تدريسي اللغة العربية للمعلمات الإنجليزيات
سمح لي المرحوم الشيخ حمزة فتح الله بتدريس اللغة العربية، فانتهز المعلمات الإنجليزيات هذه الفرصة، وطلبن من الوزارة أن تكلفني تدريس اللغة العربية لهن؛ لأنهن بالطبع يستطعن التفاهم معي لمعرفتي اللغة الإنجليزية، أما المشايخ فقد كان تخاطبهن معهم بالإشارة، وربما أدت تلك الإشارات إلى عكس المعنى المطلوب، وكان هذا سببًا في أن أعرف من عادات الإنجليزيات الشيء الكثير، والإنجليز يعملون لأمتهم الدعاية الكافية التي تجعل الأمم الأخرى تثق بهم ثقةً عظيمةً.
عرفت ذلك من ميول تلميذاتي الإنجليزيات، وإن كن فيما مضى معلماتي، فلم أشأ أن أجاريهن فيه، فكن أثناء درس المحادثة إذا طلبن مني أن أروي لهن خرافةً مصريةً، طلبت منهن أن يسردن لي خرافةً إنجليزيةً لأشرح لهن أنا خرافةً مصريةً على طرازها، فكن في أول الأمر يرفضن ذكر خرافات إنجليزية مدعيات أن إنجلترا لا خرافة فيها، ولكنهن اضطررن أمام إصراري على أن كل بلد لا تخلو من الخرافات، واستشهادي ببعض ما كنت أقرؤه من الكتب الإنجليزية … اضطررن أن يروين لي خرافات إنجليزيةً، وأروي لهن خرافات مصريةً مثلها.
عرَّفت الإنجليزيات أني أدافع عن عادات بلادي، ولا أرمي أهلها بسوء، فأقلعن عن تجريح المصريين أمامي، ووافقنني على رأيي من أن كل الشعوب لا تخلو من أخيار، كما لا تخلو من أشرار، وأن الله لم يخلق أمةً من ملائكة، وأخرى من شياطين، وفي ذلك تقرير لحقيقة أومن بها كل الإيمان.
أقامت المعلمات الإنجليزيات حفلة شاي دعت إليها بعض المصريات، وكنت بالطبع من بين هؤلاء المصريات، وأخذنا نتحدث أثناء تناول الشاي في مختلف الشئون، وفجأةً عرضت إحدى المصريات إلى ذكر بعض المومسات، وسألت إنجليزيةً عن مرادف كلمة مومس باللغة الإنجليزية، فدهشت الإنجليزية لذلك، وقالت: إن تلك المرأة غير موجودة في إنجلترا، وما دام المسمى لا وجود له، فليس له بالطبع اسم في قواميس اللغة. ودهشت المصريات لذلك وأخذن يسألن أسئلةً مختلفةً عن الحالة في إنجلترا، وانبرت إنجليزية غيورة على بلادها تصف لهن إنجلترا بأنها بلاد الخير والعلم، ولا أثر للشر فيها، واندفعت في ذلك اندفاعًا نسيت معه الحقيقة، فأخذت تزعم أنه ليس في إنجلترا كذوب ولا غشاش ولا لص ولا محتال، وأخذت المصريات تقول إن مصر ليس فيها من يصدق أو من يفي بوعده، وإن كل المصريين خونة لا أثر للفضيلة فيهم، وساءتني تلك الدعاية الكاذبة التي تقوم بها زميلاتي ضد بلادهن، ولكني سكت إلى أن هدأت العاصفة، ثم التفت إلى تلك الإنجليزية المتحمسة، وسألتها ببساطة: هل في إنجلترا محاكم وسجون؟ فدهشت وقالت: إنه لسؤال عجيب! ويظهر أنها ظنت فيَّ الغباء، فقلت لها: لا عجب يا سيدتي من سؤالي هذا، فإني لم أتشرف بزيارة إنجلترا. قالت: لا بأس، وأخذت تصف لي سجون لندن واتساعها، وتنسيق غرفها، وهنا أظهرتُ الدهشة، وقلت في شيء من السخرية: وهل بُنيت هذه السجون يا سيدتي لتكون مأوى المصريين عند ذهابهم لتمضية الصيف في إنجلترا، ما دام ليس في الإنجليز كذاب، ولا غشاش، ولا قاتل، ولا شرير؟!
ارتج على السيدة الإنجليزية فلم تُحِرْ جوابًا، وكانت غريبة لا تعرفني، أما المعلمات الإنجليزيات اللائي خبرنني وعرفن حواري، فقد نظرت كل منهن إلى فنجان الشاي الذي تشربه، واشتغلت به عن الرد علي، وقوى ذلك من عزيمتي، فقلت للسيدة التي كانت تناقشني: لا شك يا سيدتي أن هذه السجون مملوءة بالإنجليز أنفسهم، وهنا لا يخرج كلامك عن أحد أمرين؛ فإما أن يكون كلامك لا صحة فيه ولا حقيقة له، وإما أن تكوني صادقةً، وليس في إنجلترا لا لص ولا شرير، وهنا تكون النكبة الكبرى؛ لأن قضاة الإنجليز يكونون بسجنهم هؤلاء الناس الأبرياء ظالمين، ومصر إذا كان فيها من الدهماء اللص أو الكذوب، فإن قضاتها قد اشتهروا بالعدل والنزاهة، فلا ظلم في قضاء مصر، ولا إحراج، أفلا ترين بعد هذا أن مصر أفضل من إنجلترا؟
فسكتت، ولم تستطع الإجابة، وتشاغل عني باقي الإنجليزيات، ثم التفت إلى المصريات، وقلت لهن: لقد علمتن من ذلك النقاش أن تلك السيدة الإنجليزية كانت تكذب لصالح بلادها، وهي تُشكر على ذلك، أما أنتن فيسوءني جدًّا أن أقول إنكن كذبتن كذبًا واضحًا في ادعائكن أن مصر ليس فيها وفيٌّ أو صادق، وليتكن اقترفتن جريمة الكذب هذه لصالحكن، أو لصالح بلادكن، بل لسوء حظ مصر أنكن تقترفن جريمة الكذب للدعاية ضد بلادكن، تلك البلاد المسكينة التي أنجبت نارًا تحترق بها، على أنكن في ذلك الادعاء قد أسأتن إلى أنفسكن؛ لأنكن وأنتن تعترفن صراحةً، وأمام زميلاتنا الإنجليزيات أنه ليس في مصر صادق ولا أمين، قد سجلتن على أنفسكن وصمة عار الكذب والخيانة؛ لأنكن لسوء الحظ مصريات ينطبق عليكن ما ينطبق على جميع المصريين.