نقل المدير
كان قيام الفتيات بالأعمال العلمية كإدارة المدارس أمرًا جديدًا وغريبًا خصوصًا في نظر الفيوميين؛ ولهذا كانوا يسيئون سمعة كل من تولت رئاسة مدرسة البنات، وكنت أنا على تمام العلم بذلك، فكنت أخاف كل الخوف على سمعتي، خصوصًا وفي المدرسة كما قدمت معلم كان يقوم بأعمال الناظرة قبل تعييني، وكان يعتبر نفسه أحق بتلك الوظيفة من أية فتاة، وأن أية ناظرة تأتي إنما اغتصبت منه تلك الوظيفة اغتصابًا لا بعلمها ولا بكفايتها، وإنما بجنسيتها، وهو لا يؤمن بذلك، بل يعتقد أن الرجال أولى من النساء بتلك الوظائف، وجئت أنا فحرمته من القيام بعمل الناظرة، فأصبح لديه لبغضي سببان لا سبب واحد.
كذلك كان كما قدمت بالمدرسة معلم من دار العلوم يدرس التدبير المنزلي، وقد منعته من ذلك التدريس من يوم تعييني، ولا شك أنه كان يتذوق ما يطبخ، وإخواننا من دار العلوم وأمثالهم من الأزهريين يقدرون الأطعمة تقديرًا لا يفوقه شيء، وإذن فقد أصبح هو الآخر ضدي، ولكني كنت أُلاين الاثنين، وأعطف عليهما، وأحترس منهما، وكنت لا أقبل على سمعتي أية ريبة حتى لا أجعل لهما ولا لغيرهما سبيلًا إلى الخوض في عرضي؛ ولهذا كتبت على باب المدرسة: «لا تقابل الناظرة أحدًا من الرجال قبل الساعة الثامنة صباحًا، ولا بعد الرابعة بعد الظهر.» أي إني لا أقابل الرجال إلا في أوقات العمل المعينة للدراسة، والمدرسة في ذلك الوقت تكون مكتظةً بالمعلمين والمعلمات والتلميذات أيضًا، فلا شبهة عليَّ في أن أقابل أحدًا، وكان حضرة صاحب الرفعة محمد باشا محمود يقرني على كل ما أفعله، ولا يتدخل في أعمالي.
وفجأةً انقضى عهده، ونقل محافظًا لبورسعيد، وخلفه غيره، وعز على المدير الجديد أن يكون للناظرة — وهي مرءوسة له — أوامر ونواهٍ، فكان أول ما فعله أن أرسل إليَّ سكرتير مجلس المديرية الساعة السابعة مساءً فرفضت طبعًا مقابلته، وقلت للبواب يخبره أني لا أقابل الرجال إلا في وقت العمل، وأني الآن منفردة في المدرسة، فلا يجوز أن يدخل عندي رجل مهما كانت الأسباب، وقال السكرتير: إنه مرسل من قبل سعادة المدير. قلت: ولو.
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدير لأعتذر إليه عن رفضي، وأشرح له الأسباب فقلت له: إني لا أزال فتاة صغيرة، وأقيم في المدرسة وحدي، ودخول الرجال عليَّ وأنا منفردة يعرض شرفي للقيل والقال. قال: ولكنه مرسل من قبلي. قلت: إن الناس لا يعلمون تلك الرسالة، وهم فقط يرون رجلًا يدخل في منزل تقيم فيه فتاة وحدها، على أنك أنت شخصيًّا لا تستطيع أن تضمن سلوك مرءوسيك، فهبني فتاةً فاسدة الأخلاق، وافرضْ أن ذلك السكرتير على شاكلتي، فمن الذي يضمن لك حسن مسلكنا، ونحن على انفراد بعيدين عن كل العيون؟ أليس من الأفضل أن ترسله أثناء النهار حتى لا نكون نحن الاثنين في خلوة؟ قال: ولكنه يعمل النهار في المجلس. قلت: إن عمله معي قليل لا فائدة فيه، وقد قمت بأعمالي في المدرسة الآن سبعة شهور دون أن يعمل معي سكرتير من المجلس والأعمال على ما يرام، وإذا كان ولا بد من حضوره إليَّ فلا بأس من أن يخلى من عمله، ولو نصف ساعة. قال: ولكن هذا أمري. قلت: إنك تأمر في كل شيء، اللهم إلا فيما يتعلق بشرفي شخصيًّا، فلا أقبل فيه أمرًا ولا نهيًا، إني إنما جئت لأعمل في الدراسة، وأثناء الدراسة، لا أن أعمل الليل والنهار.
