القوة فوق الحق
تشبث جناب المستشار بتعييني وكيلةً مهما كلفه ذلك؛ ولهذا قال إنه لا بد من قبول وظيفة وكيلة؛ لأني أنا نفسي التي طلبتها، ولكني اشترطت أن أكون مثبتةً، قال: لا مانع، وسأرسلك الآن إلى القومسيون الطبي. فقلت: لقد عُرِض نظري على القومسيون الطبي منذ خمس سنوات، فلم يوافق على تثبيتي، وثبتني مجلس الوزراء بصفة استثنائية، فهل تظن جنابك أن نظري زاد قوةً بعد عملي خمس سنوات أم تراه قد زاد ضعفًا على ضعفه القديم؟ قال: إنك ستذهبين الآن إلى القومسيون مع جناب مسز ألجود، وله أن يقرر ما يريد. ثم استدعى مسز ألجود في الحال، وأرسلني معها فاستقبلني ثلاثة من الإنجليز، وكان القومسيون يشكل عادةً من رئيس إنجليزي، وعضوَيْن مصريين، فخالف في تلك المرة عادته، وزادني ذلك نفورًا على نفوري الأول، وأشار الرئيس إلى العلامة الأولى، وسألني عن مكان فتحتها، فقلت له في شيء من الغضب: هل تظن أنني أراك أنت شخصيًّا؟ قال: عجبًا! ألا ترينني؟ قلت: نعم. قال: فاذهبي اليوم، وسأكشف عليكِ في يوم آخر.
فخرجت من الغرفة وتأخرت مسز ألجود معه برهةً، ثم لحقت بي، وأعادتني إلى المستشار الذي ما كاد يراني حتى هبَّ مسلمًا عليَّ وهو يبتسم قائلًا: أهنئك بالنجاح في الكشف الطبي. قلت: وهل نجحت، وأنا لم أرَ الرجل نفسه؟ قال: نعم! وقد عُينت وكيلةً لمدرسة بولاق أيضًا، وأمامك أسبوع واحد تستعدين فيه لتسلم مركزك الجديد. عدت إلى المنصورة، وقد علمت أني غير باقية فيها، فدعوت سيدات المنصورة إلى اجتماع ودعتهن فيه، وألقيت عليهن خطابًا يتضمن كثيرًا من الطعن على المدير بصفة غير مباشرة، ومن ذلك أني قلت: «يتهمونني أيتها السيدات بكراهيتي الشديدة للرجال، فناشدتكن الله ألا دافعتن عني عند رجالكن، فإني لا أكره من الرجال إلا الدنيء السافل.»
ولما كانت كراهيتي للمدير مشهورةً عند جميع الناس، فقد كان هو المقصود بالدنيء السافل، وقد طبعت تلك الخطبة ووزعتها في مدينة المنصورة، فأخذ المدير نسخةً منها، وذهب بها إلى المستر دانلوب ليشكو من سوء تصرفي، فلما تُرجمت الخطبة للمستشار لم يجد فيها ما يوجب لومي؛ لأن الطعن لم يكن صريحًا، بل كان يُفهم بالقرائن، وقد قال جنابه: لا لوم على نبوية في أن تقول: إنها تكره الدنيء السافل، ولا يمكن معاقبتها على ذلك؛ لأني أنا نفسي أكره كل دنيء سافل.
وبعد مضي أسبوع رفضت قبول وظيفة وكيلة لبولاق، كما رفضت مبارحة مدرستي، فأرغى جناب المستشار وأزبد، وأحاط المدرسة فرقة من الجنود الإنجليز منعت دخول أي شخص إليها، وصرحت لجميع من فيها بالخروج حتى لم يبقَ في المدرسة غيري، وقال المدير إنه مستعد أن يخرجني منها إذا كتبت قبولًا صريحًا وظيفة وكيلة لبولاق على أن يصحبني بعض رجاله ليسلمني إلى المستشار باليد، وعز عليَّ الأمر فلم أقبل، وقضيت في سجني ثلاث ليالٍ، غضب المستشار لذلك كل الغضب، وأراد أن يتخلص مني، فكتب لمستر ورنوك خطابًا رسميًّا يقول له فيه إنني جننت، وإن هذا جنون وراثي بدليل أن أخي عُرض عليه قبل ذلك مصابًا بذلك، وقد بنى المستشار ذلك الوهم على حقيقة وهمية لا علاقة لها بالحقيقة؛ وذلك لأن المرحوم شقيقي كان قد أُصيب بحمى التيفود، وهو في سن السابعة عشرة، فلما شفي من الحمى كان يهرف قليلًا كعادة كل مصاب بها، وكان يتقاضى معاشًا عن والدي يُقطع عنه في سن الثامنة عشرة، ولجهل والدتي ظنت أن المعاش يمكن استبقاؤه إذا ثبتت إصابة شقيقي بالذهول، فقدمت طلبًا بذلك، وعُرض الطلب على المستر ورنوك، وهو مدير مستشفى المجاذيب، وكشف على المرحوم، فقرر أنه سليم معافى، فلما تضايق المستشار مني تقدم إليه أحد أقاربي بتلك الحكاية تملقًا منه للقوة الغاشمة، وشاء الله أن لا يجاريهم المستر ورنوك فيما أرادوا، فكتب إلى المستشار يقول: إن ذلك الشخص عُرض عليه منذ عشرين عامًا، وقررت أنه سليم معافى، وأنه لا يستطيع القبض عليَّ بعلة الجنون ما لم أستكتب تقريرًا مطولًا يستطيع أن يحكم منه، ولو على تهوري، فأرسل إليَّ المستشار مفتشًا يطلب مني أن أكتب بالتفصيل كيف رفضت الوظيفة بعد أن طلبتها بنفسي، فكتبت إليه تقريرًا أقول فيه: إني طلبت الوظيفة باعتبار أنها وظيفة تليق بي، وكنت أعتبر نيلي لها حظًّا سعيدًا، ولكني لما رأيت أنهم عينوني فيها بمجلس وزراء في لحظات معدودة، وبسرعة لم يعهدها أحد، خصوصًا وأنه لم يكن هناك داعٍ لتلك السرعة؛ لأن المدرسة التي عُينت بها كانت معطلةً عن العمل، وقد احتلت بناءها السلطات العسكرية، علمت أن في الأمر شيئًا خفيًّا لا أعرفه، وزادني يقينًا فيما اعتقدت أن القومسيون الطبي الذي تشكل من ثلاثة من الإنجليز مفروض فيهم جميعًا النزاهة قد أقروا صلاحيتي للعمل دون أن أرى شيئًا.
