حياتي العملية
عرفت مما علمته عن أخبار غيري من ناظرات المدارس بالفيوم أن فكرة الناس سيئة في كل متعلمة، وأنهم يعتقدون أن العلم والكمال لا يتفقان، فبذلت كل همي لأخرج من رءوسهم ذلك الزعم الفاسد؛ فكنت أحاسب من يقابلني من الرجال على كل حركة من حركاتهم، وعلى كل لفظ أسمعه منهم، كنت أنا نفسي أحتقر الشهوات وأصحابها، وأقول إن الرجل الذي يتغلب هواه على عقله حيوان لا قيمة له، وإن المرء ومستقبله مرهون بمقدار ما يستطيعه من تجنب الشهوات والميل إلى الكمال الأخلاقي.
لهذا كنت لا أسمح لرجل بكلمة تنبو عن موضعها، وتصادف أني كتبت إلى المجلس بإصلاح مباني المدرسة، فأرسل إليَّ مهندسه، فقمت لأريه التلف في أثاثات المدرسة، وأطلب منه إصلاحها، وما كاد يرى يدي، وهي تشير إلى ذلك الأثاث المتهدم حتى قال في دهشة: يا سلام إيدك صغيرة قوي! وكنت في ذلك الوقت ألبس جلبابًا واسعًا، بكم واسع طويل، فكانت تظهر راحتي منه صغيرة جدًّا بالطبع، هالتني تلك الجرأة منه، وأنكرت عليه أن يخرج عن الكلام في العمل إلى الكلام في أوصاف من تكلمه، ونظرت إليه في شيء من الحدة، وقلت له: شيء بايخ! فخجل الرجل، قال: هل خرجت عن الأدب؟ وهل في كلمتي هذه ما يريب؟ قلت: إنها على الأقل لا محل لها؛ لأني أنا أعرف مقدار حجم يدي قبل أن أراك فلا معنى أن تخبرني بأنها صغيرة، وقد تكون أنت على غير حق في تقدير صغرها؛ لأني أنا أعرفها أكثر مما تعرفها أنت، وهل تجد من الحكمة أو من اللياقة أن أقول لك الآن إن الشمس طالعة، وأنت ترى ذلك بعينيك؟ لقد كنت أود أن كلامنا لا يخرج عن العمل، ولا يمس الشخصيات، فأنت في نظري مخطئ. قال: إني أعتذر، وإن كنت أعترف أني لم أخطئ. على أنه لم يكن يقدر الظروف فإني لو سمحت له بتلك الكلمة لما ضمنت في المستقبل أن يطري جزءًا من أجزاء جسمي، فيقول لي مثلًا إن عينيك جميلتان، وإن يدك لطيفة، وغير ذلك من الأوصاف التي لم أكن أسمح لأحد أن يذكرها.
على أنه استطرد بعد ذلك فقال: إني إلى الآن لا أعرف ما الذي أغضبك من كلمة بريئة كهذه؟ قلت: لم أغضب من الكلمة بالذات، ولكن ساءني أنكم أي الرجال لا تعرفون كيف تخاطبون النساء، ولا بدع في ذلك فإنكم لم تخاطبوا قبل اليوم إلا نساءكم، وعلي إذن أن أعلمكم مخاطبة النساء أثناء العمل، فإنها يجب أن تتصرف كلها إلى ذلك العمل، وأن لا تخرج عن مواضعه وإلا كانت عرضةً لسوء الظن.
خرج الرجل من عندي، وهو في غاية الخجل، وفي اليوم التالي زارتني امرأته، فأكدت لي أن زوجها رجل شريف لا يعرف مداعبة النساء، وأني قد أسأت الظن فيه بلا مبرر، وكان الرجل قد خشي أن أشكوه، فأرسل من يشفع له عندي، فقلت لها: لم أتهمه بشيء من هذا يا سيدتي، ولم يكن أمامه امرأة حتى أظن أنه داعبها، المسألة مسألة أن هؤلاء الرجال لا يعرفون بعد معاملة النساء، وقد أردت أن أرشده إلى كيفية تلك المعاملة، أما أنا فلا أخشى على نفسي من رجل، وليس في منظري ما يدعو إلى ريبة، واطمأنت المرأة على زوجها، وعلمت أني لن أشكوه إلى سعادة المدير فقبلتني بالإكراه وشكرتني، وانصرفت.
كنت كما قدمت أريد أن أفهم الرجال ثقافة المرأة الجديدة وكمالها مع تلك الثقافة؛ فكنت أتحدث إليهم طويلًا في المواضيع العلمية، عسى أن أستميلهم إلى إرسال بناتهم إلى المدرسة، وتصادف أن زارني فاضل من فضلاء هؤلاء الرجال، فأعجب بحديثي أيما إعجاب، وذهب يرويه لزوجته، ويمتدحني أمامها، وسارت الغيرة في نفس الزوجة المسكينة، وظنت أن زوجها قابل فتاةً لعوبًا لعبت برشده، فأرادت أن ترى تلك الفتاة بنفسها، ولم يغمض لها جفن تلك الليلة، وفي الصباح زارتني مع صديقة لها يظهر عليها الذكاء والفطنة، فلما رأت لبسي، وما يبدو عليه من حشمة واستقامة، سرت بذلك سرورًا عظيمًا، وعلمت أن زوجها إنما أعجب بالحديث لا بالغرام، ثم أظهرت شدة اغتباطها لملاقاتي، وقالت إنها هي الأخرى قد أحبتني، وإنها ترى في خير مثال للفتاة المتعلمة، ومالت على زميلتها فهمست في أذني قائلةً: لقد أسهرتها الغيرة ليلة أمس فلم تَنَمْ، وستنام الليلة ملء جفنيها.
وكان آباء التلميذات في ذلك الوقت يزورون المدرسة كثيرًا لرؤية تلك الناظرة الجديدة التي خالفت مبدأ الناظرات، فأخذت تقابل بنفسها الرجال، ومَنْ مِنَ الناس لا يحب أن يرى فتاةً نالت البكالوريا في زمن لم تنل فيه معظم النساء شهادات البتة؟ كنت إذن حديث القوم في سمرهم، خصوصًا وأن من سبقني من الناظرات كن كلهن أجنبيات، ولم تَرَ الفيوم قبل ذلك العهد ناظرةً مصريةً غيري، فلا بدع إذن أن أصبحت أعجوبةً، وكان بجوار المدرسة مدرسة للراهبات كانت آهلةً بالفتيات لشدة إقبال الأهالي على الأجانب كما هي عادتنا ولا فخر. ولم يمضِ عليَّ في تلك المدرسة أربعة شهور حتى كادت مدرسة الراهبات تغلق أبوابها لكثرة إقبال الأهالي على مدرستي، ولا عجب فقد كنت فاكهةً جديدةً، أما الآن وقد كثر عدد المتعلمات، وأصبحت نبوية موسى كغيرها من المصريين لا تستطيع أن تؤثر في أفكار المصريين، أو تحملهم على احترام الأعمال المصرية والإعجاب بها.
ورحمة الله على الماضي.