المعلمة الإنجليزية
أردت إصلاح المدرسة المحمدية بالفيوم إصلاحًا عمليًّا صحيحًا؛ لأني وجدتها في حاجة شديدة إلى ذلك الإصلاح، ومما يضحك أني يوم توليت إدارتها، ومررت على الفصول، وجدت شيخًا من إخواننا سادة دار العلوم يدرس التدبير المنزلي، وقد وقع في «حيص بيص» كما يقال في كيف يكسر البيض الذي لم يعتَد الرجل تكسيره، ولم تعتَد التلميذات أيضًا ذلك، فكن يعجزن عن أن يكسرن بيضة دون أن يتلفن صفارها.
اضطررت هنا أن أعالج الحالة، وأن أكسر البيض للتلميذات لأعلمهن كيفية كسرها، وأن أقضي على تلك الفوضى بإخراج ذلك المعلم من تدريس التدبير المنزلي، وإعطائه دروسًا في اللغة العربية بدل ذلك. وأعطيت دروس التدبير المنزلي لمعلمة لأنها أليق به مهما كان جهلها بتلك المادة، ولو في ظاهر الحالة، وساء المعلم ذلك؛ لأنه كان يتمتع، ولو بتذوق الأطعمة، وكان هذا القرار قد حرمه من ذلك التمتع، ساءه ذلك، ولكني لم أصطدم به، ولم يصطدم بي لأني أخذت أحسن معاملته وأتجنبه.
انتهيت من ذلك الإصلاح، وفكرت في تعليم اللغة الإنجليزية، وكانت تقوم بتدريسها معلمة سورية لا تكاد تعرف منها إلا بضع كلمات، وأردت أن أبحث عن معلمة أخرى من السوريات تستطيع أن تفهم اللغة التي تدرسها، فأعلنت في الصحف، ووصلني رسائل شتى من سوريات مختلفات، ولم تكتب لي إحداهن من سوء الحظ باللغة الإنجليزية، بل كانت جميعهن يكتبن باللغة العربية إذا صح أن يقال إن لغتهن تلك كانت عربية، رأيت إذن أن أقابل هؤلاء المعلمات قبل أن أختار من بينهن واحدةً خشية أن تكون كالمعلمة التي بالمدرسة لا تستطيع التفاهم بتلك اللغة التي تدرسها، فزرت أغلبهن في منازلهن، وعلمت أنهن لا يَفضلن معلمتي في شيء، ويظهر لي أن كل سورية في ذلك الوقت كانت تدعي العلم بأية لغة ما دامت تعرف ألف باء تلك اللغة، ومما أذكره أني زرت إحداهن، وسألتها هل تعرف اللغة الإنجليزية جيدًا؟ قالت: أعرف سبع لغات. قلت: أسأل فقط عن اللغة الإنجليزية. قالت: أعرفها تمامًا. ورأيت أن أختبرها فأخذت أتحدث معها بالإنجليزية، وأخذت تجيبني بنعم أشكرك، وضايقتني تلك الإجابة؛ لأني لم أفهم منها إذا كانت واثقةً تفهم ما تقول أم هي تحفظ هاتين الكلمتين فتنطق بهما عندما أخاطبها دون أي فهم.
وأردت أن أختبر ذلك بنفسي، فقلت لها: إن كل شيء بالمدرسة جميل إلا أني أنا شخصيًّا اعتدت أن أضرب المعلمات أمام الصفوف بعصاتي، وكنت أظن أنها ستدهش لهذا الكلام إذا هي فهمته، ولكنها وهي لا تفهم شيئًا في اللغة الإنجليزية التي تريد تدريسها لم تظهر أية دهشة لهذا الخبر المضحك، بل أجابتني، نعم أشكرك. لقد صدق ظني إذن في أنها لا تفهم شيئًا، وهنا قلت لها: وأنا أيضًا أشكرك، وتركت المكان.
