سوء حظ وعناد
اشتد العناد بيني وبين المدير فأخذ يفهم الإنجليز أني أعمل ضدهم، وتصادف أن قام سمو الخديوي في آخر عهده سنة ١٩١٤ برحلة إلى الأقاليم، وجاء إلى المنصورة، وكان المدير بالطبع الذي يرتب نظام الاحتفال باستقباله وتوديعه، وعلمت أنه لا ينوي أن يشرف الخديوي مدرستي لما كان بيني وبينه، كما علمت أن سمو الخديوي كان سيشرف بيت الطاهري بك، وهو قريب من المدرسة، وكان بيني وبين سيدة البيت صداقة، وكانت الغرفة التي سيشرفها الخديوي لها بابان أحدهما على طرقة ضيقة توصل إلى الحرم، والآخر الباب الخارجي الذي أعد لاستقبال سموه، فطلبت من السيدة أن تسمح لي أن أقف وراء ذلك الباب الداخلي لأشاهد الخديوي من ثقب مفتاح الباب، فأجابت الطلب، وما كدت أظفر بذلك حتى ذهبت إلى ذلك الباب، وأغلقته بالمفتاح، وأخذت مفتاحه معي، ثم أحضرت تلميذةً صغيرةً بارعة الجمال لا يتجاوز سنها السادسة، وأعددت لها قصيدة مدح في سمو الخديوي، وعُنِيتُ بتحفيظها تلك القصيدة، وإجادة إلقائها عنايةً تامةً، وكنت أفعل ذلك سرًّا لا يعلم به أحد، وقد اشتريت لهذه التلميذة فستانًا أبيض يناسب بياضها الرائق، وربطت شعرها بشريط أزرق يناسب لون عينيها، ووضعت على صدرها وشاحًا كتب عليه مدرسة المعلمات بالمنصورة، مع أن التلميذة لم تكن من مدرسة المعلمات بالطبع، ولكني أردت أن أذكر الجمهور بمدرسة المعلمات التي ألغاها المجلس بإجماع الآراء تحت ضغط المدير، ثم أعيدت إلى الوجود في اليوم الثاني، فكان اسمها عارًا على المدير وسلطته؛ لأنها بقيت رغم إرادته.
كتبت القصيدة على قطعة حرير زرقاء بلون السماء، ثم أحطتها بإطار من أزهار البنفسج الجميلة اللطيفة رسمت بالبوية، ولم يكن النقش بالبوية على القماش معروفًا في ذلك الحين، فكانت تحفةً رائعةً، ثم كسوت بها «مخدةً» حشيت بريش النعام، ولم أعمل «مخدةً» واحدةً، بل عملت مخدتين من صنف واحد؛ لأني كنت أعلم أن المدير سيحرض علي مفتش الداخلية الإنجليزي، ويدعي له أني شتمته أمام الناس؛ لأن القصيدة كان بها تعريض به، أخذت المخدة الأخرى، وأهديتها إلى زوجة مفتش الداخلية، فسرت بها سرورًا عظيمًا، وعرضتها على المفتش أمامي، فقلت له في بساطة: إن المكتوب على تلك المخدة قصيدة عملتها مدحًا في الخديوي، ورجائي أن تقرأها، وأن تقول لي انتقادك عليها؛ لأني أريد أن أرسلها له. وكان الرجل من الإنجليز الذين يعدون أنفسهم شرقيين يجيدون اللغة العربية فقرأها، وقال إنها عظيمة، وبناء على هذا أخذت موافقته على هذا التعريض بالمدير.
وعندما شرف سمو الخديوي الغرفة المعدة له في منزل الطاهري بك كنت أنا على الباب الخلفي، وما كاد سموه يأخذ مجلسه حتى فتحت الباب، ودفعت بالتلميذة أمامه، وقد قدمت لسموه المخدة فأخذها، وسر بها كثيرًا وقبلها، وقال إنها أحسن هدية قدمت إليه في تلك الرحلة، وظن الحاضرون أن مهمة الفتاة قد انتهت، ولكنها ما لبثت أن تقدمت إلى الخديوي تلقي القصيدة بإلقاء جيد، وإشارات حية قد يعجز عنها الممثل الكفء، فأخذت تشير إلى الخديوي، ثم تشير إلى المدير، فيما كان يخصه من التعريض، وتلك الأبيات التالية:
وكانت تشير إلى المدير في الكلمات التي تحتها خط في هذه الأبيات لتظهر للخديوي أن المدير هو المقصود بالذات في كلمات الدهر والزمان، ولتؤكد معنى ما ذهبت إليه قالت:
وأشارت إلى المدير عند قولها «الدهر عبدك»، فأصبحت الإشارة ثابتةً لا شك فيها.
