مكائد
لم يمضِ على ذلك زمن حتى تحقق ما كنت أخشى، وعُيِّنَ أحد رجال وزارة المعارف مديرًا للتعليم في مديرية الغربية، وكان صديقًا حميمًا لخصمي العنيد، وكان فوق ذلك محبًّا للسلطة والنفوذ، جبارًا على مرءوسيه، ولم أكن أخضع في حياتي لجبار، وقد نُقل في ذلك الوقت المغفور له محمد باشا شكري، وحل محله صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار؛ فكان خير خلف لخير سلف، وأراد مدير التعليم أن يظهر سلطته؛ فأرسل إلى المدرسة خطابًا كتب في أوله بعض أسماء مدرسين، وفي مقدمتهم اسمي الكريم، ثم طلب في الخطاب أن أرسل لهؤلاء الموظفين شهادة الجنسية وحسن السير والسلوك، وساءني بالطبع أن يتجاهل مدير التعليم الجديد أني عينت في المجلس منذ ثلاث سنوات، وأن المجلس كان راضيًا عني كل تلك المدة، وأنه إذا طلب مني شهادة حسن سير وسلوك، كان على المجلس نفسه أن يكتبها لي بعد أن خدمته كل تلك المدة بإخلاص واستقامة.
ساءني ذلك التجاهل منه، وجاء كاتب المدرسة ليعرض عليَّ الخطاب فأخذته منه، ونظرت إليه نظرة استخفاف بأمر ذلك الخطاب، ووضعته في درج مكتبي، فسألني الكاتب: ألا تريدين حضرتك أن تجيبي عليه؟ قلت: كلا، لا إجابة لي على ذلك. ومضى أسبوع ثم آخر، وأتحفنا مدير التعليم بعدة نسخ من ذلك الخطاب يرسل إحداها تلو الأخرى، ولا أجيب عليها.
ثم زار المدرسة المدير الجديد؛ أي صاحب المعالي سعيد ذو الفقار باشا، ومعه مدير التعليم طبعًا، وبعد أن تفقد المدير المدرسة، وسر منها سرورًا عظيمًا، قال لي: إن هناك فكرة بين الأعضاء بإلغاء تلك المدرسة. قلت: إنها فكرة خاطئة؛ لأن مجلس المديرية لا يدير مدارس تستحق الذكر إلا مدرسة المعلمات هذه، وبضع مدارس ابتدائية لا قيمة لها، ثم المدارس الأولية القليلة.
والمجلس مع ذلك قد ضخَّم موظفي إدارته، ورفع مرتباتهم بلا مبرر، فإذا أراد الاقتصاد في المال فما عليه إلا أن يقتصد في مرتبات هؤلاء الموظفين، وفي عددهم أيضًا، فإن هذه الإدارة الكبيرة تدير بضع مدارس لا قيمة لها، وما سمعنا أن قاطرةً بخاريةً عظيمةً يُؤتى بها لتجر وراءها قاربًا، لا هناك ولا هنا، وإلا كان ذلك خطلًا في الرأي وإسرافًا في المال، فإذا أراد سعادة المدير الاقتصاد فما عليه إلا أن يحذف نصف موظفي إدارة المجلس.
قال مدير التعليم: ولكنهم قليلون لا يستطيعون القيام بعملهم إلا بكل مشقة. قلت: لقد كتب إليَّ هؤلاء الموظفون عشرة خطابات في صوغ لا معنى له ولا فائدة منه، ولو أن لديهم ما يشغلهم لما تعلقوا بتلك السفاسف. قال: وما هو ذلك الموضوع؟ قلت: طلبتم مني في تلك الخطابات الكثيرة المتعددة أن أرسل إليكم شهادةً تثبت جنسيتي، وأخرى تثبت حسن سيري وسلوكي، مع العلم بأني موظفة في ذلك المجلس منذ ثلاث سنوات، ولو طلب أحد شهادة تثبت حسن سيري وسلوكي لكان على المجلس نفسه أن يكتبها لي حسب ما خبره عني في تلك السنوات الثلاثة، فأنتم تعملون ما لا فائدة منه، ولا مؤاخذة يا سعادة البك إذا قلت إن مرتبك الضخم لا يتحمله هذا المجلس بمورده الضئيل، على أنه لا خسارة في الأمر إذا ردك المجلس إلى الوزارة التي انتدبت منها.