علمت من ذلك كله أني متهمة بالسياسة، وتعييني وكيلةً لناظرة إنجليزية بعد هذا الاتهام يجعل تلك الناظرة ضدي، وعلى ذلك يكون بقائي معها لا كوكيلة وناظرة بل كسجان ومسجون، فهي لا تأتمنني في شيء بل ستراقب حركاتي وسكناتي مراقبةً شديدةً تجعلها تتوهم الشك يقينًا، وتقلب الحقائق رأسًا على عقب، ولست ألومها في ذلك، أو أنسب إليها الشر، بل وهي معلمتي أعرف عنها الكثير من الخير، ولكني لو كنت مكانها لفعلت ما تفعل مع تلميذة تمردت عليَّ وعلى أمتي، وقلبتْ لي ظَهْرَ المِجَنِّ في أشد المراكز حروجةً؛ ولهذه الأسباب رفضت الوظيفة.
رَدًّا على خطابكم والإشارة التليفونية التي سبقته أفيدكم أنه لا يمكن التدليل على جنون تلك السيدة ما دامت كما تقولون أنتم ذكيةً جدًّا، وقادرة فيما تقوم به من الأعمال، ومحتاطة كل الاحتياط.
وهنا ثارت ثائرة المستشار، ولم يجد أمامه من الحيلة إلا الالتجاء إلى المرحوم أخي، وكان المرحوم في ذلك الوقت قاضيًا جزئيًّا بقنا، فخاطبه مستشار الداخلية تليفونيًّا، وهو في الجلسة فطلب منه رفع الجلسة والحضور إليه في القاهرة حالًا، ولما وصل المرحوم إلى القاهرة، وجد ساعي المستشار ينتظره على المحطة بسيارة المستشار الخصوصية، فسار به في الحال إلى جناب المستشار، وبعد أن حياه، وشرب معه الشاي، طلب منه أن يقابل مستشار المعارف، وأن يقضي له ما يريد، وذهب أخي بسيارة مستشار الداخلية إلى مستشار المعارف في منزله، فقابله أحسن مقابلة، ورجاه أن يرجوني في قبول الوظيفة، فوعده خيرًا، وقضى ليلته بالقاهرة، وفي الصباح المبكر سافر إلى المنصورة فوصل إليها قبل الظهر، وكانت التعليمات بوصوله قد سبقته، فأدى له الجنود الواقفون بباب المدرسة التحية، وأفسحوا له فدخل، وطلب مني أن أصحبه إلى مستشار المعارف، فلما رفضت قال لي: إن الظروف حرجة، وإني أنا شخصيًّا أسخر بالحياة لأنه ليس لي أولاد، أما هو فلا بد أن يفكر في أولاده، وإني بعنادي هذا سأحرج مركزه كل الإحراج.
فلم أستطع أمام هذا أن أتردد، بل ذهبت معه، وفي صباح اليوم الثاني أخذني بنفسه إلى غرفة المستر دانلوب، وهناك أمضيت على خطاب قيامي بالعمل كوكيلة لمدرسة بولاق، واعتمد تعييني في ذلك اليوم، وكان مجلس الوزراء قد عينني وكيلةً لمدرسة بولاق في يوم ٢٧ نوفمبر سنة ١٩١٤، وفي يوم ٤ ديسمبر كتب مستشار المعارف المستر دانلوب بالقبض علي، وفي يوم ١٠ ديسمبر تم تعييني، وتسلمت العمل كما يزعمون، فليعجب القارئ من ذلك التناقض إذ تعينني الوزارة وكيلةً بمدرستها في يوم ٢٧ نوفمبر، ثم تطلب القبض عليَّ بعد ذلك بأسبوع، ثم تعينني نهائيًّا عندها بعد ذلك الطلب بأربعة أيام، والجنون فنون كما يقولون.