الحرية وهل لها مسمًى؟
كنت شغوفةً بلفظ الحرية، وكنت أحسب أن لها مسمًى حتى علمني الدهر أن الحرية والعدل اسمان وهميان لا حقيقة لهما، دفعني حبي لتلك الحرية الموهومة أن أطلب الخروج من خدمة الحكومة لأكون ناظرةً للمدرسة المحمدية في الفيوم التي أنشأها مجلس المديرية في ذلك الوقت، وكنت أعتقد كل الاعتقاد أن العمل في تلك المدرسة عمل حر لا تدخل لأحد فيه.
وكان أن ذكر المغفور له سعد باشا اسمي أمام حضرة صاحب الرفعة محمد باشا محمود، وروى له رواية المقالة، وكيف اختارني محمد باشا سعيد معلمةً لبناته.
كان محمد باشا محمود في ذلك الوقت قد أنشأ المدرسة المحمدية في الفيوم، وعين لها ناظرةً إنجليزية، ولكنه اختلف معها فتركت المدرسة لخلاف اعتبرت فيه أن المصريين لا يفهمون النظافة؛ لأنها طلبت من مجلس المديرية أن يرصف فناء المدرسة بالأسفلت على اتساعه، فلم يجد المجلس في ماليته ما يقوم بذلك، وتضايقت الناظرة لعدم تنفيذ هذا المشروع؛ لأن الفناء كان أثناء المطر يُملأ بالوحول، فتحمله أرجل الطالبات إلى فصول الدراسة، فلما رفض المجلس طلبها تركته، وأخذ المدير؛ أي محمد باشا محمود يبحث عن ناظرة أخرى، وما كاد يسمع باسمي حتى أخذ عنواني من وزارة المعارف، وكتب إليَّ لأقابله في منزله بشارع الفلكي، وهناك اتفقنا على أن أذهب معه إلى الفيوم لكتابة عقد التوظف مع المجلس ذاته.
وراقني طلبه هذا، وسررت له كل السرور؛ لأني شعرت أني سأنال الحرية المرغوبة بعيدًا عن الحكومة، وقد فاتني في ذلك الوقت أن أعرف أن مجالس المديريات هي أيضًا جزء من الحكومة، وفي اليوم التالي سافرت معه في قطار واحد، وكنا في عطلة الصيف، وما كاد القطار يصل إلى الفيوم، وينزل منه حضرة المدير؛ أي رفعة محمد باشا محمود حتى أخذ العساكر يدفعون الناس ليفسحوا له الطريق، وكانت ضجة، وكان زحام اصطدم فيه كل الناس حتى أنا التي حضرت مع سعادة المدير نفسه.
هالني ذلك السلطان العظيم للمدير، الشيء الذي لم أعهده في عاصمة البلاد القاهرة، فمحافظها يسير دون ضجة ولا جلبة، أما المدير في المديريات فكأنه ملك، وذكرتني تلك الحادثة بحكاية رويت لي عن فلاحة رأت زحامًا على محطة السكة الحديد في بلدها، فسألت: علام ذلك الزحام؟ فقيل لها إنه الخديوي يشرف البلد قالت: «يا سلام والزيطة دي كلها علشان الخديوي، والله أنا باحسبه المدير.» وهكذا عرفت في ذلك اليوم من هو ذلك المدير العظيم.
استقل عربته، وتبعته في عربة أجرة إلى المديرية، وهناك في ساحة المديرية ما كدنا نصل حتى قابله العساكر بتلك التحية العسكرية المعروفة، وقد صرخ فيهم رئيسهم: «كركون سلاح!» وتبع تلك الصرخة ضجة عظيمة من بنادق العسكر أفزعتني، ولم أكن رأيتها قبل ذلك، وتبعت المدير إلى غرفته، وأنا أكاد أرتعد خوفًا، فطلب أحد الكتبة، وأمره بإعداد العقد فنظرت إليه، وقلت له: مع من؟ قال: معك. قلت: أتعاقد أنا معك؟ أعوذ بالله! لقد اعتدت أن لا أخشى رئيسًا، وقد شتمت رئيستي قبل أن أحضر معك، وإذا أنا ناقشتك فماذا يكون حالي، وأنت هنا ملك يخشاك كل الناس، وتحت أمرك عسكر أزعجتني تحيتهم لك؟ فأنا لا أقبل العمل معك، ولن أستطيعه. قال: ولكني سأعاملك بالحسنى. قلت: إنك إن قلت لي كلمةً في المستقبل فسأقول لك عشرًا. قال: ولكن هل تستطيعين إدارة المدرسة بنجاح؟ قلت: نعم. قال: لا بأس، فلن أقول لك تلك الكلمة.
وعلى ذلك اتفقنا، وأمضيت العقد، وعدت إلى القاهرة فقدمت استقالتي من وزارة المعارف، وكان المغفور له سعد باشا زغلول وزير المعارف في ذلك الوقت قد سافر إلى أوروبا لتمضية الصيف، وحل محله صاحب الدولة رئيس الوزراء محمد باشا سعيد الذي كنت أدرس لبناته في ذلك الوقت، فلما عرضت عليه الاستقالة رفض قبولها، وقابلني في منزله، فقال لي: لا بد من أن تسحبي استقالتك. قلت: لن أفعل! قال: هذا أمري. قلت: لقد أعطيت كلمة شرف. قال: سآمر المدير بتمزيق العقد — لأنه كان في ذلك الوقت وزيرًا للداخلية — قلت: ولكني أعطيت كلمة شرف، ولا قيمة للعقد بجانبها. قال: فهل تقدرين كلمتك أكثر من تقديرك لكلمتي؟ قلت: كلمتي تنفذ علي؛ لأني قلتها. قال: ولكني سأكون ضدك إن فعلت. قلت: لا بأس فلن نتقابل بعد اليوم. قال: سبحان الله إنك لعنيدة، وهلا تزالين على تصميمك بعد أن علمت أن هذا يغضبني؟ قلت: نعم؛ لأنه يرضيني. قال: إذن أحمد الله إذ لم تطل مدتك في تعليم بناتي لأنك عنيدة، وأخشى أن تسري تلك الخلة منك إليهن. قلت: إذن قد عملت ما يرضيك في تعاقدي بالفيوم. فألقى بسبعة جنيهات مرتب الشهر الآتي، وقال: هذا مرتبك، وشاوري نفسك لعلك تهتدين. قلت: لقد صممت. فخرج من باب وخرجت من الثاني.
وهكذا بدأت عملي في الفيوم مغضوبًا عليَّ من رئيس الوزراء، ووزير الداخلية الذي هو ولا شك رئيس المدير، وإن كان لا يُؤبه به في المديرية بمقدار ما يؤبه بالمدير مرءوسه.