إصلاح مدرسة المنصورة أخلاقيًّا ومخاوفي التي كنت أخشاها بعد إطلاق يدي في المدرسة
أقنع حضرة صاحب الرفعة محمد باشا محمود الإنجليز — كما قدمت — ببراءتي مما اتهمت به، ووثق حضرة صاحب السعادة المغفور له مدير الدقهلية بأعمالي، فأطلق يدي في إدارة المدرسة حتى كان لا يعارض لي أمرًا، فالتفت إلى إصلاح المدرسة من الوجهة الأخلاقية، فاتجهت بنوع خاص إلى مسلك المعلمات؛ لأنهن قدوة التلميذات، وكان بالمدرسة معلمة من المدرسة السنية قد نالت شهادتها بعدي بثلاث سنوات فقط، وقد كانت زميلتي في بعض سني الدراسة، ولكن ما تعلمته من العلوم لم يكن لينير لها السبيل في حياتها الشخصية؛ لأنها على ما يظهر اقتصرت على علوم المدرسة، وهي لا تتناول شيئًا من أخلاق الرجال ومشاكلهم مع السيدات مثلًا، أما أنا فقد كنت على العكس من ذلك، قد استفدت فائدةً عظيمةً من قراءتي كثيرًا من المجلات والقصص الغرامية التي كانت تمثل لي أخلاق الرجال وحيلهم في سلب النساء الشرف والمال معًا.
لهذا كنت يقظةً، أكاد أعرف ما يكنه الرجل من وراء تملقه فتاة من الفتيات، وكان لتلك المعلمة ابن عم كان يظهر لها الولوع بها إلى درجة بعيدة، وكان في الوقت ذاته يريد أن يولعها هي به ليسلبها ما كانت تتقاضاه من مرتبها؛ فكان يرسل لها كثيرًا من الخطابات، ويطلب في كل خطاب يكتبه أن تكثر هي من الكتابة إليه، ويلومها على عدم تغزلها به، وإظهارها حبه وغرامه في كتاباتها، فكان بذلك يريد أن يعلمها كيف تولع به، وعرفت من خلال كلامه في تلك الخطابات أنه لا يُكِنُّ لها حبًّا، وأنه إنما يريد أن يستغل ما يتظاهر به من الحب لمصلحته الشخصية ليسلبها ما استطاع أن يسلبها من المال، وكانت المسكينة تحرم نفسها من ضروريات الحياة، وترسل إليه مرتبها كاملًا تقريبًا.
نصحت لها بعبارات مبهمة فلم تفهم قصدي، ولم يزدها كلامي إلا تعلقًا بابن عمها، وغرامًا به، وأخيرًا أرسل إليها خطابًا يقول لها فيه إنه سيحضر إلى المنصورة في يوم الجمعة ليقضي معها يومًا مفعمًا بالمغامرات الغرامية بين الحقول والمياه، وساءني أن يتم ذلك؛ لأن المنصورة بلد صغير لا يخفى على سكانه شيء مما يدور فيه، فلم أسلمها ذلك الخطاب، ولم أخبرها به، ولكني في الساعة المضروبة لحضوره جلست في مكتبي، وقلت للبواب إذا جاءك رجل يسأل عن فلانة فقل له إن ناظرة المدرسة تنصحك بترك المنصورة حالًا وإلا قبض عليك، فكان كلام البواب مفاجأةً مفزعةً للرجل، أسرع بعدها إلى القطار الذي أقله إلى القاهرة، وسافرت المعلمة بعد ذلك إلى القاهرة فعرفت ما تم له، وساءها الأمر، فجاءتني غاضبةً تلومني على ما حدث، فهدأت من غضبها، ونصحت لها أن تتروى في الأمر، وأن لا تأتمن ابن عمها هذا كثيرًا؛ لأنه يظهر لي أنه خائن محتال، وعارضت طبعًا، فقلت لها: إذا كان ينوي الزواج منك فما الذي يؤخره إلى اليوم؟ وهل عندك مانع من أن يتم عقد الزواج الآن؟ قالت: لا مانع عندي، ولكنه هو يتعلل بعلل قد لا أفهمها. قلت: إذن هو محتال كاذب، وإني أمنعك بتاتًا أن تكاتبيه، أو تستلمي منه خطابات ما لم يعقد عليك، وما دمت أنت لا مانع عندك فيجب أن يسرع هو إلى تنفيذ ذلك لتكوني واثقةً من حسن نيته.
وبعد يومين جاءني خطاب منه يقول لي إنه لا يجوز لي مطلقًا التدخل بينه وبين زوجته المستقبلة، وإن له أن يكاتبها، وأن يتنزه معها ما شاء، وشاء له الهوى، فأرسلت أقول له إني قد فهمت من جملة خطاباته أنه لص محتال، وأنه لا ينوي الزواج بها، بل هو يستغل تظاهره بالحب ليسلبها المال، وأنه في نظري أسفل الرجال قاطبةً؛ لأنه لم يختر فريسةً له يسلبها العرض والمال إلا ابنة عمه التي كان يجب عليه أن يدافع عن شرفها، وأن يحمي ذلك الشرف بكل ما يستطيع، لا أن يكون هو أول من يفسد أخلاقها، وإني لهذا لا أصرح له ولا لها بالمكاتبة إلا إذا أسرع إلى عقد العقد، وأصبحت زوجته الشرعية، ومن غير هذا لا يمكنني أن أسمح له بشيء من ذلك الحب الدنيء المتصنع.