وقد تفضل أنت العودة إلى عملك في الحكومة فتستفيد ويستفيد المجلس معك؛ لأنك هنا لا عمل لك إلا الأشياء التي لا تؤخر ولا تقدم، وإلا فما معنى أن تطلب شهادة جنسيتي بتلك الخطابات الكثيرة، ولا يشك الناظر في وجهي في مصريتي لحظة؟
قال: هذا ما يقتضيه النظام. قلت: وهل قدمت أنت إلى المجلس بجنسيتك؟ قال: إني كنت موظفًا بوزارة المعارف، ولي فيها ملف خدمة. قلت: وهل فاتك أنني مثلك تمامًا في ذلك، وملف خدمتي موجود بالوزارة؟ أم حسبت يا سيدي أنهم أحضروني هنا من وكالة البلح؟! ثم نظرت إلى معالي سعيد ذو الفقار باشا، وقلت: لا شك يا سيدي أنك تقتنع بمصريتي تمامًا، وأنت تنظر إلى وجهي هذا الأسمر دون شهادة، أما سعادة البك مدير التعليم فهو أشبه بالإنجليز منه إلى المصريين؛ فهو بعد أن يقدم لك شهادات بمصريته سيتركك وأنت في حيرة من أمر جنسيته هذه. وضحك معالي سعيد ذو الفقار، وقال: إنها لعلى حق فيما تقول، وسأؤيد هذه المدرسة بكل ما أستطيع. وسكت مدير التعليم على مَضَض.
وفي اليوم التالي من تلك الزيارة جاءني من المجلس نسخة من الخطاب السابق إرساله لي بعد أن شطب منه اسمي، فقدم الكاتب الخطاب وهو يضحك لأنه لاحظ أن اسمي غير موجود بين الموظفين الذين يطلب منهم شهادة الجنسية، وحسن السير والسلوك.
وهنا نظرت إلى الكاتب، وقلت له: اطلب من هؤلاء الموظفين الشهادات المطلوبة منهم بكل سرعة، وأرسلها في الحال إلى المجلس.
كان هذا الحادث سببًا في أن يتحمل مني مدير التعليم، وإن كان هو الساعي إلى الشر لأنه هو الذي كان يحرض أعضاء المجلس على فكرة إلغاء المدرسة، ويمنيهم بالخير إذا فعلوا ذلك؛ لأن خصمي العنيد كان يسعى في النقل إلى المنصورة، وكان متأكدًا من نجاحه، وهكذا صارح مدير التعليم أعضاء المجلس بتلك الفكرة، وقال لهم: إن المدير المقبل سيسر لفكرة إلغاء هذه المدرسة. وعلى ذلك انتشرت الفكرة، ووصلت إلى المدير كما قدمت، وكان عليَّ أن أدافع عنها بكل ما أستطيع.
لهذا اجتهدت أن أفهم المدير؛ أي «ذو الفقار باشا» أنه يستطيع الاقتصاد من موظفي المجلس لا من إلغاء المدرسة.
وحدث بعد ذلك أن زار المدرسة المرحوم حفني بك ناصف المشرف على اللغة العربية، وكان لمدير التعليم كتاب مطالعة تقرؤه تلميذات في سني المدرسة الابتدائية، وقرأت البنت أمام حفني حديثًا للساعة عن نفسها، فقالت: ها أنا ذا، فطلب المرحوم حفني بك من التلميذة أن تعيد الجملة وتصححها، فقرأتها مرةً وثانيةً وثالثةً، وسألني حفني بك عن هذا الخطأ المتكرر، فقلت: إن التلميذة تقرأ صحيحًا؛ لأن هذا هو المكتوب في كتاب المطالعة، وإن كان الواجب أن تقول «ها أنا ذي».
قال: إذن الكتاب مخطئ. قلت: نعم، قال: ولِمَ لا تصححينه؟ وكان مدير التعليم موجودًا معه، فقلت في ابتسامة: لو فعلت ذلك لطردت من البلد؛ لأن المؤلف هو سعادة المدير.
انتهت تلك الزيارة، وتركت في نفس مدير التعليم أثرًا لا يمحى، فزار المدرسة في اليوم التالي، وحضر درس المطالعة في هذا الفصل، وقرأت تلميذة في نفس الكتاب: «لقد رمد الثعبان» قرأتها بكسر الميم، فاحتد المدير على المعلم، واشتد في إهانته وقال إنه يعلم التلميذات الخطأ، وإن رَمِدَ معناها عمي، وأما رَمَدَ فمعناها هلك، وهي المقصودة.
استأت لإهانة المعلم أمام تلميذاته، وأردت أن أهدئ من حدة المدير فملت إليه في همس وطلبت منه أن نترك الفصل معًا ليسترد هذا المسكين هيبته، أو على الأقل يستطيع أن يقف على قدميه؛ لأنه كان يرتعد خوفًا أمام تهديدات المدير، ولكنه رفض في صوت عالٍ، وقال إنه لا يسمح بمثل هذا الخطأ، فملت عليه ثانيةً، وقلت له بنفس صوته: لا بأس يا سيدي فإن الإنسان غير معصوم من الخطأ، وقد أخطأت أنت بالأمس تحريريًّا، فاسمح له أن يخطئ اليوم شفويًّا، واحدةً بواحدة، وهنا اضطر أن يخجل، وأن يترك الفصل معي، وهكذا استحكمت حلقة الخلاف بيني وبينه.