مناوآت
ابتدأت المناوآت تحت إشراف ذلك المفتش، فكان في كل يوم جديد من الوزارة، وكنت أسير في عملي بحذر متناهٍ، ولا أعبأ بما يختلقون، وكان كل هم كبار الوزارة أن يرضوا ذلك المفتش الإنجليزي على حسابي؛ فكانوا يتخيرون لي المعلمين الذين سبق لهم أن تنازعوا مع نظارهم رجاء أن يحصل بيني وبينهم من الخلاف ما يجيز للوزارة التدخل في شئون مدرستي، وكنت لشدة حذري وسعة صدري مع المعلمين أتجنب كل إشكال من هذا القبيل، وكانت عادتي أن لا أتألم إلا من إهانة وجهت إليَّ ممن هو أعلى مني، أما مرءوسي فقد كنت أعتقد أن تسامحي معهم حلم ونبل، فلا أتألم منهم مهما كانت تصرفاتهم، وكانوا بمعاملتي اللينة يطيعونني أكثر مما يطيع المدرسون ناظرًا عتيًّا مستبدًّا، وكان بالوزارة كما قدمت عظيم يكرهني، فكان إذا سمع بمعلم اختلف مع ناظره نقله إلي، وحدث أن مرض معلم بمرض النورستانيا فنُقل في عام واحد إلى أربع مدارس، وفي كل مرة ينقل من المدرسة بعد أن يضرب ناظرها، وسمع بحكاية ذلك العظيم فسُر سرورًا يتناسب مع عظمته، وأمر بنقله إلى مدرستي بالإسكندرية.
نُقل هذا المدرس إليَّ فجأةً دون صفارة إنذار؛ فدخل مكتبي لأول مرة، وأخذ يشكو من الوزارة ويتململ؛ لأنها نقلته في عام واحد خمس مرات، وقال إنه أتى وحده، وترك أسرته في القاهرة خشية أن تنقله الوزارة للمرة السادسة، فطيبت خاطره، وقلت: إنه من المنظور أن لا تنقل، وإني أنا شخصيًّا سررت بنقله، وإني سأعمل كل ما يرضيه. قال: نحن في الورديان؛ أي في بقعة نائية بعيدة عن السوق، ولا أدري كيف أتدبر غذائي اليوم. قلت: لا بأس، يمكنك أن تدفع ثمن الغذاء للمتعهد، وتصرفه لك المدرسة من اليوم. قال: ولكنك لم تستأذني الوزارة في ذلك. وكان قانون المدارس يقضي بأن يستأذن الناظر الوزارة في السماح للمعلمين بالغذاء بالمدرسة إذا طلبوا ذلك على شرط أن يدفعوا الثمن، قلت: لا بأس فإن الوزارة قد سمحت لزملائك بالأكل، ولا شك أنها ستسمح لك به، ولا غبار على عملنا إذا نحن صرفنا لك الأكل من اليوم إلى أن يأتينا تصريح الوزارة ما دمت أنت مضطرًا إلى ذلك لبعد أسرتك عن المدينة. فشكرني وخرج، ولكني لاحظت أنه غير عادي، وأن عينيه حمراوان، فتخوفت منه، وقد شاء سوء الحظ أو حسنه أن أنسى مسألة غذائه، فلم أتكلم مع المتعهد في شأنها، ولم أتذكرها إلا بعد أن دق جرس الغذاء، وهنا خشيت إذا لم يرسل إليه غذاؤه أن يثور، وهو — والحمد لله — ثائر من نفسه، خشيت مغبة غضبه، فلم أرَ أمامي إلا أن أصرف له الغذاء من منزلي، فأمرت الخادم أن يحضر غذاءه من منزلي الخاص، وما كادت تقدم الأكل إليه حتى ثار وتهيج، وقال: كيف استطعت واستطاعت ناظرتك سرقة هذا الأكل من المدرسة بدون إذن الوزارة؟! ثار على المرأة حتى كاد يضربها، فهرعت إليَّ ملتاعةً، وقصت علي قصتها، فذهبت لأرى الخبر بنفسي، فرأيته ثائرًا متهيجًا، يسب ويشتم في مدرسة تسرق أكل الوزارة علانيةً، وما كاد يقع بصره عليَّ حتى قال: لا بد من أن أقتادك إلى النيابة.
فقلت في هدوء: ولِمَ ذلك يا سيدي؟
قال: لأنك سرقت لي أكل الحكومة بدون إذنها. فضحكت، وقلت له: وإذا كان هذا الأكل من منزلي أنا الخاص، فماذا يكون موقفك؟ فقال: أقتادك إلى النيابة أيضًا كي أردَّ شرفي؛ لأنك اعتبرتني متسولًا. قلت: ولمَ تتصور هذا؟ ولمَ لا أكون قد اعتبرتك ضيفًا كريمًا، فأردت الاحتفاء بك؟ قال: إني لا أعرفك. قلت: لقد تعارفنا اليوم يا سيدي، وعملنا معًا.
