كيف كنت في أول عملي بالفيوم؟
كنت حديثة عهد بالحياة وأحوالها، ولم أكن أعرف من أعيان المصريين إلا أسماءهم، وكنت أتصور أن كلمة باشا إنما تُعطى لأكثر الناس تعليمًا وذكاءً.
وأخذ المدير يتحدث بالمدرسة، وما صارت إليه من الرقي في مدة قيامي بأعمالها، وإذا قال المدير أنصت جميع الأعيان؛ ولهذا اهتم الأعيان بالمدرسة، وأرادوا أن يشاهدوا ناظرتها، وأبلغني سعادة المدير أن فلانًا باشا عين أعيان الفيوم سيزور مدرستي في يوم كذا الساعة كذا أيضًا، واهتممت بالأمر، وكنت أعد نفسي للجمل التي سأقولها أمام سعادته، أو لأجوبة الأسئلة التي سيلقيها علي.
وجاء هذا العين، وإذا به يتكلم لا بلهجة والدتي فحسب، بل بأحط من آرائها، وهنا احترمت والدتي على عدم تعليمها، وقلت لقد وضعها ذكاؤها في مكانة من اللباقة تفوق أمثال هؤلاء الأعيان، وضايقني ما عرفته من جمود ذلك العين، وكان مما ناقشني فيه أنه بصفته عضوًا في مجلس المديرية، ومن الأعضاء البارزين لا الغائرين في الجدار، بهذه الصفة لا يريد سعادته أن يعين المجلس معلمًا للغة العربية من الشبان المتعلمين، بل يريد أن يعين لي مقرئ مدافن المرحوم والده لا لسبب سوى أنه رجل كبير السن موثوق في أمانته، فقلت له: إذا كان كل ما نبغيه هو سن ذلك المعلم، وشدة ثقتنا من أنه لا يخشى منه على أخلاق الطالبات، وإذا كان هذا هو كل ما نطلبه من معلم يعلم اللغة العربية التي هي أهم فروع التعليم، فحسبنا أن نكتفي ببواب المدرسة؛ لأن فيه تلك الشروط متوفرة جدًّا، فهو رجل مسن، ومتزوج، وكامل في أخلاقه.
واحتار الباشا في الإجابة على ما قلت له، ثم قاسني بنظره من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، وفكر في الموضوع مليًّا، ثم قال لي: إنك عنيدة. لأن أمله في تعيين المقرئ قد تبخر وطار، وقد كان واثقًا من تعيينه بعد أن قدر كبر سنه واستقامته، أما العلم فلا ضرورة إليه ما دام هذا سيكون معلمًا للبنات.
كان ذلك الباشا قد قدم اقتراحًا إلى مجلس المديرية بتعيين ذلك المقرئ، ولكن حديثي معه خيب الأمل في نجاح ذلك الاقتراح، ثم قابلت المدير بعد ذلك، وحادثته في المسألة، وطلبت منه سرعة تعيين شاب صالح من المتعلمين الجدد، وشرحت له بجلاء أن الشاب الصالح أفضل من شيخ لا صلاح فيه، وأن الصفات السيئة في الإنسان تزداد وضوحًا كلما كبر، وهذا بديهي؛ فالإنسان كلما كبر ضعف عقله، فلا بأس بعد ذلك أن تقوى شهواته، والرجل الذي يولع بالنساء شابًّا يولع بهن أضعاف ذلك وهو شيخ؛ لأنه أصبح ضعيف الإرادة، ضعيف العقل، تتغلب عليه شهواته، وربما دفعه اعتقاد الناس في شيخوخته إلى الاسترسال في غوايته، وهو في مأمن من أن يتعقب خطواته أحد، وختمت محاضرتي هذه بطلب السرعة في تعيين ذلك المعلم، وفعلًا عين للمدرسة معلم كامل من الشبان المتخرجين في ذلك الوقت.
وأخذ سعادة الباشا مكانه في الصف الأول من أعدائي المحترمين، وما عسى أن يقول عن تلك التي عارضته فيما أراد من التعيين في مجلس المديرية، وهو يعتبره من ضمن عزبه الطويلة العريضة؟ إنه لا يستطيع أن يقول عن أخلاقها بالنسبة للكمال شيئًا؛ لأن هذا كان مشاهدًا معروفًا في أنحاء الفيوم، إذن فليسلك طريقًا آخر إلى ذم تلك التي خيبت آماله فيما أراد، فيقول إنها عنيدة، وإنها تكاد تقابل من يزورها لا بكلمة الترحاب، بل بالضرب دونما سبب، فهي تضرب هذا، وتشتم ذاك، ولا تأبه بكرامة أحد، ولا تحترم الأعيان لما لهم من الحول والطول في المديرية، وغير ذلك.
ولقد بارك الله في مجهود ذلك الباشا من تلك الناحية، ووجد من يساعده، ويفهم الناس شدة أخلاق تلك الناظرة، فإنها تحاسب الرجل الذي يزورها على أية كلمة يظهر فيها لين أو مجاملة، وهي كما كانوا يقولون كالأسد المفترس لا تسمح لأحد أن يرفع رأسه في مجلسها.
ولو أن هؤلاء رأوني اليوم لعرفوا أني جبنت، كما أراده السن، فلم أعد أنا ذلك الأسد بل أصبحت أجبن من أرنب، ولا أدري هل هم بعد ذلك راضون عني؟ وإذا كانت شجاعتي هي التي كانت تغضبهم في الماضي فهل يروقهم الآن جبني؟
سؤال أريد أن يجيبني عليه كل من عاملني الآن وفي الماضي.