وظيفة وكيلة
أمضيت خطاب قيامي بالعمل بصفة وكيلة لمدرسة بولاق بمكتب المستشار كما قدمت، وقمت بالعمل إذا كان هناك قيام به في منزلي؛ لأن المدرسة كانت مغلقةً، وكانت السلطة العسكرية قد استولت على بنائها، وفي تلك الأثناء تولى السلطان حسين عرش مصر فهدأت الأمور، وطالب عظمته الحكومة بفتح المدارس، فأخلت السلطة بناء مدرسة المعلمات ببولاق، وفتحت المدرسة أبوابها في أكتوبر سنة ١٩١٥، وعملت وكيلةً تحت يد ناظرة إنجليزية كنت أعرفها من قبل؛ لأنها كانت معلمتي، وكنت أقدر أخلاقها كثيرًا، ولكني شعرت عندما عملت معها بشيء من الجفاء ما كنت آلفه منها من قبل؛ وذلك لأنها كانت تعتقد أني ضد الإنجليز، والظاهر أن للإنجليز خطأً جوهريًّا في تصديق كل ما يُنقل إليهم من الإشاعات والتمسك به، وعدم تصديق ما يخالفه مهما كان خطأ الإشاعة الأولى، وبعدها عن الحقيقة، والشخص الذي اتهم بمناوأة الإنجليز إذا هو أكد لهم أنه مظلوم، وأن ما سُمِع عنه مجرد افتراء، فهم لا يتحولون عن اعتقادهم الأول، بل ربما نظروا إليه بعين الاحتقار إذ يعدونه جبانًا كاذبًا؛ فلهذا كنت مضطرةً على الرغم مني أن لا أدافع أمام تلك الناظرة عن نفسي، وأن لا أدلل لها عن براءتي خشية أن تتهمني بالجبن والكذب، فكنت أعاملها بالحذر والصمت كما كانت هي أيضًا تعاملني بشيء من الملاينة الظاهرة ينطوي تحتها شيء من الخوف خشية أن أناوئها.
أردت أن أنصرف إلى العمل لأبرهن بعملي على حسن نيتي، والحق إني كنت — ولا أزال — أحب التعليم حبًّا يشغلني عن كل شيء سواه حتى النظر في السياسة؛ لأني كنت أعتقد أن الإنسان يخدم بلاده بالمهنة التي يتقنها والتي يجب أن يتفرغ لها، أما هي فكانت تريد أن تصرفني عن العمل في المدرسة بكل ما تستطيع، وحصل أني اطلعت على كراسات الطالبات في اللغة العربية، فوجدت فيها أخطاءً كثيرةً أصلحتها بالقلم الأزرق، وعز على المعلمين المشايخ أن تصلح أخطاءهم فتاة من مدرسة السنية، فشكوا أمرهم إلى كبير في الوزارة، وشجعهم على ذلك ما كانوا يرونه من شدة حذر الناظرة مني، وطلب ذلك الكبير منهم الحضور فحضروا إلى مكتبه، ومعهم كراسات الطالبات التي أصلحت أنا أخطاءها، وعُرِض الأمر على المستشار، وكان الرجل دقيقًا في عمله عادلًا في تصرفاته، فسألهم عما كتبته أنا بالقلم الأزرق، وهل هو خطأ أم صواب؟ فقالوا: إنه صواب. وهناك ثارت ثائرته، وقال: «أتشكون إليَّ من أن فتاةً من السنية وجدت لكم أخطاءً، أنتم المشايخ أعلام اللغة العربية فأصلحتها؟ وهل كان من صالح التعليم أن تتركها؟ الحق إن شكواكم غريبة مضحكة، وإن خير ما يمكنني أن أقوله لكم هو أن تخرجوا من مكتبي دون أن ينالكم عقاب.»
