حنبليتي في البعد عن الرجال
رفض وزير الداخلية بالنيابة قبول الاستقالة، وتركته كما قدمت، وذهبت إلى رفعة محمد باشا محمود فوجدته متمسكًا كل التمسك بتنفيذ العقد الذي كتبته معه، وهنا احترت في أمري ماذا أفعل؟ وقال لي محمد باشا إنه سيتوسط لدى الوزارة في قبول استقالتي، وطالت مدة انتظاري خطاب قبول الاستقالة من وزارة المعارف، وكنت لذلك في أشد الحرج والضيق؛ هذا يطالبني بتنفيذ العقد، والوزارة تصر على عدم قبول الاستقالة، وكنت أزور المرحومة باحثة في البادية، وكان حضرة الشيخ المحترم زوجها يقرأ ما أكتبه في «الجريدة»، ويقارنه بما تكتبه هي، وكان يفضل كتابتي، ولو على سبيل إحراج زوجته ومعاندتها، ويظهر أنها تضايقت من ذلك، وأرادت أن يقابلني هو بالذات، ولعلها قصدت بذلك أن تريه أني وإن كنت أساويها في الكتابة إلا أني لا أساويها في الجمال، فعرضت عليَّ أن أقابل عبد الستار بك الباسل، ولكني لعلمي بشدة غيرة النساء على أزواجهن رفضت رفضًا باتًّا أن أقابله؛ ولهذا كنت إذا ذهبت إليها احتطت أن لا يراني حتى ولا من ثقب الباب، فكنت أجلس دائمًا بجانب الباب المغلق في الحجرة حتى إذا نظر أحد منه فلا يراني.
وكان ذلك يضايقها، وربما كان يضايق أيضًا عبد الستار بك، وذهبت إليها، وأنا في حيرتي هذه فسألتني عن كيفية خروجي من ذلك المأزق، قلت: لقد فكرت فلم أجد لي مخرجًا من هذا إلا أن أتزوج، وهذا العذر الشرعي يمنع الطرفين من التمسك بي، ولكني كما تعلمين لا أحب الزواج؛ ولهذا عولت أن أتزوج بشخص أكون واثقةً من أنه سيطلقني في ليلة العرس. قالت: وكيف يتم لكِ ذلك؟ قلت: نعم! لقد سمعت إحدى سمسارات الزواج تقول: إن رجلًا طلب منها أن تبحث له عن زوجة لا يشترط فيها إلا الجمال فقط؛ فهو لا يشترط علمًا، ولا مالًا، ولا يهمه إلا أن تكون زوجته ملكة الجمال في الدنيا. فإذا تم لي الأمر، ورضيت تلك السمسارة أن تخدع الزوج فإني لا أقابله إلا ليلة الزواج بالطبع، وهناك أرتدي ملابسي هذه التي ترينها أنتِ، ويدخل الرجل وهو ينتظر أن يرى ملكة الجمال في العالم، وإذا به يراني كما ترينني الآن، فهل تظنين أنه يتمالك نفسه من أن يضربني أو ينتحر، وهنا نقضي ليلة العرس في القسم، ويكون قد تم لي ما أردت فأتخلص من الوظيفة والزواج معًا.