وخرجت من عنده، وقد تأثر هو بعض الشيء، وأراد أن ينفذ طلبه بالقوة، فأرسل إليَّ السكرتير بعد بضعة أيام لا في الساعة السابعة فحسب، بل في التاسعة مساءً، ورفضت طبعًا دخوله إلى المدرسة، وتشبث هو، وقال: إن هذا أمر المدير، وإنه لا بد داخل. فقلت للبواب أن يخبره أنه إن دخل فسأستدعي النيابة العمومية، فخاف وانصرف.
وبعد أيام من تلك الحادثة زارني المدير في مكتبي، وكان يضع في عروة سترته وردةً حمراء، وجلس جلسةً لم أستحسنها منه، جلس تلك الجلسة على مكتبي بحيث التصق بي، فاضطررت أن أقف، وأن أقول له في شيء من الحدة: إني لو أعلم أن المديرين يتغيرون بتلك السرعة، لما أقدمت على قبول تلك الوظيفة، قال: وهل يعين في وظيفة المدير جندي؟ قلت: إني يا سيدي لا أخاف الشدة، ولكني إنما أشكو اللين. قال في شيء من الفكاهة: لم أسمع بأحد يشكو اللين غيرك. ثم طلب أن يرى المدرسة فخرجت معه، وكلانا مغضب، وتصادف أن صادفنا فراش يحمل على رأسه سبورةً، وفي يده جردل، وكاد يصدمني بسبورته، فقلت في شيء من الغضب: «اوعى كده أنت راخر، أنت حتاخد وشي.» فقال المدير: إن هنا من هو أولى منه بذلك. فلم أتمالك نفسي، وقلت له: نعم لا أشك في أنك أولى منه بحمل تلك السبورة والجردل أيضًا. وتراشقنا بعد هذا بالألفاظ، ثم خرج مغضبًا يهدد بقوته وسلطانه.
ويظهر أن المدير شكا أمره إلى ناظر المدرسة الأميرية، وكان عضوًا في اللجنة التي تدير المدرسة المحمدية التابعة لمجلس المديرية، وهي التي أديرها أنا، وأوحى إليه أن يقوم هو بدلًا عنه بالمناورة، وكان بالمدرسة معلمة تقطن في بيت ذلك الناظر، وكان حول اسمها واسمه إشاعة متداولة فقلت لها يومًا: إني أعلم يا سيدتي أنك فتاة فاضلة، وأن الناظر لا يقل عنك في الفضل، ولكن ما دام الناس يتكلمون في حقكما، أفليس من صالح التعليم أن تبتعدي عن منزله حفظًا لسمعتك وكرامتك؟ ويظهر أنها أخبرت الناظر بذلك.
وبعد يوم جاءني الناظر نفسه فجلس في مكتبي، وأخذ يقول لي: إنه يعتبر تلك المعلمة كقريبة له، وإنه يتولى أمرها بنفسه، وإن زوجته تغار منها، وهو لا يدري ماذا يفعل. قلت: إن الزوجة يجب أن تكون لها الحرية في المنزل، وإذا كانت زوجتك لا تريد تلك المعلمة وجب أن تخرج هذه من المنزل. قال: وأين تلبث؟ قلت: حيث تريد هي. قال: ولكني أغار عليها أيضًا، ولا أتركها تبيت في أي منزل كان. قلت: هل يرضيك أن تبيت في منزل أخي؟ وكان أخي في ذلك الوقت وكيل نيابة في الفيوم، قال: إن ما بيني وبين زوجتي من النزاع يصير بين أخيك وزوجته. قلت: إنه يتحمل من أجلي. قال: ولكني لا أقبل ذلك. قلت: وماذا تريد إذن؟ قال: ما المانع في أن تبيت معك هنا في المدرسة؟ وأن تتنازلي عن أوامرك فأزوركما في المساء في أي وقت أردت، وأنْ تعتبريني قريبك كما تعتبرني هي كوالدها؟ قلت: إن والدي يا سيدي قد مات، وليس لي من الأقارب إلا أخ واحد يقيم معنا في الفيوم، ولست أستطيع أنْ أختلقَ لي أقارب جددًا، ولا أسمح لرجل أن يدخل تلك المدرسة مساءً مهما كانت الظروف، فإن أردت أن تقيم تلك المعلمة معي، فلا بأس على شرط أن لا يزورها أحد. قال: إنني عضو في مجلس المديرية، وإن المدير يضع سلطة تلك المدرسة في يدي، وستندمين على استبدادك هذا. قلت: لا أندم على شيء، فإذا خرجت من ذلك المكان بشرفي كان هذا كل ما أرجوه.
