ضابطة فرنسية
مُنع ذلك المفتش الإنجليزي السالف الذكر من دخول مدرستي كما مر بنا؛ فكان يتردد عليَّ كضيف ويقول لي إنه يحب مدرستي حبًّا جمًّا، وإنه يود من صميم فؤاده أن يزورها، وكان يرجو بذلك أن أظهر ميلي إلى زيارته لمدرستي، أما أنا فكنت أجيبه على عكس ما يريد فأقول له: وما الذي يعجبك في مدرستي، وليس فيها على رأيي شيء يغري، فبناؤها قديم، وناظرتها كما تعلم أنت لا تسر الأذن ولا العين. فكان يقول لي إنه يرى مدرستي على عكس ما أصفها أنا. وزارني يومًا مع حضرة صاحب العزة المرحوم كيلاني بك مفتش التعليم الأولي بالإسكندرية في ذلك الوقت، وبقيا يتحدثان في مكتبي مدةً، فقال المفتش الإنجليزي أثناء حديثه مع المرحوم كيلاني بك: لقد غاظني ذلك الناظر، وكدت أضربه عندما عاينت العنكبوت يعشش في بعض غرف مدرسته، وأنت تعلم يا كيلاني بك أني أنا المفتش الإخصائي للعنكبوت. فضحكت أنا، وقلت: لماذا تضربه ما دمت أنت المفتش الإخصائي للعنكبوت، والرجل حريص على وجوده عنده ليجد لك عملًا، فإن العنكبوت إذا زال من جميع المدارس وأنت الإخصائي في التفتيش عليه أصبح لا معنى لوجودك في الوزارة، فأنت إذن مدين لأمثال هؤلاء النظار الذين يحتفظون لك بعملك المحبوب، وهو التفتيش على العنكبوت، وكان عليك متى عرفت ما أقوله أن تشكر الرجل لا أن تضربه. فضحك المفتش الإنجليزي، وقال: سامحك الله؛ لأنك دائمًا مازحة طروبة.
وما زال يتودد إليَّ بمثل تلك الزيارات حتى لا أشكو إلى المستشار مرةً أخرى، وحتى يتمكن من زيارة مدرستي، وفي النهاية تم له ما أراد، وسمح له المستشار بزيارة مدرستي، وفي أول زيارة زارها للمدرسة بعد ذلك الغياب أخذ يطريني، ويلهج بمدحي، ويمدح كل ما يراه، وبعد أن زار المدرسة وأعجب بها دخلنا درسًا في التربية العملية.
وكان درس انتقاد عام، وألقت الطالبة درسها، وقد جلس المعلمون، وأنا في وسطهم، وهو على يساري، فوضع ساقًا على ساق، وكنت في ذلك الدرس دائمًا أجلس جلسةً أدبيةً حتى أكون مثالًا حسنًا لطالباتي، ولكن ذلك المفتش جلس إلى جانبي، وقد وضع ساقًا على ساق، فحاكيته في جلستي على كره مني لذلك، وأردت بذلك أن ألفته إلى ما يجب عليه في آداب الجلوس.
وفجأةً اعتدل في جلسته، ورفع ساقه من على الآخر، وجلس في أدب واحتشام، وعدت أنا إلى جلستي المعتادة، فلما انتهى الدرس سألت التلميذات كعادتي واحدةً بعد أخرى عن رأيهم في الدرس، ثم انتقلت إلى سؤال المعلمين، وكان المعلمون قد اعتادوا أن يجيبوا على أسئلتي وهم جلوس، فلما سألت أحدهم أمام المفتش، وقف للإجابة فامتعضت، وقلت له: لقد اعتدت يا فلان أن تجيب على الأسئلة وأنت جالس، فما الذي حدا بك إلى الوقوف وتغيير ما اعتدناه، مع أني أريد دائمًا أن تكون دروسنا في حضور المفتشين، أو في غير حضورهم، على حالتها العادية لا تغيير فيها؟ قال: لقد رأيت ذلك أبلغ في تأدية ما أريد من المعاني. قلت: حسنًا، فعليكم إذن أن تتبعوه من الآن.
وبعد أن انتهيت من سؤال المعلمين سألت المفتش، وأدهشني أن وقف وأجاب، ولكن لم يقف ليجيب على سؤالي فحسب، بل وقف ليطريني ويطري مدرستي أمام الطالبات، ويقول إن هذا الدرس أفضل درس رآه في حياته من دروس النقد العام في التربية العملية، وهكذا اصطلحت مع أحد خصومي الألداء، ولكن الحقد لم يفارق قلب الرجل، وكان يسعى إلى مناوأتي جهد استطاعته.
