سعيد ذو الفقار باشا
زرت مدير التعليم بعد هذا، وكان — كما قدمت — شديدًا سيئ المعاملة لمرءوسيه، ولكنه قابلني ببشاشة وترحاب لما رآه من عطف مدير المديرية علي، وما كدت أجلس في مكتبه حتى استأذن عليه أحد النظار؛ أي نظار المدارس التابعة للمجلس، فدخل الرجل في شيء من الخجل والتهيب، فلم يقم له المدير، ولم يمد له يده، فاضطر أن يحييه برفع اليد؛ أي تحية عسكرية، وقال مدير التعليم بشدة: ما الذي جاء بك؟ وماذا تريد؟ قال: جئت لتشملني بعطفك. فقال: ماذا تعني بهذا الكلام؟ إني أود أن أخلق منكم رجالًا لا يميلون إلى الملق، فاذهب من حيث أتيت ما دام ليس لديك مطلب تقدمه. فحيا الرجل تحيةً عسكريةً أخرى، وأراد أن ينصرف وهو يترك المكان بظهره حتى لا يدير ظهره لسعادة المدير، وهنا احتد المدير، وقال: أريد أن أخلق منكم رجالًا يحترمون أنفسهم، ولا يفعلون ما تفعل. وخرج الرجل وهو يدعو له بطول العمر.
وساءني هذا؛ لأني زميلة ذلك الذي أهين، ولعل المدير ما فعل ذلك إلا ليظهر لي مقدار بطشه وسلطانه على النظار زملائي؛ ولهذا تألمت، وقلت له وأنا أضحك ضحكةً عصبيةً ملؤها الغيظ والغضب: أرجوك يا سيدي إذا أردت أن تقابل أحد نظارك هؤلاء أن تعلمني قبل ذلك لأتمكن قبل مقابلتك لهم لا من ترك غرفتك فحسب، بل من ترك المنصورة بأكملها، حتى لا أشعر بما تم في تلك المقابلة العنيفة التي لا تخلق من مرءوسيك رجالًا كما تقول، بل تخلق منهم عبيدًا أرقاء لا يصلحون في نظري للتعليم والتهذيب؛ لأنهم في نظري لا كرامة لهم ولا إرادة، وأول ما يطلب من المعلم أو الناظر هو قوة الإرادة والمحافظة على الكرامة، وهؤلاء التعساء الذين قضى عليهم سوء الحظ أن ترأسهم ولو عامًا واحدًا لا يصلحون بعد ذلك لوظائف التدريس أو إدارة المدارس. واضطر مدير التعليم أن يضحك ضحكةً صفراء كما يقولون، وأن يقول: إني أعامل كل مرءوس بما يتناسب وأخلاقه.
وكان لحسن حظي أن عطف عليَّ حضرة صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار، وهو مدير المديرية في ذلك الوقت، وأراد أن يساعدني بكل ما يستطيع، فلم يكن يستطيع أحد أن يعاديني معاداةً صريحةً حتى ولا مدير التعليم خوفًا من معاليه، وأوغر مدير التعليم صدور أعضاء المجلس، وطلب منهم أن يلحوا في طلب إلغاء المدرسة تنفيذًا لإرادة المدير المقبل، واسترسلوا في طلبهم هذا، وجاهروا بالعداوة نحو المدرسة، وأقامت المدرسة حفلتها السنوية، وأردتُ أن أنتقم من هؤلاء الأعضاء في تلك الحفلة، فألفت مفاخرةً بين طفلتين إحداهما ابنة رجل متعلم، ولكنه متوسط الحال، والأخرى ابنة رجل جاهل من أعيان البلاد، فأخذت كل منهما تفخر بوالدها، وتغلبت ابنة المتعلم على ابنة الجاهل، وكان مما قالته لزميلتها: إن فخر والدي في رقي معارفه وكمال مداركه، أما أنتِ فلم يرتقِ والدك إلا بالطين — أي الفدادين — أما هو مجردًا من طينه فلا قيمة له ولا احترام.