كنت أقول ذلك، وكان عبد الستار بك الباسل يسمعه من الغرفة المجاورة، ومن هنا ثبتت في رأسه فكرة أني بشعة الخلقة إلى حد يجعل ذلك الزوج ينتحر في ليلة العرس، فلما ذهبت إلى الفيوم، وكان عضوًا في مجلس المديرية كان أول ما فعله هو زيارة المدرسة ليراني، وعاد إلى زوجته فقال: إنها ليست من الدمامة بالمقدار الذي كنت أتصوره. وبديهيًّا أن هذا لا يدل على المدح، ولكنه يدل على أنه كان قد أخذ عن صورتي فكرةً غير واقعية فظنني غولًا، أو ما شاكل ذلك من الحيوانات، فلما رآني لا أزال من الجنس البشري الذي لا غرابة في خلقته قال ذلك لزوجته، ولكن الزوجة وخصوصًا الزوجة الفاضلة المستقيمة المتعلمة كالمرحومة مَلَك شديدة الغيرة على زوجها الذي لا تعرف من الرجال غيره؛ ولهذا حركتها تلك الكلمة، وصممت عندما ذهبت إلى الفيوم إلا أن تضيفني في قصر الباسل، واضطررت إلى إجابة طلبها لما بيننا من صداقة، ولكني ذهبت محتاطةً، فأخذت والدتي معي حتى لا أترك لعبد الستار بك سبيلًا إلى مجالستنا في منزله، وجاء طبعًا ليحييني، ورأى والدتي وقد سترت وجهها، ولكنه جلس، وهي عادة العرب في إكرام الضيوف والمبالغة في ذلك الإكرام، ولكني تضايقت؛ لأني عندما دخلت المنزل قالت لي المرحومة إنك أجمل من ذي قبل، وهي تريد أن تقول: أقل دمامة من ذي قبل. قلت: وما الذي تغير فيَّ؟ أترين أني غيرت شيئًا من خلقتي الطبيعية؟ قالت: كلا! ولكنك تبدين في نظري مقبولةً. تبين لي من تلك الكلمة أنها توجس مني خيفةً؛ ولهذا أردت أن لا يمكث زوجها معنا فتوضأت وصليت، وإن كانت تلك ليست بعادتي في كل الأيام، فلما دخل وأراد أن يسلم عليَّ باليد اعتذرت حتى لا ينقض وضوئي فجلس، وقد شعر بشيء من الجفاء، وهذا كل ما أردته، وأخذت المرحومة، وكانت على ما يظهر لي مغرمةً به، أخذت تحادثه، وتقول له: ألست في حبي على رأي امرئ القيس حيث يقول:
قال: فلنسأل نبوية عن رأيها في معنى ذلك البيت. فقلت محتدةً: أنا لا أُسأل في معنى الأبيات الغرامية وفي شكلي ولبسي وكلامي ما يمنع أي رجل من أن يسألني ذلك السؤال، فإن هو تجاهل كل ذلك فليس له إلا الضرب. ودهش الباسل وقال: لا شك أنكما من النساء. وخرج، وكان هذا كل ما أريد، وقد ساءني أن يظهر على المرحومة شيء من الغيرة من فتاة لا تعرف الرجال، فأقسمت أن لا أبيت في ذلك المنزل إلا إذا دخلت أنا وهي في غرفة وأغلقناها من الداخل، وأخذت تستعطف فأرفض، وأقول إن كلامك شككني في طهارة هذا البيت.
أليس للرجال بعد هذا أيها القارئ أن يكرهوني، أو يصفوني بالجنون، وهل يلامون إذا فعلوا ذلك؟!
انتهت الليلة على خير ما يرام، أو على أسوئه، وفي الصباح استقلَلْتُ أول قطار يترك قصر الباسل إلى الفيوم، وظللت صديقةً للمرحومة؛ لأني كنت أحبها كثيرًا، ولكني لم أدخل منزلها بعد هذا لا لأني كنت أشك في طهارة زوجها، ولكن لأني لم أكن أريد أن يكون اسمي بأية حال موضعًا للشبهة.
وتصادف أن دخلت منزل المرحوم أحمد باشا الباسل لأزور زوجته، فرأتني المرحومة هناك، وقالت: إن عبد الستار بك مع الرجال، وأريد أن أدعوه لمقابلتك. قلت: ولكني يا سيدتي لا أريد مقابلته. قالت: اسمعي يا نبوية! إني أنا أريد أن أراه، ولعلي اتخذتك حجةً. فضحكت وقلت: لا أدري لِمَ تريدين ذلك، وليس في وجهه ما يعجب. وكانت شقيقة الباسل موجودةً، وقد نفذت المرحومة غرضها قبل أن تقوله لي، وإذا به قد حضر، وبادرته شقيقته بقولها: إنها تقول عنك إنك دميم. قلت: لا بأس، وهذا لا يعيبه يكفي أنه نبيل كريم. وحييت الجميع، وخرجت في الحال بالرغم من إلحاح المرحومة باحثة البادية في استبقائي.