وخيل إليه أنه لو عيَّن بمدرستي ضابطةً أجنبيةً لاختلفت معي، وأظهرت للوزارة معايبي، وكان في ذلك ما يمكِّن الوزارة من الإساءة إلي، ويظهر أنه لم يتيسر له الحصول على ضابطة إنجليزية فعيَّن لي ضابطةً فرنسيةً.
وكانت سيدةً فرنسيةً طيبة القلب حسنة الأخلاق، ولكنها تجهل كل شيء بالمدارس، فكنت أحسن معاملتها، وكنت أقوم أنا بالضبط بدلًا عنها؛ لأنها لا تعرف عن أمور الضبط شيئًا، وفرضت أن الوزارة لم تعين ضابطةً، وأني كعادتي أتفقد كل أمور المدرسة من نظافة وتعليم وخلافه، وكانت السيدة تشعر بذلك، وتشكرني عليه، وبعد أن قضت بالمدرسة ثلاثة شهور زارنا صديقي المفتش الإنجليزي المعروف، وكان أول همه أن يختلي بها، وأن يسألها عن أحوالها، فقالت: إنها ناظرة نشيطة طيبة القلب تقوم بعملي وعملها؛ لأني لا أعرف في ذلك العمل شيئًا، وما كاد يسمع منها ذلك حتى انصرف عنها، وقد خاب أمله فيما دبره.
عرفت من تصرفاته بعد ذلك أنه يريد مناوأتي إذا استطاع، فكنت لا أعبأ به، وشاء له الطمع وحب المال أن يؤلف كتاب مطالعة لمدارس المعلمات الأولية باللغة العربية، وكنت غير راضية عن هذا الكتاب، وإن كان قد استعان في تأليفه ببعض المصريين أو المشايخ، ولكن عبارات الكتاب أقرب إلى اللغة الإنجليزية منها إلى اللغة العربية، ودخل يومًا درسًا من دروس المطالعة، فسألني في شيء من الزهو عن رأيي في كتابه، وكان يعتقد أني سأمدحه وأطريه، فدهش عندما أجبته: إنه ليس بكتاب عربي، قال: كيف ذلك؟ فأشرت إلى جملة فيه ابتدأها بقوله: أنا أتكلم، أو ما شابه ذلك فأشرت إليها، وقلت: ليس هذا بالأسلوب العربي الصحيح، فغاظه ذلك، وقال للأستاذ المعلم، وكان من دار العلوم، ولا يعرف شيئًا في اللغة الإنجليزية: أفي هذه الجملة خطأ يا أستاذ؟ وأشار إليها، قال الأستاذ: لا. فقلت: إنك تقول لا على أنه لم ينصب في تلك الجملة الفاعل، ولم يرفع المفعول، ولكن هل هذا الوضع من اللغة العربية في شيء؟ فخجل الرجل، وعرف أني أعارض في مدح الكتاب، وقال في همس: لم أكن أعرف أنكما تتناقشان في ذلك.
ودخل مرةً على أستاذ من دار العلوم كان متين الأخلاق كثير الفضائل، فلم يعجبه، وقال: إنه قديم في أسلوبه؛ لأنه لم يتبع الإرشادات التي وضعتها الوزارة في تعليم الإملاء من كتابة الكلمات الجديدة على السبورة قبل الابتداء في درس الإملاء. قلت: إن ذلك لا يتناسب واللغة العربية. قال: إني من المستشرقين. قلت: نعم، أما أنا فمن العرب، ولا يعرف المستشرق في لغتنا ما نعرف نحن من أن إملاءكم لا ضابط له، فرائدنا فيها النظر والسماع، وضربت له مثلًا بكلمات كثيرة تُنطق بغير ما تكتب به، أو تنطق نطقًا لا يتناسب مع كتابتها، أما في اللغة العربية فإملاؤنا قياس تضبطه القواعد، فإذا نحن كتبنا على السبورة كلمة «نداءَكم»، وهي مفتوحة أوهمنا الطلبة أن كلمة نداء بعدها حرف أو حرفان تُكتب مفردةً رغم أننا لو قرأناها بالضمة لكانت «نداؤُكم» بالواو، ولو قرأناها بالكسرة لكانت «ندائِكم» بالياء، فليس لنا بعد هذا أن نقول للتلميذ انظر إلى الكلمة، بل نقول له اسمع، وتبين النطق بها، إذن يجب علينا في إملائنا أن نذكر التلميذ بقواعد الإملاء التي قاعدة فيها، وأن نأمر بأن يتبين النطق ليكتب الكلمة صحيحة، واضطر المستشرق أخيرًا أن يوافقني على هذا الرأي، وأن يعترف أن ما كتبه من الإرشادات لمعلمي اللغة العربية كان خطأً.