وهدأ الرجل قليلًا كأنه يفكر فيما يصنع، وأسرعت أنا، وأشرت إلى الخادمة بأخذ الطعام من أمامه، وهو جسم الجريمة حسب اعتقاده، فهدأت ثائرته، وكأنه نسي الموضوع، وعلمت من ذلك أنه غير عادي، وراعني شدة احمرار عيونه، وتأكدت أنه إما أن يكون شاربًا أو مريضًا، وكان عندي معلم طيب السيرة من دار العلوم، كنت أعتمد عليه لمتانة أخلاقه، وكان اسمه «الشيخ حاتم» فاستدعيته، وطلبت منه أن يشم رائحة ذلك الزميل، وأن يخبرني إذا كان هو في حالة سكر، وعاد الشيخ حاتم، فقال: إن الرجل غير سكران، وأنا أعرفه من قبل ذلك. قلت: إذن هو مريض. قال: قد يكون ذلك، فإنه غير عادي في كلامه.
عرفت من تلك الظروف أن الوزارة أرادت أن تنقل إليَّ رجلًا متهيجًا ليناوئني، فكتبت إلى ذلك العظيم في الحال أقول له: إن الرجل الذي نقلتموه إلى مدرستي مريض، وأرجو أن لا تظن أني تشاجرت معه، أو حصل بيني وبينه أي نزاع، الرجل مريض، وأنا طبعًا أسامحه في كل ما يقول لمرضه، ولكني سأحملك تبعة كل ما يحصل من وجود رجل مختل الشعور في مدرسة بنات، وأنتظرك، فإذا لم تنقله في بحر أسبوع كان عليَّ أن ألجأ إلى من هو أكبر منك.
عجب العظيم من خطابي هذا، وأشفعته بخطاب آخر، وكان للرجل في كل يوم حادثة أو حادثتان؛ مررت على باب فصله يومًا، فترك الفصل، وخرج في إثري، وقال: إنه لا يقبل أن يكون في مدرسة لا أمانة فيها، قلت: وما هي الخيانة التي تبينتها حضرتكم؟ قال: عدم محافظتكم على مواعيد الحصص بالضبط، فقد انتهى وقت الدرس، ولم يدق الجرس. قلت: إذا شئت فاترك الفصل. قال: لا … لا أقبل ذلك، ويجب أن يدق الجرس الآن. فتركته، وسرت في طريقي، وفي اليوم التالي دخل مكتبي ثائرًا متهيجًا يقول: إنكم مثال الخيانة في تلك المدرسة، قلت: ولِمَ ذلك يا سيدي؟ فألقى أمامي بكتاب مطالعة كان لبنت تركت المدرسة بعد أن كتبت اسمها عليه، وقد أعطاه له الكاتب بدلًا من أن يصرف له كتابًا جديدًا، وقال: هذا الكتاب لا تملك المدرسة حق استعماله، واسم صاحبه مكتوب عليه. قلت: لقد تركت تلك الطالبة المدرسة، وتركت الكتاب، ولم تسأل عنه، ولما كانت إدارة المدرسة لا تعرف الخيانة، فهي تستعمله في صالح التعليم. قال: إن هذا العمل خيانة في نظري. قلت: وماذا تريد؟ قال: أريد أن يرسل هذا الكتاب لصاحبته. قلت: لا نعرف عنوانها. قال: يجب أن تبحثوا عنه. فرأيت أن مناقشته ضياع لوقتي، فأظهرت شيئًا من الغضب، وقلت: اترك هذا الكتاب، ولا تدخل مكتبي مرةً أخرى. قال: أغضبت حضرتك؟ وظهر عليه شيء من التعقل، وهكذا السكران أو المجنون إذا رأى شدةً معقولةً ارتدع، فقلت له: والله لقد ضايقني حضرتك وحضرة الوزارة، وكل تلك التصرفات، ورجائي أن لا تدخل مكتبي مرةً أخرى. قال: سمعًا وطاعةً.
وبعد يومين من هذا التاريخ نُقل إلى مدرسة محرم بك الابتدائية بناءً على إلحاحي وخطاباتي التي كانت تتوالى على ذلك الكبير، ولم يمكث في مدرسة محرم بك يومين حتى تشاجر مع ناظرها وضربه، وأبلغ الخبر إلى الوزارة فأحالته على القومسيون الطبي، فقرر أنه مريض مختل الشعور، وأخذ ذلك العظيم يقول في مكتبه: عُرض ذلك المعلم على خمسة من نظارنا الرجال فلم يعرفوه، وتشاجروا معه، وبمجرد ما وقع نظر نبوية موسى عليه، قالت: إنه مريض، ويجب علاجه، تالله إنها لساحرة.
حصل ذلك في سنة ١٩١٥، وانقطعت عني أخبار ذلك المعلم، فلم أعلم عنه شيئًا، وفي سنة ١٩٣٦ كنت عند سكرتير صاحب السعادة العشماوي بك، وإذا بأفندي يقبل عليَّ ويسلم بلهفة، ويقول لي: لم يساعدني في نكبتي من النظار إلا أنتِ. وفي الحال تذكرت ذلك الشيخ المريض، وقلت: «لعلك فلان؟» فقال: نعم أنا هو، ولا أزال أحفظ لكِ ذلك الجميل.