الدعاية الوطنية
من أحسن خصال الإنجليز، ومن أهم الأسباب التي تكلل أعمالهم بالنجاح دعايتهم المستمرة لبلادهم، فهم يحدثونك عن مفاخر أبناء وطنهم، كما كان يتغنى الشاعر العربي القديم بذكرى عنترة بن شداد، أو الزير سالم، أو غيرهما من أبطال التاريخ، وهم في سبيل ذلك قد ينسون الحقيقة، ويصل كلامهم إلى حد الخرافات، يتغنى الإنجليزي بمفاخر قومه بحماسة نادرة فيثبت ذلك في نفسه، ويعتقد اعتقادًا صحيحًا أن أبناء جنسه خير البشر، وأفضلهم على الإطلاق، وهو لذلك لا يدخل من المصانع أو المتاجر إلا ما كان إنجليزي الأصل فتروج تجارتهم، ويحملون غيرهم من الأمم على احترام أمتهم والثقة بها، وترى تلك الظاهرة الحسنة في كل شخص أو هيئة أو جماعة منهم؛ فهم يوحون إلى الناس جميعًا باحترامهم والثقة بأعمالهم، وينفون العيب عنهم مهما ظهر.
كنت أعرف ذلك منهم، وأريد أن أقتدي بهم في إعلاء اسم أمتي، وكانت ناظرتي الإنجليزية تود أن تفهمني غير ما أريد، وكان بالمدرسة حوالي ٣٥ معلمةً مصرية ومعلمة واحدة إنجليزية، فكانت كلما أخطأت إحدى المعلمات المصريات، قالت لي: هكذا المصريون لا يفلحون في عمل. فإذا عارضتها في ذلك قالت: لا تقيسي على نفسك فأنت مستثناة. وكنت أجيبها أني مصرية صميمة، وأن لون بشرتي وشكل وجهي الفرعوني يدلان على أني من صميم مصر، ومحال أن أُستثنى من بناتها، وأنها هي تحكم على المصريات حكمًا قاسيًا لا مبرر له، مع أنهن كالإنجليزيات في كفايتهن، ومحال أن يعصم شخص من الخطأ، فكانت تعارض بشدة في ذلك، وأخيرًا قلت لها: إن بالمدرسة ٣٥ معلمةً مصرية ومعلمة واحدة إنجليزية، وبناءً عليه يجب أن نجد ٣٥ خطأً من المصريات يقابله خطأ واحد من الإنجليزية، وإني سأحصي أخطاء الفريقين. قالت: محال أن تجدي للإنجليزية خطأً. قلت: سنكون أمام الأمر الواقع في المستقبل القريب. وكانت تلك السيدة الإنجليزية تدرس ١٢ حصة أسبوعيًّا فقط في التدبير المنزلي؛ ليكون عندها من الوقت ما يكفي لإرشاد معلمات التدبير اللاتي كانت كل منهن تدرس ٢٤ حصةً في الأسبوع، وكانت تلك السيدة تستغل سيطرتها عليهن، فتوزع دروسها عليهن فلا هي ترشدهن، ولا تقوم بتدريس دروسها نفسها.
وفي أحد الأيام تغيبت إحدى معلمات التدبير المنزلي، فأمرتني الناظرة أن أوزع دروسها ففعلت، ولكني لم أوزع درس السيدة الإنجليزية التي كانت تقوم بتدريسه تلك المعلمة بصفة غير رسمية، وعندما ابتدأ ذلك الدرس أتيت إلى الناظرة، وأخبرتها أن الفرقة الفلانية ليس بها معلمة، قالت: لعلك لم توزعي دروس المعلمة الغائبة. قلت: كلا قد فعلت، وهذا الدرس مخصص للسيدة الإنجليزية. قالت: وأين هي؟ قلت: إنها في غرفتها تشرب الشاي مع ضيف لها. قالت: محال أن تترك درسها. قلت: إنها يا سيدتي لا تدخله بتاتًا، بل هي تتركه للمعلمة الغائبة. قالت: إني لا أسمح لكِ بذلك القول. قلت: إن الحقيقة لا تقبل الجدل. فقامت وهي تكاد تتميز غيظًا، وذهبت إلى غرفة المعلمة الإنجليزية، وأمرتها بالحضور إلى الدرس، وكانت تلك المعلمة الإنجليزية تدرس درس التربية العملية في التدبير المنزلي، ونظرًا لأن الطالبات يعلمن أنها لا تصحح مذكرات دروسهن التي يلقينها أمامها؛ لأنها لا تفهمها، بل تضع عليها الدرجة حيثما اتفق، أخذن يهملن إعداد مذكراتهن، وبعد يومين من الحادثة الأولى كانت إحدى طالباتها تُدَرِّسُ درس «يخني» للسنة الرابعة من المدرسة الملحقة، وكان ذلك في الحصة الأولى صباحًا، فلم تُعِدَّ مذكرة درسها، بل أخذت كراسة إحدى طالباتي، وكانت قد أعدت بها درسًا للسنة الثانية في مبادئ جدول الضرب، وقد أرادت الطالبة بأخذ تلك الكراسة أن توهم المعلمة الإنجليزية بأنها أعدت مذكرتها، وأنها أخطأت فأحضرت كراسةً أخرى بدلًا من كراستها، وينتهي الأمر عند هذا الحد، ولكن المعلمة ما كاد يقع بصرها على مذكرة طالبتي التي كانت قد أعدتها بنظام وإتقان حتى وضعت عليها الدرجة النهائية وأمضت، ولما دخلت طالبتي لإلقاء درسها أمامي رأيت إمضاء المعلمة الإنجليزية والدرجة في نهاية المذكرة، فسألت الطالبة عن السبب في وضع تلك الإمضاء، فأخبرتني بما حدث، فذهبت إلى الناظرة، وبيدي الكراسة، وقلت لها: ما رأيك في معلمة تضع إمضاءها والدرجة على كراسة لم تقرأها؟ قالت: ليس ذلك بغريب على المصريات. قلت: وما رأيك إذا كانت إنجليزية؟ قالت: محال أن يصدر هذا من إنجليزية. فأطلعتها على الدرس فرجعت، ثم قالت: لعلها قرأته، ولكنها لم تفهمه جيدًا. قلت: إن السيدة التي تقرأ السنة الثانية على أنها الرابعة، وتقرأ كلمة «حساب» على أنها «طبيخ»، ثم تقرأ كلمة جدول الضرب على أنها «يخني» لا يجوز لنا أن نعتبر أنها قرأت شيئًا، بل هي وضعت الدرجة جزافًا دون أن تعرف في المذكرة شيئًا. فقالت الناظرة بحدة: أرجو أن لا تناقشيني في أخطاء تلك السيدة مرةً أخرى. قلت: لست بفاعلة، ويكفي أني أظهرت لك أن الإنجليزيات أكثر من المصريات أخطاءً. ولم تعد بعد ذلك إلى الطعن في المصريات أمامي.
