خرافات وأوهام
مرضت بعد هذا، وكان المرض غريبًا حقًّا؛ لأني كنت أستيقظ من النوم صارخةً دون أن أشعر بذلك الصراخ، حتى إذا شعرت بحالتي أحسست كأن إبرًا تغرس في كفي، وكان هذا — ولا شك — هو سبب الصراخ، وكنت لا أُبقِي طعامًا في جوفي، وحاول الأطباء علاجي في غير جدوى.
وعز على والدتي الأمر، وهالها بالطبع مرضي؛ لأني أولًا ابنتها الوحيدة، وثانيًا ستفقد بفقدي المعاش المقرر لي؛ لهذا هلعت كل الهلع، وأشار عليها بعض صديقاتها بأن تعمل لي حفلة زار، فصممت على ذلك، وكانت قد باعت منزلًا صغيرًا لنا بمبلغ مائتي جنيه، وأرادت أن تشتري بها منزلًا آخر، فلما مرضت لم تبخل عليَّ بالمبلغ، واستعدت لعمل حفلة الزار، وأحضرت كثيرًا من «مصاغ» الزار المعروف؛ كخلخال من الفضة، وأحجبة، وغير ذلك، إلا أني لم أُسر لذلك المصاغ الغريب، ولم أُعِرْه أي التفات، وزارتنا في ذلك الوقت إحدى الدلالات، ومعها قُرْط ثمين من الماس تبلغ قيمته مائة جنيه، ولكنها كانت تعرضه بخمسين جنيهًا، فَتَشَبَّثْتُ بشراء ذلك القرط، ولم ترَ والدتي بدًّا من إرضائي فاشترته لي، وكان ذلك في اليوم الذي تمت فيه معدات الزار. وقد سررت بالقرط سرورًا عظيمًا، أعاد إليَّ صحتي، وقامت شيخة الزار بإعداد الكرسي، ووضعت عليه صينيةً مُلئت برءوس السكر والمكسرات، وزبادي اللبن، وغير ذلك من المأكولات. سررت بكل هذا، وكان أخي ومصطفى أفندي عبد الرازق يحذران من أن أعمل ما تعمله السيدات من ذلك الرقص المستهجن، فلم أفعل، ولكني بعد تلك الحفلة شفيت تمامًا، ولعل مرضي كان عصبيًّا فشفاه السرور والابتهاج.
وسُرَّت والدتي بشفائي بعد اليأس، ورأت أن ما بقي معها من ثمن المنزل لا يكفي لشراء أي عقار، فاشترت لي به حليًّا مختلفةً من الذهب كأساور وقلادات وغيرها.
دفعني السرور بذلك الحلي الجديد أن ألبسه وأذهب لأزور إحدى قريباتي، وقد كنت في ذلك الوقت لا أتجاوز الثامنة من العمر، وكان منظري لا شك مضحكًا؛ لأني ألبس من المصاغ ما تلبسه الآنسات الرشيدات، وأنا لا أزال طفلةً، وقابلتني في الطريق امرأتان من الرعاع فأقبلتا علي، وقالت لي إحداهما: ألست ابنة السيدة فلانة؟ فقلت: نعم أنا هي. قالت: لقد كلفتني أمك أن أصنع لك عروسةً كبيرةً بحجمك، فتعالي معي لأعطيها لك. ورابني كلامها فقلت لها: وكيف أستطيع حمل عروسة في حجمي أنا؟
فدهشت المرأة وقالت: تعالي معي لأحضرها لك، وأحملها أنا، وأذهب بها إلى والدتك. قلت: لا داعي إلى ذهابي معك، وما دامت والدتي هي التي كلفتك صنع تلك العروسة فعليك أن تذهبي إليها بها، وستحتفظ بها والدتي لي. ودهشت المرأتان لهذا الجواب العجيب من طفلة، ومالت إحداهما على الأخرى هامسةً في أذنها: «تكونش دي ست وانسخطت؟!»
أتممت زيارتي، ثم عدت إلى والدتي فأخبرتها الخبر، وقلت لها على مقدار شكي في المرأتين، فقالت: لقد صدق ظنك لأني لم أكلف أحدًا عمل عروسة، ولعلهما أرادتا أن تسلباك حليك.
كان هذا الحلي موضع غرابة في الأسرة بأكملها، فقال عم والدتي إن والدتي لا تعرف التربية، وإن ابنها هذا الوحيد سيتلف من تلك التربية، وينشأ ممن يجمعون أعقاب السجاير، أما البنت فلن تفلح بعد ذلك الحلي «والدلع»، وستنشأ على أسوأ سلوك، قال ذلك عم والدتي، وأنا في الثامنة من عمري، وقد أثبتت الأيام خطأه؛ فقد كد أخي وعمل مع هذا الترف الذي كان يعيش فيه وملاينة والدتي له ولي، كد ودأب حتى كان من الأوائل في امتحان شهادة الحقوق؛ لأنه ترك المدرسة الحربية والتحق بالحقوق لأسباب صحية، وعين مساعدًا للنيابة في شهر نجاحه؛ إذ كانت الحكومة تعين الأوائل بالترتيب، أما أنا فلم أكد أبلغ الثالثة عشرة من عمري حتى ازدريت لبس الحلي فوضعته في علبة، ولم ألبسه حتى الآن، إذ دخلت في تلك السن المدرسة السنية، ولم أرَ من اللياقة أن ألبس شيئًا من هذا، والظاهر أنني اكتفيت بما تمتعت به من اللبس والدلع من نشأتي إلى سن الثالثة عشرة، ولم أعد بعد ذلك أشتاق لشيء منه.
ولعل حريتنا في صغرنا هي التي قوت من إرادتنا، وجعلتنا؛ أي أنا وأخي نبتعد عن اللهو، ونكد ونعمل فيما نريد، وهذه على ما أعتقد هي التربية الاستقلالية التي نص عليها علماء التربية، ولم تقم بها والدتي لعلم بما ستجنيه منها، ولكن دفعها الجهل والخوف علينا إلى معاملتنا تلك المعاملة اللينة.
وبهذا نشأنا على الصدق، وقوة الإرادة، ولكن هذه التربية لا تصلح في البلاد المستعمرة التي اعتاد أهلها الاستعباد، فأصبح الرئيس يحتقر مرءوسه، ويهينه لسبب وبلا سبب؛ فإذا رفض هذه الإهانة كان عليه أن يحتمل الذل والفقر والطرد، وهذا هو نفس ما صادفني في حياتي؛ فقد فشلت فشلًا تامًّا، وسبب ذلك الفشل هو تلك التربية التي اعتدت منها أن لا أحتمل الضيم مهما كان ضئيلًا.
وكانت والدتي بعد هذا إذا مرضْت ألحت عليَّ في أن أعمل الزار؛ لأنه تأكد لديها أن لي صاحبًا من الجن، وأنني عندما أرضيته، وعملت الزار شفيت، وهي تجهل أنني شفيت من تأثير السرور بما اشترت لي من الحلي، وأني بعد أن كبرت أصبحت لا أسر بتلك السخافات، بل إن أسباب مرضي كانت في الغالب لكدري من أشياء أهمها قلة المال، ولو أني أطعتها، وعملت حفلة زار لخسرت من النقود ما يضاعف مرضي، وهكذا استمرت هي على اعتقادها، وظللت أنا على نكراني وجحودي لجميل ذلك الزار.