ساء أعضاء المجلس تلك الجرأة، واعتبروها إهانةً لهم، وطلبوا عقد المجلس بصفة مستعجلة ليطلبوا فصل ناظرة المدرسة، وعلم المدير بما أرادوه، وكان ذكيًّا لبقًا اعتاد معاشرة الملوك، والخروج من المآذق، فعقد المجلس، وبعد أن سمع مرافعتهم وإلحاحهم في طلب فصلي، قال لهم: إنه هو الآخر مستاء مني لتلك الجرأة، ولكنه هو المسكين فيهم إذ هو الذي قُضي عليه بمعاملة الناظرات، وهو محافظ على سمعته لا يستطيع أن يتعاون مع ناظرة ماجنة، أو مستهترة، وإنه يطلب منهم قبل الفصل أن يبحثوا عن ناظرة أخرى، فإذا استطاعوا الوصول إلى ناظرة تماثل نبوية موسى في كمالها وحشمتها فلا مانع عنده من رَفْتِ نبوية لتحل تلك محلها.
أما أن يعين مكان نبوية ناظرة ماجنة مستهترة فهو ما لا يرضاه لشرفه، بل يفضل أن تشتمه الناظرة عن أن يتعامل مع فتاة سيئة الأخلاق لا يستطيع ردها إلى الكمال والفضائل …
وهنا عرف الأعضاء أن المدير لا يريد تغيير الناظرة، وأن مدير التعليم حينما زين لهم تلك الفكرة أراد أن يوقع بينهم وبين المدير، فعادوا إلى صوابهم، وأمنوا على كلامه، وانتهت الجلسة بأن أرسل خطاب شكر على محافظتي على الأخلاق والآداب.
هكذا كان حضرة صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار حريصًا كل الحرص على سمعته، لا يسمح مطلقًا أن يمسها شيء من الشك أو الريبة، ومما أذكره لمعاليه أن السيدة لبيبة هاشم، وكانت صاحبة مجلة في ذلك الوقت جاءت لمقابلته فرفض مقابلتها، وزارتني لأتوسط بينها وبين المدير في تحقيق رغبتها، فكلمته تليفونيًّا، ورجوته أن يقابلها فقال: هل هي صغيرة السن؟ قلت: نعم هي في مثل سني، أو أكبر قليلًا. قال: أرجو أن تعافيني من تلك المقابلة. قلت: أحمد الله الذي خلق لي وجهًا يمكنني من مقابلتك صباح مساء دون أن ترفض أو تتردد. وكان لشدة حرصه على العادات الشرقية لا يقابلني أنا نفسي إذا زرت منزله، بل تقابلني السيدة حرمه وكريماته، وكانت عاداته في منزله عادات الشرقيين المحافظين، فلا يسمح لحرمه المصون بأن تصحبه في أية جهة، ولم يرَها أحد من المنصورة عمومًا، بل كانت تأتي من القاهرة وتذهب إليها دون أن يشعر أحد بمجيئها أو ذهابها، وكان معاليه قوي الشكيمة في منزله، حسن المعاملة في وقت واحد، لا يسمح لخادمة أن تدنو منه، بل كانت تقوم حرمه بكل طلباته الخصوصية، فكان مثال الكمال في منزله، وفي عمله.
وقلت له يومًا: إني أعتقد يا باشا أنك الرجل الوحيد المعصوم، وكأن الله قد خلقك لا تعرف الفساد. فضحك مستهزئًا، وقال: نعم يا نبوية، أنا لا أعرفه لا في منزلي ولا في عملي، وهي جملة حكيمة لو نفذها الرجال لأفادوا البلاد، وأفادوا العمل، فالرجل خارج عمله حر فيما يريد، والعصمة لله وحده، وما انتقدت في حياتي الرجال لشيء من تصرفاتهم الشخصية، ولكني كنت أنتقد تصرفاتهم أعمالهم الحكومية التي ما تناولوا مرتباتهم إلا لإصلاحها، ولو أنهم أهملوا ذلك الإصلاح الذي ينقدون له لخفت المصيبة، لكن كثيرًا منهم يقوم هو بإفساد الأخلاق في تلك الأعمال الموكلة إليه، وهو شر الفساد والمحن.