قوة الشباب وغروره
وهكذا كنت في مدرسة الفيوم أعمل بجد ونشاط، ولا أخشى رئيسًا؛ لأني اشترطت عليه قبل تعييني أن لا يتدخل في شئوني؛ أي في شئون المدرسة التي يرأسها هو، وقد عمل الرجل بما تعهد لي به، وكان المدير كما قدمت الحاكم المطلق الذي يخشاه جميع الأعيان والموظفين.
وحدث أنه بينما كان يتحدث في أحد مجالسه مع مفتش صحة المديرية أن قال له في سياق الحديث إنه يود أن تعرف ناظرة المدرسة المحمدية أني أنشأت في المدينة منتزهًا تعزف فيه موسيقى البلدية عصر كل يوم، فلعلها تتريض هي وتلميذاتها فيه.
رأى مفتش الصحة أن ينفذ رغبة المدير في ذلك حبًّا في إرضائه والتقرب منه فجاءني، وقال لي: إن سعادة المدير يأمركِ أن تذهبي مع بعض تلميذاتك إلى منتزه بلدية الفيوم لسماع الموسيقى هناك. جرحني هذا الأمر، أو بعبارة أخرى حرك غرور الشباب في نفسي، فقلت له: قل لسعادة المدير إني لست بمربية أبنائه الخاصة، ولا هؤلاء التلميذات ببناته حتى يكون له حق إرسالنا إلى المنتزه متى شاء، وإن هؤلاء التلميذات لهن آباء، ولآبائهن الحق في إرسالهن إلى المنتزه، أو منعهن من ذلك حسب ما يقدر هؤلاء الآباء.
دهش مفتش الصحة لهذا القول، وقال: كيف أبلغ ذلك لسعادة المدير؟ قلت: يا سيدي! إنك إنما تبلغه الحق الذي لا شك فيه، وما أنت في ذلك إلا رسول. وذهب الرجل إلى المدير يقص عليه القصة فاستاء المدير لتصرفه، وقال له: إني لم أطلب منك أن تأمرها بالذهاب إلى ذلك المنتزه، ولكني قلت لك أن تخبرها به علَّها تريد هي ذلك، فأرجوك أن تذهب إليها في الحال، وأن تشرح لها ما أخطأت أنت في شرحه. فدهش مفتش الصحة لاستسلام المدير لتصرفي الشاذ، ثم جاءني، وهو يبتسم فقال: عذرًا يا سيدتي! فقد أخطأت فيما أبلغتك إياه، فالمدير لا يأمرك، ولكنه أراد أن يخبرك أن في مدينة الفيوم منتزهًا تعزف فيه الموسيقى عصر كل يوم، فإن رأيت من المستحسن الذهاب إليه، فلكِ هذا. قلت: حسنًا سأستشير آباء التلميذات في ذلك.
كان أهل الفيوم ينفرون من تعليم البنات، ويعتقدون أن المتعلمة لا أخلاق لها، وأنها تخرج على العادات الشرقية، وعلى أخلاق الدين الإسلامي، فلما رأوني أشد تمسكًا بالعادات الشرقية من نسائهم الجاهلات ظنوا في الجهل؛ ولهذا اضطررت أن أزين غرفة مكتبي بشهاداتي ليعلموا أني قد بلغت من التعليم قسطًا، وتعمدت أن أناقش كل من زارني منهم ليعلم من مناقشتي مقدار ثقافتي، وهكذا انتقلت في تلك الفترة من حالة إلى ضدها، فبعد أن كنت لا أتكلم في المجالس إلا قليلًا، أخذت أكثر من الكلام والمناقشة كلما قابلت أولياء أمور التلميذات.