أعود إلى حيرتي قبل الوظيفة، فأقول إني كنت في أشد الحيرة حقًّا، كنت أفكر كثيرًا في كيف أتخلص من طرفي النزاع، وكان لي صديقة فقالت لي إنها تعرف مُنَجِّمًا ماهرًا يخبرني عن المستقبل، ولم أكن أعتقد في المنجمين إلا أني وجدت من التسلية أن أذهب إليه، ولو على سبيل تمضية الوقت والخروج من الحيرة، ولو دقائق، ويظهر أن صديقتي تلك كانت سمسارةً لذلك المنجم، فأخبرته عن حالتي قبل ذهابي إليه، فلما ذهبت رأيت شابًّا يظهر عليه أنه تلميذ صغير، وقد التفت حوله عدد عظيم من السيدات، وقيل لي إنه إنما يبحث مستقبلهن بالدور على حسب مجيئهن، وكنت بالطبع الأخيرة وجلست، وإذا به ينتهي من سيدتين، فيما لا يقل عن ثلث ساعة، وعلى هذا حسبت انتهاءه من جميع من كن قبلي فرأيت أنه لا يقل عن ست ساعات فقمت واقفةً، وقلت بصوت مسموع: لقد جئت لأسري عن نفسي لا أن أتضايق، وبقائي هنا ست ساعات أنتظر ذلك الشاب الصغير ليروي لي مستقبلًا هو أجهل الناس به مضيعة لوقتي، فإلى اللقاء.
وسمع الشيخ الصغير ذلك فقال: سأقدم النظر في مستقبلك على جميع الحاضرات فَادْني مني. واضطرتني صديقتي إلى الدنو منه لأكشف عن مستقبلي، وإذا به يقول: إنك في وظيفة حكومية، وتريدين الخروج منها إلى عمل آخر، وستخسرين كثيرًا في ذلك العمل. ودهشت كيف عرف هذه الحقيقة، وكادت عقيدتي أن تتزعزع، واسترسل هو في كلامه، وكأنه أراد أن ينتقم مني، فقال لي: إنك ستمرضين وستفقدين بصرك. وكأنه كان ينافس الدكتور فيشر في ذلك، وكان يريد أن ينبئني بما يسوءني من جميع الوجوه، وأخيرًا قال لي: إنك ستتزوجين من رجل يأخذ جميع مالك. وهنا تنبهت إلى كذبه، وقد كنت مصممةً على أن لا أتزوج، فكيف إذن يتغير ذلك التصميم إلى الزواج لا من رجل ثري أطمع أنا في ماله، بل من رجل يأخذ هو مالي، وهذا بالطبع يستحيل عليَّ ما دمت في عقلي، وهنا قلت له: أرجو أن تكشف لي عن أمر واحد، هل سأبقى صحيحة العقل أم أُجَنُّ في يوم من الأيام؟ قال: لا، سيظل عقلك سليمًا. قلت: أنت إذن كاذب كل الكذب؛ لأنه من غير المعقول أن أحتفظ بعقلي الذي يرشدني الآن، وأتزوج برجل يأخذ مالي، إنك يا هذا كاذب. وقمت وتركت المكان.
قبلت استقالتي بعد ذلك.
وابتدأت عملي في المدرسة المحمدية بالفيوم، وكنت مسرورةً بذلك العمل الجديد، فغيرت فيها تقريبًا كل شيء، ويوم استلامها حضر معي المدير نفسه فدخل معي الفصول، وأخذ يقول لي هذا هو فصل السنة الأولى، وهذا هو فصل السنة الثانية، وغير ذلك؛ لأنه كان مهتمًّا بالمدرسة أشد الاهتمام، ويعلم عنها كل شيء، وزارني بعد ذلك بثلاثة أيام، فاقترح أن أضع يافطةً باسم كل فصل على بابه، ولم أكن أنا أهتم بمثل تلك الصغائر؛ لأن المدرسة لم تكن من الاتساع وتشابه النواحي، بحيث يخطئ الإنسان غرفاتها، بل كانت مدرسةً صغيرةً، لا يدخلها بالطبع إلا المعلمون الذين يعرفون مكان كل فصل، أما الزائرون فكانوا يذهبون معي إن شاءوا زيارتها فأدلهم على كل فصل؛ ولهذا تهاونت فلم أنفذ أمر المدير، وبعد أسبوع جاءني، وطلب زيارة الفصول، فلما وصلنا إلى باب الفصل الأول، وكان السنة الأولى، أخذ ينظر إلى أعلى الباب ليقرأ اليافطة التي وضعت، فلما لم يجدها قال لي: ما هذا الفصل؟ قلت له: السنة الأولى. ثم ذهبنا إلى السنة الثانية، وأراد أن يفعل نفس ما فعله في السنة الأولى، فقلت له: لا تنظر إلى أعلى! فإني لم أضع يفطًا، أما السؤال الثاني وهو ما هذا الفصل فأنت تعلم أنه السنة الثانية، وأنت الذي عرفتني تلك الفصول منذ أسبوعين، وأظن أنك لم تنسَ بعد، فضحك، ولم يقل شيئًا.