وكان بالمدرسة ضابطة تعرف اللغة الإنجليزية، وتشاطر الناظرة رأيها في الطعن على المصريات؛ ولهذا كانت الناظرة تحابيها، وترفع من درجتها، واعتمادًا على ثقة الناظرة بها وميلها إليها أرادت أن تتعالى عليَّ متناسيةً أني وكيلة المدرسة، وأنها إحدى الضابطات، ومررت بعنابر النوم يومًا فوجدت أن بعض الأَسِرَّة بها وسائد مربعة فوق وسادتها الأصلية، وبعضها ليس به تلك الوسائد، وأن الطالبات تشاجرت على تلك الوسائد الزائدة، فكل منهن تريد أن يكون لها وسادة مربعة، وهكذا كانت تلك الوسائد منبع شقاق وخصام، فأردت أن أمنع ذلك الشقاق بوضع جميع الوسائد المربعة في عنبر واحد هو عنبر نوم السنة الثالثة، وهي أعلى سني المدرسة، فأمرت الخادمات بنقل جميع الوسائد الزائدة إلى ذلك العنبر، وعزَّ على الضابطة التي أشرت إليها أن لا آخذ رأيها في ذلك، فنقلت الخبر إلى الناظرة وزادته فظاعةً بأن قالت لها: إن الوكيلة تعمل ما تريد دون أن تعبأ برأي الناظرة أو تستشيرها. وكانت ضابطة الخدم سيدة فرنسيةً، فأمرتها الناظرة أن تنقل الوسائد من عنبر السنة الثالثة، وتوزعها على العنابر الأخرى كما كانت، ونفذت الضابطة ما أمرت به الناظرة، وما كدت أرى ذلك حتى ارتديت ملابسي وتأهبت للخروج دون أن أقول للناظرة شيئًا، ورأتني وأنا مارة بباب غرفتها في طريقي إلى خارج المدرسة، فنادتني فلم أجبها، فتبعتني وأوقفتني، وسألتني عن سبب خروجي، فقلت: لا أستطيع أن أؤدي عملي كما يجب، أو أقوم بالمسئولية الملقاة على عاتقي عندما أنوب عن الناظرة في غيابها بصفتي وكيلة للمدرسة، ما دامت إحدى الضابطات تهزأ بأوامري وتمحوها كلما أرادت ذلك، ورأت الناظرة أنها أخطأت، فقالت: ولكني أخذت الوسائد من عنبر السنة الثالثة لأنجِّدها ثم أعيدها إليه. قلت: حسنًا، أما أنا فسأبقى في منزلي إلى أن تعود الوسائد إلى حيث وضعتها، ثم سلمت عليها وانصرفت، وذهبت إلى المرحوم الدكتور طلعت لآخذ إجازةً مرضيةً، ورأى الدكتور أن حرارتي ٣٩ درجةً، فقال: إني أعتقد أنك لست بمريضة بالرغم من ارتفاع حرارتك، ولعلك مغضبة أو مجهدة، وعلى كل حال، فأنتِ تستحقين إجازةً للراحة من ذلك الإجهاد، وسمح لي بإجازة ١٥ يومًا، فعدت إلى المدرسة لأسلم الإجازة، وآخذ ملابسي، وما كادت الناظرة تراني حتى تبعتني إلى غرفتي، وقالت: ألا تزالين مغضبةً؟ قلت: لا يغضبني شيء، ولكني لا أستطيع البقاء في تلك المدرسة إلا إذا نفذت أوامري. قالت: لقد أحضرت المنجد، وستكون الوسائد في محلها غدًا. قلت: لا بأس يا سيدتي، وسأكون بالمدرسة غدًا إن شاء الله. ومررت بالضابطة الفرنسية التي رأت كيف غيَّرت الناظرة أمرها الأول، والتي كانت تتألم بعض الشيء من قوة نفوذ الضابطة الأخرى، فقالت لي: أهنئك بفوزك الباهر، وها نحن نعمل بسرعة في تنجيد الوسائد ووضعها في مكانها الذي أمرت أنتِ أن توضع به. وهكذا عادت الوسائد إلى مكانها في اليوم التالي، كما عدت أنا إلى عملي، وفي النفوس ما فيها.