إنشاء وتعمير
كنت في مدة المغفور له محمد باشا شكري قد اقترحت أن يبني مجلس المديرية بناء مدرسة المعلمات والمدرسة الابتدائية، واختير لها فدانان من الأرض، وأخذ في عمل تصميم البناء، وأراد مدير التعليم أن يقوم بعمله، ولكني رفضت تصميمه، وقمت بعمل التصميم، وساعدني المدير على تنفيذه بعد أخذ ورد دام طويلًا، وأخيرًا قام بالتصميم مهندس إنجليزي كنت أشرف أنا على عمله، وبعد أن تم التصميم، واعتمده المجلس، قدَّر المهندس نفقاته بمبلغ ٢٤ ألف جنيه، وعرض على الداخلية، فرفضت أن تصرح بهذا المبلغ الكبير لبناء مدرسة للبنات، وطلبت أن لا تزيد النفقات عن ١٦ ألف جنيه.
هنا وقع المجلس في حيرة، وسر مدير التعليم ذلك؛ لأنه انتهزه فرصةً ليقدم تصميمه هو، وعارضت أنا في ذلك، وقلت: إن في استطاعتي أن أرفع بعض أجزاء هذا البناء، فتكون نفقات الجزء الباقي منه لا تزيد عن ١٦ ألف جنيه. وصرح لي المدير بذلك، وشطبت على محال المطبخ والتدبير المنزلي، ومغسلة، وغرفة المائدة، ومطبخ المائدة نفسه، وتركت الفصول فقط، وقوَّم المهندس البناء بعد ذلك، فقدَّر نفقاته بمبلغ ١٦ ألف جنيه، ووافقت الداخلية، وابتدأ المقاول في حفر الأساس، وزارنا المرحوم المستر دانلوب ليتفقد البناء الجديد، وقبل أن يذهب إليه مر على المدرسة القديمة هو ومدير التعليم فطاف المدرسة، ودخل المطبخ، فقال: إن المطبخ ضيق جدًّا. وكان المدير في ذلك الوقت عدوي فقال مدير التعليم في شيء من الاعتزاز بنفسه: إن المطبخ هو الشيء الوحيد الذي لا أشرف عليه أنا. قلت: عفوًا يا سيدي، وهل إذا أشرفت عليه تستطيع أن تعمل شيئًا في مثل هذا المنزل الضيق، فهل كنت تخلق حجرةً واسعةً للمطبخ أم كنت تستطيع أن تزحزح جدران هذا المطبخ ليتسع؟ على أنك أشرفت على ما أعتقد على البناء الجديد، فهل احتطت لمطبخه؟ قال: نعم. قلت: كلا يا سيدي، فسيرى جناب المستشار اليوم أن البناء ليس فيه مطبخ للتدبير، ولا للمدرسة، ولا غرفة للمائدة أيضًا، ولا شيء من الملحقات الضرورية للتدبير المنزلي. فدهش المستشار، وقال: أصحيح هذا؟! وكان مدير التعليم قد تظاهر أمامه بأنه هو صاحب تصميم البناء، فلما قلت ذلك أُسْقِطَ في يده، وقال لي همسًا: لقد غششتني، وذهبنا إلى البناء الجديد، وأطلعت المستشار على أساساته، وبينت له المواضع التي يجب أن تبنى فيها غرفة المائدة، ومحال التدبير جميعه، فوبخ مدير التعليم على هذا التقصير في البناء، وذهب إلى الداخلية في الحال فصرحت بزيادة ٨٠٠٠ جنيه لعمل تلك الملحقات، وأعيد البناء إلى أصله الحقيقي، ونجحت في لعبتي، وقد تم البناء في مدة المدير المشاغب، ونقلت المدرسة إليه، وما كدت أقيم في البناء الجديد أسبوعًا حتى زار المدرسة عظيم من عظماء وزارة المعارف كان أقرب الناس إلى جناب المستر دانلوب، وتظاهر أنه جاء لزيارة المدارس الأميرية، وأنه أراد أن يزورني شخصيًّا، وبعد أن زار المدرسة قال لي: إن عملك مجيد، وإنك أفضل من ناظرات المدارس الأميرية، وإن بقاءَك في مجلس المديرية على كراهية المدير لك خسارة عظيمة على مستقبلك، وإن ما رأيته من أعمالك اليوم يجعلني أود مساعدتك بتعيينك وكيلةً لمدرسة معلمات بولاق. قلت: ولكنك تعلم يا سيدي أني أتقاضى هنا ٢٦ جنيهًا، وأن القانون المالي لا يجيز أن أعين بالوزارة بذلك المرتب. قال: إنك تجهلين مقدارك يا سيدتي؛ فناظرة مثلك مجدة يجب أن يعمل لها كل استثناء ممكن، ولا يتأخر مجلس الوزراء أن يساعدك بذلك متى شرح له مكانتك جناب المستشار.
