زيادة عدو إلى قائمة أعدائي
دافعت عن كرامتي أمام ذلك المفتش الإنجليزي، ومن يدافع عن كرامته يعادِه الكبراء والرؤساء؛ ولهذا انضم ذلك المفتش إلى قائمة أعدائي، وكان أشدهم خطرًا عليَّ خصوصًا بعد أن خذله جناب المستشار، وأمره بعدم زيارة مدرستي.
وفي صيف هذا العام طلبت من الوزارة أن تصرح لي بفتح فصل جديد في المدرسة الملحقة بمدرسة المعلمات.
وكان النظام في المدارس الأولية أن يديرها مفتش التعليم الأولي بالإسكندرية، فنظار المدارس وناظراتها يعرضون عليه ما يريدون عمله، وهو الذي يخاطب الوزارة في شأنهم، أما المدرسة الملحقة بمدرسة المعلمات فقد كانت تتبع إدارة مدرسة المعلمات، ولناظراتها الحق في الاتصال بالوزارة فيما تريده من الأعمال سواء أكان يتعلق بمدرسة المعلمات أم بالمدرسة الأولية الملحقة لها، واطلع المفتش الإنجليزي على خطابي الذي أرسلته إلى الوزارة في طلب فتح فصل، ووجد في ذلك فرصةً سانحةً لإذلالي ومساواتي بنظار المدارس الأولية، فأرسل خطابي إلى مفتش التعليم الأولي بالإسكندرية، ولما كان عزته في إجازة استلمه أحد المفتشين الذين تحت سلطته، وقد طلب المفتش الإنجليزي أن يزور المدرسة، وأن يعطي رأيه الخاص في فتح الفصل أو عدم فتحه دون أن يعبأ برأي الناظرة.
جاءني ذلك المفتش، وكان شيخًا، وهو في درجة أقل من درجة معلمي مدرستي، جاءني في زُهُوٍّ وكبرياء، وألقى إليَّ بخطاب المفتش الإنجليزي، وطلب مني أن أطوف المدرسة معه ليستطيع أن يعطي رأيه في فتح الفصل.
أدهشتني تلك المفاجأة التي لم أكن أنتظرها، ثم نظرت إلى الرجل في شيء من الهدوء، وقلت له: إنك لا تعرفني كما أني لا أعرفك، وليس بيننا ما يوجب أن يؤلم أحدنا الآخر، وأنا أعتبر أن في خطاب الوزارة هذا إهانة لي، ولكنها إهانة لم تصدر منك، وليس لك فيها ذنب؛ ولهذا لا أريد أن أسيء إليك، فأرجو أن تشرب قهوتك كضيف مكرم، ثم ترسل إلى الوزارة فتقول لهم إن ناظرة مدرسة المعلمات رفضت مقابلتي، وطردتني من المدرسة. قال: أوَتريدين أن أكذب؟ قلت: ليس في ذلك كذب يا سيدي، فأنا لا أسمح لك بالتدخل في شأني أو الإشراف علي؛ لأنك في داخل مدرستي، وإشرافك عليَّ إهانة، ولكنك بريء من تلك الإهانة في نظري؛ ولهذا لا أريد أن أسيء إليك، أو أطردك من عندي، ولكني أطلب منك أن تخبرهم أنني فعلت ذلك، وغرضي من هذا أن أهينهم على سوء تصرفهم.
قال: لا أستطيع أن أدعي ما لم يحصل. قلت: حسن! ثم استدعيت الخادم، وقلت له: أخرج هذا الشيخ من هنا. وكان الخادم قد سبق له التوظف في المدارس الأولية، ويعلم ما لهذا الشيخ من سلطة على ناظراتها، والخادم لا يعرف الفرق بين ناظرة المعلمات وناظرة المدرسة الأولية؛ ولهذا وقف مندهشًا ينظر إليَّ في حيرة، فقلت بغضب: قلت لك أخرج ذلك الشيخ وإلا فصلت من هنا. وعند ذلك قام الشيخ وقال: كفى سأذهب، ولكني أخشى أن يضر ذلك بمستقبلك. قلت: لا تخف شيئًا، فأنا إذا خرجت من هذه المدرسة سأجد عملًا في غيرها؛ لأني أستطيع أن أفتح مشغلًا للخياطة أو ما شاكل ذلك، ويجب أن تنظر أنت إلى مستقبلك، فأنت إذا تركت الوزارة لا أظنك تجد عملًا في غير مقاري المدافن.
