تحريض مستمر
هكذا كنت لا تشرق الشمس عليَّ إلا استقبلت حادثًا جديدًا من مشاغبات ذلك المفتش الإنجليزي القوي العنيد، ولا أدري كيف أنتصر عليه مع ضعفي وقوته، وقد كان يساعده موظف عظيم من موظفي وزارة المعارف، فما كان يُنقل إلى مدرستي معلم إلا قابله ذلك الموظف العظيم، وودعه بحرارة قائلًا له: إني أعلم يا فلان أني مرسلك اليوم إلى جهنم، ولكن ما الحيلة ولا بد من تعيين مدرسين في تلك المدرسة؟ على أني مستعد كل الاستعداد لنقلك إذا أنت شكوت من سوء معاملة ما.
ولا شك أن المعلم كان يكره النقل من القاهرة إلى الإسكندرية، وما دام ذلك الرئيس الخطير قد وعده بالنقل إذا هو اشتكى، فكان من المعقول أن لا يقيم في المدرسة أكثر من أسبوع أو اثنين حتى يشكو أو يتشاكى، وكنت أجهل ذلك بالطبع، ولكن الظروف كانت توقفني على حقيقة ما يعملون مصادفةً، ونُقل إلى مدرستي معلم اسمه «الشيخ محمد سعد»، وكان — رحمه الله — رجلًا تقيًّا مجدًّا في عمله مخلصًا له، وكان مستقيمًا في مسلكه إلى حد الخشونة، فكرهته الطالبات لذلك التشدد، وأردن أن يوقعن به فأبلغنني أن الشيخ سعد قال لهن كلمةً منبوذةً لا يجوز لمعلم أن يقولها، ولما كنت أعرف في المرحوم الكمال والصدق والاستقامة لم أستطع تصديق ما قيل لي، ولكني دهشت مع ذلك من إجماع البنات عليه، فكنت أسألهن واحدةً واحدةً، وهن مصممات على ما قلن لي من أن الأستاذ قال لهن كلمةً لا يليق به أن يقولها، وأخيرًا طلبت منهن أن يقلن لي تلك الكلمة، وبعد إلحاح قلن إنه قال: «فواحش.» وسألت: «في أي درس قالها؟» فقلن لي: «في درس الدين.» وهنا طلبت كراسة من كراساتهن في الدين فوجدت مكتوبًا فيها تلك الآية الكريمة: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ.
ولم يكن المسكين هو الذي يختار تلك الآيات، بل كانت الوزارة هي التي تختارها، وهنا أعدت السؤال على الطالبات، فعلمت أن الكلمة التي قالت الطالبات إنه قالها هي المذكورة في الآية؛ أي إنه قرأ الآية.
أدهشني تفنن الطالبات في الاتهام إلى ذلك الحد، وسررت جدًّا من أن فِراستي لم تخب في ذلك الأستاذ الفاضل فأرسلت إليه، وقلت له: «هل صحيح أن حضرتك قلت أمام الطالبات كلمة فواحش؟» فثار الرجل وقال: «إني لم أصل إلى هذا الحد من الانحطاط، ولقد قال لي فلان باشا قبل نقلي إلى هنا إني مقدم على جهنم، ولقد صدق، وأنا أطلب نقلي اليوم.» فضحكت في شيء من الهدوء، وقلت له: دعنا مما قاله فلان، وأرجوك أن تجيب على سؤالي فقط: «هل قلت تلك الكلمة أم لم تقل؟» قال: «بالطبع لم أقلها، ولن أبقى في مدرسة أُسأل فيها عن ذلك.» قلت: «إنك واهم يا سيدي، فالمدرسة لم تظلمك، ولم تنكر عليك فضلك واستقامتك، وما أردت بسؤالي هذا إلا لألفتك إلى الوسط الذي تعيش فيه لتحترس منه، أما الكلمة يا سيدي فإنك قد قلتها وكتبتها أيضًا على السبورة، وأمرت الطالبات بحفظها، وها هي كراسة الدين التي أمليتها أنت على الطالبات.» وأظهرت له الكراسة فدهش الرجل، وأسف لما بدر منه. قلت: لا بأس إنك لم تسئ إليَّ بما قلت، بل أحسنت فقد عرفتني بماذا يوصون المعلم عند نقله إلي، وأظن يا أستاذ أني انتصرت عليهم في كل أدواري، وسأنتصر إن شاء الله، ولست أنا ممن يتهمون الناس جذافًا، أو يسمعون فيهم كذب القول، بل إني قد تحريت الوصول إلى الحقيقة في مسألتك هذه حتى وصلت إليها قبل أن أعرض الأمر عليك، وما عرضته عليك لأتهمك بشيء، بل لأوجه نظرك إلى الخطر الذي يحدق بمدرس البنات، خصوصًا إذا كان مستقيمًا متمسكًا بأصول دينه بعيدًا عن ملاينة الطالبات، فأنت في نظري اليوم أفضل مما كنت بالأمس.
وبقي الرجل عندي إلى أن خرجت من المدرسة، ونحن على أحسن حال من التفاهم، وحسن المعاشرة.