وأخذ الخديوي يعجب بإلقاء التلميذة، ويمتدحها، ووقف المدير متحيرًا في أمره، لا يدري ماذا يفعل كتمثال من الزعفران لا يكاد يتحرك، وأخذ الأعيان يتبادلون الابتسامات لتلك الجرأة المدهشة من فتاة تشتم المدير أمام الزائر العظيم، ثم مضت التلميذة في إلقاء القصيدة، فقالت:
وأخذت تشير إلى المدير فيما تحته خط، وهو بالطبع مع الإشارة يعد سبًّا علنيًّا، وأدت الفتاة مأموريتها، ثم عادت أدراجها.
وكانت قصيدة ناظرة مدرسة المعلمات والفتاة الصغيرة التي شتمت المدير أمام سمو الخديوي سمر الناس في ليلتهم.
وفي صباح الغد ذهب الناس لتوديع سمو الخديوي على المحطة، وأخذتُ تلميذات المدرسة الابتدائية التي كنت أديرها، وذهبت لأودعه، وكنت قد طبعت خمسة آلاف نسخة من القصيدة، وذاع ذكر القصيدة بين الناس، وما كادوا يروننا على إفريز المحطة حتى أخذوا يسألوننا عنها، وكان جميع أعيان المنصورة هناك لتوديع سمو الخديوي، فوزعت عليهم نسخ القصيدة بعد أن شُرِحت لهم في الليلة الماضية، فكنت ترى أصدقاء المدير إذا وقعت في يدهم نسخة من القصيدة ذهبوا إليه ليطلعوه عليها، أما عامة الناس فكانوا يغتبطون بقراءتها، ويتلذذون بإلقاء بعض الأسئلة على معلمي المدرسة، فيسأل أحدهم أحد معلمينا: «من هو الأرقم يا أستاذ؟» فيقول المعلم: «الدهر يا أخي!»
ويظهر لي أنه حصل سوء تفاهم بين المدير وسمو الخديوي، ولا أدري إذا كان للقصيدة شأن في هذا أم لا، ولكن المشاهد الذي رآه الناس أن سمو الخديوي لم يأخذه معه في صالونه، مع أن العادة تقضي أن يركب المدير مع سموه إلى آخر حدود مديريته، ووقف صالون سمو الخديوي في مكان بعيد عن إفريز المحطة، فاضطر المدير أن ينزل، وأن يتخطى قضبان السكة الحديد إلى المكان الذي وقف فيه الصالون فزلت قدمه وسقط بين القضبان ثم قام.
وبعد أن سار القطار بالخديوي جاءني المدير ومعه وكيل المديرية والحكمدار، فحياني باليد وضغط على يدي قائلًا: إن سمو الخديوي سُرَّ منك سرورًا عظيمًا. وهو يريد بذلك أن يهددني بالانتقام مني لما فعلته، وأردت أن أجيبه على تهديده بمثله، فقلت في لهجة المستفهم، وفي ابتسامة فاترة: «ومين اللي قال لك إنه سر مني؟ ده ما خدكش وياه في الصالون، ولقد أسفت كثيرًا لسقوطك على قضبان الحديد، وأرجو أن لا يكون قد أصابك ضرر منه.»
وأردت بذلك أن أقول له: لا يهمني تهديدك، ويكفيني مذلتك اليوم، وكان جوابي بشكل مضحك حقًّا حتى أغرق وكيل المديرية والحكمدار في الضحك.
ولم أستطع في ذلك اليوم أن أستقل العربة التي أقلتني إلى المحطة إلا بعد ساعتين، وذلك لازدحام الناس لرؤية تلك الناظرة التي استطاعت أن تشتم المدير أمام جميع الأعيان.
ويقول المدير نفسه لأحد إخوانه: إنه خرج من المحطة مسرعًا إلى منزل مفتش الداخلية ليشكوني إليه، فلما دخل غرفة الاستقبال، وجد المخدة بالقصيدة على أحسن مقعد في الغرفة، فكاد يشل لأنه عرف أنه لا يستطيع أن يطعن في القصيدة بعد أن رآها مفتش الداخلية، وهو مستشرق، وفي اليوم التالي أرسل إلي مفتش الداخلية، ولما دخلت عليه قال: أكان من اللياقة أن تشتمي المدير أمام سمو الخديوي والمودعين؟ قلت: من قال لك ذلك، وكيف شتمته؟ قال: بقصيدتك. قلت: ألم أقدمها إليك من قبل؟ وآخذ رأيك فيها فلِمَ لَمْ تقل لي إن فيها سبابًا أو شتائم؟ قال: إنه لم يظهر لي ذلك. قلت: فإذا كان لم يظهر لك وأنت مفتش اللغة العربية أكثر من المدير، ومن كثير من الأعيان الذين حضروا لتوديع الخديوي، فكيف يظهر لهم هم السباب الذي لم يظهر لك. فسكت وترك الأمر.
ومن ذلك اليوم أوغر المدير صدور الإنجليز ضدي؛ إذ حاول أن يفهمهم أني من شيعة الخديوي بعد أن سافر سموه إلى تركيا سفرته الأخيرة، ومع أن قصيدتي لم يكن يراد بها مدح الخديوي بمقدار ما كان يراد بها ذم المدير، وهكذا تلتبس الحقائق أمام دس المدير.