قال: وما أقول لهم إذن؟ قلت: سبحان الله العظيم! يا رجل قل لهم الناظرة طردتني، ولم تقبل مني شيئًا. فخرج وكتب إلى الوزارة خطابًا عجيبًا كان إلى الغزل أقرب منه إلى الشكوى؛ إذ قال في خطابه ذلك: ذهبت إلى ناظرة مدرسة المعلمات، وما زلت ألين لها فتشتد، وأدنو فتبعد، وأستميلها فتنفر، وأحنو فتقسو. وهكذا من تلك المقابلات اللغوية الظريفة، وأخيرًا قال في آخر خطابه: ثم قلت لها ماذا أقول للوزارة؟ قالت: «يا رجل قل لهم الناظرة طردتني.»
كان هذا الخطاب حديث كتبة الوزارة مدة شهر يجعلون منه سمرًا حلوًا للتفكهة، وكان جناب المستشار مسافرًا في إنجلترا لتمضية إجازته الصيفية، فلم يستطيعوا أن يعملوا لي شيئًا.
فلما عاد من إجازته عُرض عليه الخطاب، وعرف منه أنه انتقام من ذلك المفتش فاستدعاه، وقال: لو ذهب هذا المفتش إلى مس مورسن ناظرة مدرسة معلمات بولاق فماذا كانت تصنع معه؟ قال: لا شك أنها كانت تطرده. قال المستشار: إذن نبوية على حق في طرده. وكتب على الخطاب بالحفظ.
وعُرض بعد ذلك على الوزير، وكان — المغفور له — عدلي باشا يكن، فقال مبتسمًا عندما قرأ خطاب المفتش: «الله يخيبه يعني ملقاش يتغزل إلا في نبوية موسى!» ثم أشَّر عليه بالحبر بالحفظ.
مضى بعد ذلك عام، وأقيمت لجنة امتحان كفاءة المعلمات في مدرستي، وتلك اللجنة لا شأن لناظرة المدرسة بها لأنها لجنة تقيمها وزارة المعارف لامتحان المعلمات النهائي، ولا يجوز لناظرات مدارس المعلمات أن يتدخلن فيها أو يدنون منها؛ ولهذا لم يكن يهمني من شأنها شيء، وكان رئيس اللجنة إذا زارني في مكتبي اعتبرته ضيفًا يجب إكرامه، وقد عُيِّنَ رئيسًا لها حضرة صاحب العزة أحمد بك العوامري، وعزته مهذب أديب حلو الحديث، فكان يشرفني من آنٍ لآخر في مكتبي فأرحب به كأكرم ضيف دخل ذلك المكتب.
وأسرة العوامري بك من الإسكندرية، وفجأةً نكبت الأسرة الكريمة، وتوفي والد العوامري بك، واضطر الرجل أن يرسل إلى الوزارة تلغرافًا يطلب منها تعيين غيره رئيسًا لتلك اللجنة ليقوم بالعمل مقامه، ولم يكن لدى اللجنة إلا عمل يوم واحد، فاضطرت الوزارة أن تعين ذلك الشيخ رئيسًا لتلك اللجنة بدلًا من العوامري بك، وبلغني هذا التعيين، فلم أعبأ به ولم أهتم له؛ لأن شأن تلك اللجنة لا يعنيني، وكنت في مكتبي، وإذا بذلك الشيخ يدخل عليَّ في شيء من التردد والاستحياء، فقمت له ورحبت به؛ لأني أعتبره ضيفًا، ودُهش هو لذلك التغيير في مقابلتي، وجلس صامتًا، ثم قال بصوت خافت كأنه يحدث نفسه: «والله عدية يسين سرها باتع.» قلت: وكيف ظهر لك هذا السر؟ قال: في مقابلتك لي؛ لأني لما عُينت في تلك اللجنة خشيت أن تقابليني بمقابلتك السابقة، فبت طول الليل أقرأ عدية يسين رجاء أن يهديك الله لي. فضحكت وقلت: لا شأن للعدية فيما ترى من تغيري، فالفرق بعيد بين الموقفين؛ لأنك في موقفك الأول كنت تنفذ إهانةً أرادت الوزارة أن توجهها إلي، أما اليوم فأنت رئيس لجنة لا علاقة لي بها، فإذا دخلت مكتبي، فأنت ضيف يجب عليَّ إكرامك والترحيب بمقدمك، وهكذا فعلت، أما عدية يسين فلا شأن لها على ما أعلم في تصرفي هذا. فسُرَّ الرجل، وبقي طيلة يومه يتردد على مكتبي في تناول القهوة.