وهكذا باءوا بالفشل من شكواهم، ولكن حضرة الناظرة طلبت مني بعد ذلك أن أترك الأمور تجري في مجراها الطبيعي، وأن لا أتدخل في عمل أحد من المدرسة، ومن ثم ابتدأ بيني وبينها شيء من العداء والجفاء، وكانت غرفتي إلى جانب غرفتها، فكنت أنتقد بعض أعمالها، وكانت المعلمات في ذلك الوقت ككل مصري يتهمن المصري بالكذب وكل العيوب، ويبرئن الإنجليز من كل عيب مهما صغر، وأردت أن أشرح لهن الخطأ فيما ذهبن إليه، فقلت لهن: إنكن تعتقدن أن الإنجليز لا يكذبون، وفي استطاعتي أن أبرهن لكن عمليًّا أنهم ككل الشعوب منهم الصادق والكاذب والأمين والخائن، وهذه ناظرة إنجليزية الأصل، وستقابل اليوم بعض المعلمات لتعينهن في مجالس المديريات، وربما استطعت أن أثبت لكُنَّ كذبها مما تقوله لهؤلاء المعلمات، وكان أول مَنْ دخلت عند الناظرة آنسة طلبتها هي لتعينها ناظرة في مدارس مجالس المديريات، فقالت لها: «إن هناك مَدرستين فتحتهما مجالس المديريات إحداهما مدرسة شبين الكوم والأخرى مدرسة طنطا، فاكتبي إليَّ تطلبين وظيفة ناظرة في مجالس المديريات لأعينك في إحدى المدرستين.» قالت الفتاة: «ولكني لا أريد مدرسة شبين الكوم، بل أريد مدرسة طنطا.» قالت: «لا بأس، ولكن يجب عليك في الطلب أن لا تعيني المدرسة التي تريدينها، وسأعينك في طنطا كما تريدين.» وخرجت الفتاة من غرفتها إلى غرفتي، وقصت عليَّ قصتها أمام بقية المعلمات، فقلت لهن: إن هنا كذبًا لا أستطيع إثباته الآن؛ لأن مدرسة طنطا بُنيت بناءً حسنًا لتديرها ناظرة إنجليزية لا مصرية، وستعين الفتاة في مدرسة شبين الكوم.
وجاءت بعد هذه ناظرة بنها، فطلبت من الناظرة أن تعينها في مدرسة شبين الكوم؛ لأنها غير مستريحة في بنها، فقالت الناظرة في دهشة: «وهل ستفتح مدرسة في شبين الكوم؟ إني لم أسمع بذلك.» وعندما قصت ناظرة مدرسة بنها حكايتها تَبيَّن للمعلمات أول كذبة كذبتها الناظرة الإنجليزية، وجاء بعد ناظرة بنها فتاتان تريدان التوظف بوظيفة معلمتين في مدرسة طنطا، فسألتا الناظرة عمن ستعين ناظرةً لمدرسة طنطا، ولكي يرضياها قالتا لها إنهما لا يقبلان العمل تحت رياسة مصرية، فقالت لهما: لا تخشيا شيئًا فناظرة طنطا ستكون بالتأكيد إنجليزيةً. وهنا ظهرت الكذبة الثانية، وهكذا أثبت لهن ما يزيد عن عشر كذبات في يوم واحد، وقد دهشت المعلمات لاعتقادهن الراسخ أن الإنجليز لا يعرفون الكذب، ولكنهن خضعن للحقيقة الواقعة.
وبمناسبة هذا أقول إني قد علَّمت هذه الناظرة الإنجليزية اللغةَ العربية، فلما دخلت الامتحان تفوقت على زملائها الإنجليز في تلك اللغة، فعينت لسوء حظي مفتشةً للغة العربية، وجاءتني في المنصورة عندما كنت ناظرةً لمدرسة معلمات المنصورة لتمتحن طالبات مدرستي في التربية العملية؛ أي تنتقدهن في إلقاء دروسهن باللغة العربية على الطالبات، وكان معها على ما أتذكر خالد بك حسنين، فعلمت أن مثل هذا الامتحان لا يسفر عن حقيقة لجهلها هي باللغة العربية؛ ولأنها الكل في الكل فيه قلت لها مازحةً: إني مستعدة أن أحضر لكِ فنجانًا عظيمًا من القهوة على شرط أن تتعهدي لي بعدم رسوب الطالبات في تلك المادة. فقالت: لا، لا أذوق قهوتك. وقامت فعملت هي وخالد بك في الامتحان مدة ساعتين، ثم جاءت لتستريح في مكتبي فقلت: ألا تزالين تصرين على عدم قبول شرطي، وشرب القهوة؟ قالت: لا، كلا. أما خالد بك فقال لي: لقد طار مخي من التعب فأرجو إحضار القهوة، وإني مستعد لأن يرسب من الطالبات حتى الأوليات. ثم أعطتني كشفًا، وقالت: إنه يجب عليَّ أن أضع للطالبات درجاتهن في أعمال السنة من ٣٠. فقلت لها: إني أعلم أن أوليات الطالبات سيرسبن في امتحانك، وإذن سأعطي هؤلاء الأوليات ٦٠ من ٣٠. فقالت بحدة: لا تفعلي! فإن هذا غير مصرح به. وضايقني تجاهلها المزاح إلى هذا الحد، فقلت لها: ألا تمزحون في بلادكم؟! فقالت: كلا، نحن لا نقول الكذب حتى ولا في المزاح. مع أنها — كما رأى القارئ — قالت ذلك الكذب في الجد الصحيح.