عز عليَّ أن يكون اشتغالي بالتعليم سببًا في أن يفسد الرجال أخلاقي، وأنكرت على رجال التعليم كناظر تلك المدرسة أن يقوموا بمثل تلك الأعمال الدنيئة، فلم أتمالك من أن أقول له: إنك سافل وضيع لا شرف لك، ولا كرامة، وفي أثناء ذلك دخل أخي علينا، وسمع تلك الألفاظ، ورآني في حدة، وقد اغرورقت عيناي بالدموع، وما كدت أرى أخي حتى ذهلت، وخشيت أن يعلم الأمر فلا يبقيني في الوظيفة بعد أن يقتل ذلك الوغد، وكان أخي أقوى منه جسمًا، فسكت، وخاف الآخر مغبة ذلك فسكت هو أيضًا، وجعل أخي يردد سؤاله: ماذا جرى؟ ولا يجيبه أحد منا؛ أنا لأني في حيرة أرجو أن أخفي الأمر عليه، والآخر لأنه خائف من أن أقول أنا الحقيقة فيكيل أخي له الضرب كيلًا، وقد لا يخرج من عندي سالمًا.
وأخيرًا تداركت الأمر، وقلت له: لا شيء، إن هذا الرجل يتدخل في أعمالي المدرسية. قال: أوَلهذا التدخل يجوز لك أن تقولي له إنك سافل منحط لا شرف لك، ولا كرامة؟ قلت: قد أكون مخطئةً، ولكن هكذا دفعني الغيظ؛ لأنه قال لي افرضيني قريبك، وأنت تعلم أني لا أحب قرابة الرجال. وأنقذت تلك الجملة ناظر المدرسة، فقال: هذا كل ما قلته لها. ولم يعلم أخي أن عرض القرابة كان عرضًا أراد به أن تكون علاقتي معه كعلاقة المعلمة الأخرى؛ أي علاقة الريبة والشك، فقال: لا تغضب يا أخي، وسأكون أنا قريبك. قلت: إذا كنت تريد أن تكون قريبه فلتكن تلك القرابة بعيدةً عني.
وأخذ أخي الرجل من يده، وأراد أن يخرج به، ولم يخجل صاحبنا من موقفه بل قال لي أمام أخي مرةً أخرى: اعلمي أن سلطة المدرسة في يدي، وستندمين. قلت: لقد قلت لك إني لا أندم، وسأخرج من هذه المدرسة شريفةً أضع قدمي على رأس كل سافل منكم. وعجب أخي من هذا التعبير، وساورته الشكوك فخرج به، ثم عاد إليَّ وقال: اصدقيني ما الخبر؟ قلت: الخبر كما أخبرتك. قال: ولكن كلامكما الأخير يدل على أن المسألة تتعلق بالشرف. قلت: أوَتظن أن هناك رجلًا ينظر إليَّ نظرة الريبة؟! ليس فيَّ من الجمال يا أخي ما يغري، وهل عندك شك أني كنت ضده؟ قال: لا شك عندي في ذلك. قلت: إذن فلِمَ أخفي أمره؟ فانصرف أخي.
ولقد فكرت إذ ذاك في الأمر فعلمت أن أخي لو عرف الحقيقة لانهال عليه ضربًا، ووصل الأمر إلى القضاء، وهناك يقول الناس دخل عليها أخوها، ومعها ناظر المدرسة فضربه ضربًا مبرحًا، ولا شك أن هذا يعطي الناس فكرةً أن ذلك الناظر كان يداعبني برضًى مني؛ لهذا أخفيت الأمر عن أخي كل الإخفاء.
وفي اليوم التالي جاءني الناظر فدخل مكتبي دون أن يحييني، وبعد أن جلس قال: أتعلمين لِمَ جئت؟ قلت: لا أعلم الغيب. قال: إنما جئت لأعلم هل لا تزالين مصرةً على رأيك بالأمس؟ وكأن إخفاء الأمر عن أخي جعله يظن أني رضيت بما عرض، أو أني على الأقل أتردد في قبوله، قلت: أوَتعلم أنت لِمَ أذنت لك اليوم بالدخول؟ قال: إني أدخل بالرغم منك. قلت: كلا إنك من اليوم لن تدخل هذا المكتب، وإني أمنعك بكل قوة، وما أذنت لك اليوم إلا لأني ظننت أنك كنت سكرانًا البارحة، وأنك جئت لتعتذر عن خطئك، أما وأنت مصرٌّ عليه، فلا أسمح لك بدخول المدرسة مرةً أخرى، ولا يهمني ما يترتب على ذلك، فإن شرفي فوق كل شيء. قال: إذن سترين. وخرج مسرعًا.