عوَّلت بعد ذلك أن أعين إنجليزيةً لتدريس اللغة الإنجليزية، فذهبت إلى كونوت هاوس لأبحث عن معلمة إنجليزية هناك، فلم تقبل إحداهن السفر إلى الفيوم، واعتذرت إليَّ رئيسة المنزل، ولكني عند خروجي تبعتني سيدة إنجليزية كانت تجلس منفردةً في ناحية من الصالة، وقالت لي: إني أنا أقبل ذلك العرض، ولكني لا أريد أن يعرض كلامي هذا على الرئيسة؛ لأنها تكرهني بعض الشيء، وكل عيبي في نظرها أن في أذني شيئًا بسيطًا من الصمم، قلت: ولكنك تسمعين. قالت: نعم، ولكني لست حادة السمع كباقي الإنجليزيات. قلت: لا بأس فليس هذا بالعيب العظيم. قالت: أعطني إذن عنوان المدرسة، وسأكون عندك بعد يومين. وفي الميعاد المحدد، وصلتني منها برقية فانتظرتها في محطة الفيوم، وحضرت بها إلى المدرسة، وأنا في أشد ما يكون من الغبطة والسرور حيث نجحت في إصلاح تعليم اللغة الإنجليزية بعد أن كان مهملًا، أكلت معها طعام العشاء، وجهزت لها غرفةً، وبعد شيء من السمر قامت كل منا إلى غرفة نومها.
ومن المدهشات أني في تلك الليلة حلمت أن تلك السيدة قد جنت، ووقفت وبيدها سكين تتهدد ابنة أخي، وقد كانت تلميذةً داخليةً بالمدرسة، فاستيقظت من النوم مرعوبةً أرتجف من هول ما رأيت، ولكني لم أُعِرْ ذلك أي التفات، بل ظننته أضغاث أحلام، وقصصت لها الحلم، ونحن على مائدة الإفطار، فظهر عليها الغضب والامتعاض، وقالت: ليس ذلك بحلم، ولكنك إنما اتصلت ببعض أعدائي. وهنا جاءني شيء من الشك؛ لأني كنت أظنها ستضحك من ذلك الحلم، وتعتبره نوعًا من التسلية، أما وقد أغضبها فقد ترك ذلك في نفسي أثرًا، ولكني كظمت غيظي، وأكدت لها أن المسألة لا تعدو حلمًا، وبعد أربعة أيام من تاريخ وصولها إلى المدرسة، وقفت على باب غرفتها في الساعة السابعة مساءً، وهي ترغي وتزبد، وتريد أن تضرب ابنة أخي بسكين أخذتها من المطبخ مدعيةً أنها قد أساءت الأدب، وهنا ظهرت عليها علامات الجنون الحقيقي، وأخذت أهدئ من غضبها في غير جدوى، وفي الصباح أخذت تذهب وتجيء دون أن تدرس، ثم دخلت غرفتي مرارًا لتقول لي بصريح العبارة إنها لا تستطيع التدريس، وإنها تريد أن أعطيها مرتب ستة شهور لتذهب إلى حالها، وإلا ارتكبت في المدرسة جنايةً أكون أنا المسئولة عنها، ولم يكن في استطاعتي إعطاؤها ذلك المبلغ، ولم أشأ أن أعرض الأمر على المدير خشية أن يسفهني فيما فعلت فأخذت أسير وراءها أينما سارت حتى لا ترتكب ما تهدد به من تلك الجناية، ولم يكن في الإمكان أن يقبض البوليس على سيدة إنجليزية، والإنجليز في ذلك الوقت هم أسياد البلاد، إذن كان عليَّ أن أتحمل تصرفاتها، وأن أعالجها بما أستطيع من صبر وحيلة.
وفي صباح يوم دخلت إلى مكتبي، وأنا أكتب شيئًا، ولعله جدول الدراسة، فقالت لي: ماذا تكتبين؟ قلت: أكتب خطابًا. قالت: لمن؟ قالت ذلك بخوف وارتباك، ولاحظت ذلك عليها، فقلت: لقنصل إنجلترا. قالت: لماذا؟ قلت: لأشكوك إليه. قالت: أوَأنت فاعلة؟ قلت: نعم لا شك في ذلك. فخرجت من مكتبي مسرعةً، وعادت ومعها حمال حمل حقائبها وخرجت، ولكنها لم تترك غرفة نومها مفتوحةً، بل أغلقتها، وأخذت مفتاحها معها.
وصارحت المدير في ذلك الوقت بالحقيقة، فقال إنه لا يرى أن نتقدم لفتح تلك الغرفة من غير استئذان السفارة البريطانية، وهنا ذهبت إلى السفارة البريطانية، وشرحت لهم الحقيقة، فقال لي موظف السفارة الذي قابلني بعد أن قابل السفير: لا حرج عليك في فتح الباب، والسفير جاد في البحث عنها. وظهر لي أنها معروفة لدى السفارة، وبعد أربعة أيام، وصلني خطاب من بورسعيد فيه مفتاح الغرفة، ويظهر أنها خشيت مغبة بحث السفير عنها، فسافرت من بورسعيد إلى إنجلترا.
وهكذا فوجئت بالصعب العسير في أول عمل توليته.