كيف تعلمت القراءة؟
انتهى شقيقي من دراسته الثانوية، ودخل المدرسة الحربية الداخلية، فبعد عني، وعز عليَّ الأمر، وشعرت بالوحدة بعده، وتشوقت للقراءة حتى إذا عاد يوم الخميس من مدرسته توسلت إليه أن يعلمني مبادئ القراءة ففعل، ولم أَكَدْ أتعلم الحروف الهجائية وحركاتها حتى بدأت أعالج القراءة بنفسي، وكنت قد حفظت مع شقيقي بعض قصائد من كتاب «مجاني الأدب»، فلما عاد أخي أحد أيام الخميس رجوته أن يدلني على مكان إحدى تلك القصائد من كتاب «مجاني الأدب»، ثم أخذت أقرؤها في بحر ذلك الأسبوع، حتى إذا عاد في الأسبوع التالي أطلعته على مبلغ قراءتي لتلك القصيدة، ولما كنت قد حفظتها عن ظهر قلب قبل أن أقرأَها فقد كنت أتعلم منها القراءة، وهكذا قضيت تلك السنة الدراسية في قراءة القصائد التي سبق أن حفظتها، وكنت أعتقد أني لا أستطيع أن أقرأ غيرها.
وحدث في ذات يوم أني ذهبت لزيارة إحدى قريباتي فوجدت في منزلها كتابًا صغيرًا كتب عليه «قصة حسن الصائغ البصري»، وكم كان سروري عظيمًا عندما استطعت قراءة ذلك العنوان، وقد اكتشفت في تلك اللحظة أني أستطيع أن أقرأ الكلمات التي لم تشكَّل والتي لم أحفظها من قبل، فسررت بذلك وطلبت من قريبتي أن تعيرني ذلك الكتاب فلم تمانع، وكانت قراءة ذلك الكتاب عملي مدة الأسبوع، حتى إذا عاد أخي من مدرسته أطلعته على ما استطعت قراءته، وأخذت من ذلك اليوم أقرأ كثيرًا من الكتب والروايات؛ فقرأت كتاب ألف ليلة وليلة جميعه، وقصة عنترة بن شداد بأكملها، كما قرأت كثيرًا من الروايات الأخرى، لا أطلب من ذلك سوى التسلية، ومع هذا كنت أصل الليل بالنهار في قراءتها، ثم ملت بعد هذا إلى الكتابة محاكيةً ما قرأته.
لقد قرأت أشعار عمر بن أبي ربيعة، وأبي نُوَاس، ومجنون ليلى، وغيرهم، وكلهم يتغزلون ويتشببون بالنساء، وأخيرًا قرأت ديوان المرحومة عائشة هانم التيمورية، وكان فيه كثير من الغزل، واعتقدت لسذاجتي إذ ذاك أن الغزل سهل، وأن الإنسان يستطيع أن يقول في الغزل ما لا يستطيع أن يقوله في أي موضوع آخر؛ إذن يجب أن أقول الشعر في الغزل، وما دمت لا أشعر بالحب فكيف أتغزل أو أتشبب؟ وأخيرًا اهتديت إلى حل، وهو أن أكتب قصصًا لأقول فيها الشعر الغزلي على لسان غيري، وكتبت أول قصة في كراسة صغيرة، وكان فيها الأبيات الآتية:
ولا أدري لِمَ نصبت متيمًا وعليلًا، وأنا في ذلك الوقت لا أعرف شيئًا من أصول النحو؟ كما يرى القارئ الكريم من ذلك البيت الأخير أني لم أكن أعرف حروف الجر؛ ولهذا رفعت عائدًا تبعًا لقافية الأبيات مع أنه مجرور.
وحدث أن دخل عليَّ شقيقي ومعه مصطفى أفندي عبد الرازق ابن عم والدتي، وفي يدي تلك الكراسة فأخذها، وقرأ الأبيات، ثم ألقى بها إلى الأرض مرسلًا ضحكةً حلوةً عاليةً، وهو يقول في دعابة وسخرية: «ما لكِ والكتابة؟! إن هذه اللام لا تجر عربةً فقط، بل تجر حمارًا أيضًا.» ودهشت لما يقوله أخي لأني لم أفهمه، وخجلت من تهكمه على كتابتي، وتناول الكراسة مصطفى أفندي عبد الرازق، وقرأ ما فيها، وقال لي في شيء كثير من التشجيع: «لا يهمك كلامه، واعلمي أنك إن تعلمت فلن يستطيع أحد منا أن يجاريك في الكتابة.» فقلت في خجل وأسف: وما هي اللام التي يذكرها أخي؟ قال: سأرسل لكِ الجزء الأول من النحو لتتعلمي منه تلك القواعد. وفي اليوم التالي جاءني ذلك الجزء فأخذت أقرؤه وأطبقه على ما أطالع من الروايات والأقاصيص، وقد اتجه فكري في ذلك الوقت إلى تحقيق ما قاله ذلك القريب والالتفات إلى التعليم، وترك قراءة كتب القصص والروايات.
وفي تلك السنة ذهبنا في إجازة الصيف إلى بلدتنا فأخذت معي مصحفًا، وجعلت أحفظ بعض سوره، وكنت أختار سور القصص كسورة يوسف ومريم، وكنت أفهمها فهمًا جيدًا، ولكن أحد جيراننا — وكان طالبًا في الأزهر — قال لي: إنه من الكفر أن أقرأ القرآن وحدي، فقلت: لِمَ يكون كفرًا وأنا لا ألحن فيه؟ وقرأت أمامه بعض الآيات فوافق على أني أقرؤها صحيحةً، ولكنه قال: إنه يجب أن أحذر كل الحذر من أن أحاول فهم معناها وإلا عُدَّ ذلك كفرًا؛ لأنه هو نفسه لا يحاول فهم سورة إلا إذا تلقى تفسيرها على أستاذه في الأزهر، فقلت له: ولكني أفهمها جيدًا حسب ما أعتقد. قال: إن ما تعتقدينه شيء والحقيقة شيء آخر. وأردت أن أعرف المعنى الذي تعلمه هو في الأزهر، وأقسمت له إن أفادني أن أمدحه بقصيدة، وإن لم يفعل فلا بد من ذمه بقصيدة أخرى، وسألته عن معنى الآية: يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، وقد كنت أفهم معنى تلك الآية على حقيقتها، فقال لي هو: إن أخاهم اسمه نكتل. وهنا سخرت منه، وقلت له: إن الكفر هو ما تعلمته أنت عن أستاذك. وكتبت له قصيدة الذم كما أوعدته، وكان اسمه محمدًا أبا نصرة، ولست أتذكر شيئًا من تلك القصيدة إلا البيتين الآتيين: