولكن الرجال غير راضين عن تدريسي. قال: لا بأس! أما أنا فإني راضٍ. وقد كنت في ذلك أحاول أن لا أدرِّس في المنازل؛ لأني كنت أعدها سبةً، ثم قال: ستعطين بناتي هنا أربعة دروس في الأسبوع، وقد جعلت مرتبك عن هذا سبعة جنيهات. قال ذلك وتركني وخرج دون أن ينتظر مني جوابًا، وجاءتني بعد ذلك السيدة حرمه، وهي من فضليات نساء مصر كمالًا واستقامةً مع جمال طبيعي فتان، فقدمت لي بناتها، وكن ثلاثًا؛ حضرة صاحبة العصمة زينب هانم والدة حضرة صاحبة الجلالة الملكة فريال، وحضرة صاحبة العصمة ناهد هانم حرم معالي حسين سري باشا، وشقيقتهما الثالثة بديعة هانم، وقد توفيت إلى رحمة الله.
كنت غير راضية عن هذا الدرس؛ لأني كنت أعده سبةً، وكنت أخشى أن التلميذة التي أدرس لها في المنزل قد لا تمنحني من الاحترام ما يجب لمعلمة تدرس في المدارس، خصوصًا وهؤلاء الثلاث بنات أعلى رأس في مصر إذ ذاك، وقد خشيت أن يعتبرنني من بعض الحاشية، ولكني وجدت من أدبهن وحسن معاملتهن ما غير رأيي، وحببني في التدريس لهن؛ أدب رائع، ووجوه بريئة مشرقة سطع فيها دم الحياة الطبيعية لا الدم الصناعي، فكان النظر إليهن والبقاء معهن متعةً، كان يجب أن أدفع أنا عنها عشرين جنيهًا شهريًّا على أقل تقدير، لا أن آخذ سبعة جنيهات، فالصفقة إذن كانت رابحةً، وقد أرادت الناظرة أن تضر بي فنقمتني، وهكذا كنت بحسب ما تلوكه الألسن من الإشاعات، كالعفريت الذي إذا ضرب ولم تصبه أصبح ماردًا — كما يقول عامة الناس خصوصًا الفلاحين منهم.
كانت المدرسة والناظرة نفسها تخشاني بعد هذا؛ لأني اتصلت بوزير المعارف على زعمهم، بل وبمن هو أعلى منه.
أما معلمو اللغة العربية فقد زاد سخطهم إذ علموا أني لم أحل محلهم في المدارس فحسب، بل حللت محلهم في منازل العظماء من رجال مصر، فلا بدع أن سميت في نظرهم قاطعة الأرزاق، ومن هنا أصبحت أكره البقاء في وزارة المعارف، وقد كنت بغريزتي الطبيعية ميالةً إلى العمل الحر، فكنت تجد بين أوراقي وأنا لا أزال طالبةً في معلمات السنية رسمًا بديعًا للمدرسة التي كنت أنوي فتحها على حسابي يوم أتخرج؛ ولهذا كنت — حسب تعبير علي ماهر باشا الأخير — أحفظ استقالتي في جيبي، وأرحب بالظروف التي تدفعني إليها.