وانقطعت جواباته بالطبع عنها، فلم تُطِقْ صبرًا، وسافرت إلى القاهرة في عطلة الأسبوع، واضطر هو إذ ذاك أن يعقد عليها، وقال لها بعد انتهاء العقد: عليك أن تشكري ناظرتك؛ لأن خطابها إليَّ هو السبب فيما تم اليوم، وثارت ثائرتها كيف تكتب له الناظرة، وهل وقعت هي في غرامه أيضًا؟ فقال لها ضاحكا: «غرام إيه يا شيخه دي لَعَنت أبويه!»
تم عقد الزواج، وتركت المدرسة في آخر السنة، ولكن ابن عمها ما لبث أن أظهر لها غايته الحقيقية، وهو أنه لا يميل إليها، ولا يريدها زوجةً له خصوصًا بعد أن أصبحت ولا مرتب لها؛ أي بعد أن غاض منبع النقود الذي كان يغريه بالتقرب منها، فطلقها دون أن يدخل بها، وهكذا ظهرت غايته واضحةً جليةً، وعرفت هي أني كنت على حق فيما نطقت لها به.
وبعد هذه الحادثة استقامت معلمات المدرسة، ولو في ظاهرهن، وصح ما كنت أريده من ظهورهن بمظهر الكمال والحشمة ليكنَّ قدوةً صالحةً لطالباتهن، وكانت كلمتي نافذةً لا مَرَدَّ لها، فاستقامت شئون التعليم في المدرسة، ودخلت تلميذات المدرسة امتحان شهادة كفاءة المعلمات فتفوقت مدرسة المنصورة على جميع مدارس المعلمات الأولية، ومن بينها مدرسة معلمات بولاق، وأخذ الناس يتناقشون في المفاضلة بين الناظرة المصرية والإنجليزية؛ لأن ناظرة مدرسة بولاق كانت إنجليزيةً، وكان الناس قبل ذلك يعتقدون بأن المصريات لا يصلحن بتاتًا لنظارة المدارس، وأثبتت لهم تلك الحادثة عكس ما كانوا يتوهمون؛ فأخذوا يفضلون الناظرة المصرية على الإنجليزية، وفي ذلك فتح باب ما كان ليلجه أحد في الماضي، وهو تعيين ناظرات مصريات لجميع المدارس، وكان الإنسان في ذلك الوقت لا يستطيع أن يجاهر بفكرة تعيين ناظرات مصريات، وإلا تعرض لخطرين معًا؛ أولهما — وهو صحيح — غضب السلطات الإنجليزية عليه ووقوفها في وجهه، وثانيهما: معارضة السامعين لما يقول، ودحضهم أقواله وبراهينه بكل ما يستطيعون، ويظهر أن أعدائي اتخذوا من ذلك سلاحًا يحاربونني به فيما أريده من الإصلاح اعتقادًا منهم أن الإنجليز سيساعدونهم على كل ما يريدون، ولكن المستر دانلوب كان على العكس من ذلك لا يزال يعطف علي، تبين لي في ذلك الحين حرج مركزي، وعرفت عدوًّا قويًّا يسعى ورائي، ويجتهد في أن يعين مديرًا للدقهلية حتى يستطيع الانتقام مني، وكنت أعتقد اعتقادًا لا يخالطه شك في أنه سينجح فيما يريد، وأن بقائي كناظرة لا يمكن أن يدوم، وأني سأضطر إلى تركي هذا العمل غضبت أم رضيت، قبلت أم رفضت، فقدمت في مدرسة الحقوق منتسبةً، وكان أن نجحت في جميع السنوات إلى أن أصبحت في السنة الرابعة، وكان من المؤكد أن أنجح لو أني استطعت دخول ذلك الامتحان، وقبل الامتحان بشهر أرسل إليَّ المستر دانلوب أحد المفتشين الإنجليز ليطلب مني عدم دخول ذلك الامتحان، صارحته بمخاوفي وقلت إني لن أبقى كثيرًا في وظيفة ناظرة؛ ولذلك فأنا أتلمس بتلك الشهادة التي أريد أن أنالها عملًا آخر في الحياة، فاستدعاني المرحوم المستر دانلوب، وأظهر لي كل عطف، وقال لي إنه مسئول عن بقائي ناظرةً دون أن يتعرض لي أحد، ولما كاشفته بأن هذا العدو سيكون مديرًا للمنصورة في أقرب وقت، قال: إنها أوهام فتيات لا تنطوي على حقيقة. فقلت له: هب أنها تحققت فماذا يكون موقفي أو موقفك؟ قال: سأحميك بكل ما أستطيع. قلت: يكفيني هذا الوعد الصريح. وامتنعت عن دخول الامتحان لأني كنت أعتقد أن المرحوم المستر دانلوب إذا قال فعل.