كان ذلك الباشا يخاطبني مخاطبة الثعلب للغراب لغرض في نفسه، ولم أكن أفطن لغرضه فقلت له: وهل تظن أن مثل ذلك الاستثناء ميسور؟ وهل يُعنى مجلس الوزراء في الحالة الحاضرة — وقد كنا في سنة ١٩١٤ — مع اضطرابها بتعيين فتاة مثلي في مدرسة قد أخذت بناءها السلطة العسكرية؛ فهي الآن في حكم العدم، وما الذي يهم مجلس الوزراء من تعيين وكيلة لمدرسة مغلقة؟ قال: صدقت! قد لا تتم تلك الأمنية، ومع ذلك فلِمَ لا تجربين؟ ولا يكلفك ذلك إلا كتابة الطلب، وسأحفظ طلبك عندي، فلا يعلم به أحد إلا إذا وافق عليه مجلس الوزراء. فكتبت له طلبًا أقول فيه إني أرغب أن أكون وكيلةً لمدرسة بولاق بمرتب شهري قدره ٢٦ جنيهًا على شرط أن أكون مثبتةً، وأن يكون لي خادمة خصوصية، وأعطيته الطلب وأنا أعلم أنه كلام لا قيمة له؛ لأن تحديد المرتب عقبة عظيمة، وشرط التثبيت عقبة ثانية؛ لأن نظري كما قدمت كان ضعيفًا لا يسمح بتثبيتي، فلا بد لمجلس الوزراء أن يثبتني بصفة استثنائية، وأن يقرر مرتبي بصفة استثنائية أيضًا، «وخبطتين في الرأس توجع»، على أني كنت أجهل أن في الأمر دسيسة سياسية؛ ولهذا أعطيته الطلب وأنا واثقة أنه لن يجاب.
وما كانت أشد دهشتي إذ خاطبني الباشا في اليوم التالي تليفونيًّا، وهنأني بوظيفتي الجديدة، قلت بدهشة: ومتى اجتمع مجلس الوزراء لتعييني؟ قال: إنه لم يجتمع، ولكن الوزراء وافقوا على التعيين متفرقين. قلت: عجبًا! وما الدافع لهم إلى كل تلك السرعة والمدرسة التي عينت بها مغلقة فلا حاجة إلى تعيين وكيلة لها أو ناظرة. قال: لقد تم هذا والسلام. فقلت: إني أرفض هذه الوظيفة؛ لأن في طياتها أمرًا خفيًّا لا أفهمه. قال: على كل حال لا بد من حضورك حالًا لمقابلة جناب المستشار؛ فهو وحده يستطيع أن يشرح لك الحالة.
قابلت جنابه في اليوم التالي، وأنا مصممة على رفض التعيين، وقال لي إنه يدهش لرفضي بعد أن عينني في وظيفة لم تُعيَّن فيها مصرية من قبل، وبمرتب لم تتناوله غيري من المصريات. قلت: نعم هذا صحيح، ولكن سرعة تعييني على ما فيه من العقبات، وعلى عدم وجود المدرسة التي عُينت فيها تدل على أن في الأمر شيئًا خفيًّا، وماذا عسى أن يكون هذا الشيء إلا اتهامي بالاشتغال بالسياسة ضد الإنجليز، وإذا كان هذا صحيحًا، فكيف أستطيع أن أعاشر سيدةً إنجليزيةً بصفتها ناظرة، وأنا وكيلة لها لا شك عندي أنها سيدة فاضلة محترمة، وقد كانت في الماضي معلمتي، ولكنني لو كنت محلها لما استطعت أن أعاشر تلك الوكيلة بعد أن قَلَبَتْ لي ولأمتي ظَهْرَ المِجَنِّ في أحرج المراكز. قلت له ذلك استنتاجًا بما عساه أن يكون، وقد كان هو الحقيقة بعينها؛ فقد أفهموا جناب المستشار أني ناظرة محبوبة من جميع الأهالي، وأني أعمل ضد الإنجليز في الخفاء، وأن بقائي في المنصورة قد يقلب أهاليها ضد الإنجليز عن بكرة أبيهم، وزاد هذا الاعتقاد رسوخًا في نفس المستشار ما ذكرته له، إذ ظن أني لاشتغالي بالسياسة ضد الإنجليز قد شعرت بما بلغه عني، فزاد تشبثه بتعييني وكيلةً مهما كانت الظروف، ولو بالقوة، خصوصًا وأن ناظرة مدرسة السنية كانت قد بلغت الستين من العمر، وفصلت لبلوغها السن القانوني، ولم تكن تستطيع السفر إلى بلادها لتحرج الحالة الدولية، فأرادوا أن يجدوا لها عملًا خارج الحكومة ريثما تضع الحرب أوزارها، وخصوصًا أنه لم يقرر لها معاش لدخولها الخدمة في سن كبيرة، ولو أني كنت أعلم تلك الحالة لوافقت من أول الأمر على التعيين خدمةً لتلك التي كانت ناظرةً لي يومًا ما، ولكني كنت أجهل ذلك، واعتقدت أن المسألة سياسية بحتة، وخشيت أن تساء معاملتي.