وكان يدير المدرسة قبل تعييني فيها ناظرات سوريات، ثم ناظرة إنجليزية، وكان بالمدرسة معلم قديم يقوم بمقابلة أولياء أمور التلميذات بدلًا من الناظرة، وكان لهذا يسوِّئ سمعة الناظرة، كما يريد طمعًا في أن يحل هو محلها، وكان أهل الفيوم يصدقونه في ذلك؛ لأنهم لم يروا الناظرة، ولما تعينت عرض عليَّ خدمته في مقابلة أولياء أمور التلميذات بدلًا عني، فقلت له: كلا لست أقبل أن يقوم بعملي غيري، فإما أن أكون ناظرةً بالمعنى الصحيح؛ أعمل كل ما يعمله الناظر، أو أن أتخلى عن ذلك المركز لمن يستطيع القيام به.
قابلت أهالي الفيوم فأعجبهم زيِّي واستقامتي، ووضعوا ثقتهم في المدرسة، وكانوا قبل ذلك لا يريدون إدخال بناتهم فيها؛ فكان المدير يزورهم، ويرجوهم أن يرسلوا بناتهم إليها، وكان الرجل منهم إذا أراد أن يرضي المدير أرسل إلى المدرسة طفلةً قد لا تتجاوز السادسة من عمرها حتى إذا بلغت السابعة أو الثامنة حجبها بالمنزل خشيةً على أخلاقها؛ ولهذا قلت لسعادة المدير: أرجوك أن لا تطلب من أحد من الأعيان إدخال كريمته، فإن كل مبتذل ممقوت مكروه. قال: وكيف نستطيع جمع التلميذات؟ قلت: اترك هذا لي، وسأعمل ما أستطيع. فكان الرجل من أهل الفيوم إذا جاءني ليدخل طفلته الصغيرة أناقشه، وأحبب إليه تعليم البنات، وأظهر له أن التعليم يزيد الفتاة عفةً واستقامةً، وأن العلم خير أينما حلَّ، فكان يضطر إلى تصديقي لما كان يعاينه من زيِّي الكامل مع صغر سني، ومن كلامي الذي كان يشبهه بكلام الرجال، فكان يأتيني في اليوم الثاني بثلاث كريمات كان قد قرر حجزهن بالمنزل.
وهكذا دخلت المدرسة، وعدد تلميذاتها لا يزيد عن الثمانين، فما كدت أمكث فيها أربعة شهور حتى زاد عددهن على المائتين، وقد سر المدير بذلك سرورًا عظيمًا، وأخذ يحسن معاملتي، وينفذ لي كل ما أريد.
وكنت في كل فرصة أجتهد أن أظهر لآباء التلميذات شدة حرصي على الأخلاق ليزدادوا ثقةً بالمدرسة، وحدث أن أساءت تلميذة أدبها فطردتها، وجاءني والدها يسألني أن أعفو عنها، وأن أقبلها، وأنا أرفض وأتعزز، ودخل في تلك اللحظة سعادة المدير فدهش لهذا التغير العظيم في أخلاق أهالي الفيوم، وطلب منه الرجل أن يساعده في رد كريمته إلى المدرسة، فقال المدير مبتسمًا: لقد أخذت عليَّ عهدًا أن لا أتدخل في شئونها، فأنا لا أستطيع شيئًا غير أن أضم صوتي إلى صوتك علها تقبل ذلك. وهنا قبلت رجاء المدير، وأعدت التلميذة إلى المدرسة بعد أن أخذت على أبيها عهدًا بشدة الرقابة عليها، فشكر الرجل المدير، وحيَّاه، وانصرف، وما كاد يخرج حتى نظر إليَّ المدير قائلًا: إني لا أكاد أصدق ما أرى من ذلك التغير العظيم؛ فمن زهد الآباء في المدرسة إلى رغبة فيها، رغبة ملحة ينفذونها بالتوسل والرجاء! قلت: نعم، فإنه كلما ازداد عرض الشيء على الناس كلما ازدادوا زهدًا فيه، «وأحب شيء إلى الإنسان ما مُنع.» قال: صدقت.