إضراب إجباري
أمرتنا الوزارة بمسامحة المدرسة كما قدمت، أو بالإضراب بعبارة أخرى، وكانت المواصلات في ذلك الوقت قد قُطعت ثم أعيدت، وأمرت الحكومة بأن لا يسافر أحد في قطارات السكك الحديد إلا بتصريح من الحكومة، وذهبنا إلى المحافظة، وكتبت للطالبات وللمعلمات التصاريح ولي أيضًا، وكانت والدتي معي فرفض الضابط الإنجليزي أن يصرح لها بالسفر، وأدهشني هذا الرفض فأخذت أناقشه في معنى رفضه هذا، وكيف أستطيع أنا البقاء في الإسكندرية بعد إغلاق المدرسة، وكيف تستطيع والدتي البقاء وحدها، وقد كانت تقيم معي في بناء المدرسة نفسه بأمر من الوزارة؟
وبعد جهد استطعت أن أقنعه بوجهة نظري، ويظهر أن الرجل لم يكن يعلم في ذلك الحين أن الفتاة المصرية كانت تستطيع التعبير عما تريده باللغة الإنجليزية، فأدهشته مناقشتي، وقال إنه سيساعدني عند الحكمدار، أو نائب الحكمدار لا أدري، وكان إذ ذاك المرحوم «أنجرام بك»، وقبل أن يذهب إلى الحكمدار سألني في شيء من الزهو: ألا ترين أنه ليس من صالح مصر أن تستقل، وأن من الخير لها أن تبقى تحت سيطرتنا؟ قلت: إنك يا سيدي تكلفني الإجابة على سؤال لو صدقتُ فيه لأُسيء إليك، فأنتم المستعمرون بهذه الأسئلة تعلموننا الكذب والجبن، وليس من المعقول أن يفضل أحد الاستعباد على الحرية؛ فالوحوش في الصحراء، والطيور على الأشجار تفضل حريتها عن أن تحبس في أقفاص من الذهب أو في حدائق غنَّاء مهما عوملت بالحسنى، ونحن بشر مثلكم، فكيف نرضى أن تقودونا، وكيف نعترف بذلك؟ إنك لو سألتني التفضيل بين استعمار إنجلترا وفرنسا لما ترددت في الإجابة عليك، بل كنت أؤكد أننا نفضل الإنجليز على كل من عداهم، أما أن تطلب مني المفاضلة بين حريتنا واستعبادنا فهذا هو الأمر المدهش، ويكفي أن يكون في سؤالك هذا ما يظهر خطر الاستعمار، فإنكم بمثل هذه الأسئلة تسلبوننا أخلاقنا وفضائلنا، وتعلموننا الكذب والخداع، وهما شر الصفات. قال: أوَتظنين أن فيكم الكفاية لحكم أنفسكم بأنفسكم؟ قلت: ولِمَ لا يكون ذلك؟ ألسنا بشرًا مثلكم؟ إن فينا من الذكاء ما قد يعوزكم أنتم الإنجليز، فمنا من يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية كما يتكلمها أهلها، أما أنتم فلم أرَ منكم من أتقن لغةً أجنبيةً عن بلاده. قال: صدقت أنت على شيء من الحق في ذلك.
ثم تركني، ودخل على المرحوم «أنجرام بك»، ويظهر أنه روى له ما جرى بيني وبينه من المناقشة، فأراد المرحوم أن يراني، واستدعاني إلى مكتبه، فلما دخلت عليه حياني، وكان لطيفًا، ثم جلس ينظر إلي، وأخيرًا قال لي: لِمَ طلبت مقابلتي؟ قلت: أنا لم أطلب ذلك بل ولم أكن أعرف أن في هذه الغرفة ضابطًا عظيمًا اسمه أنجرام بك، ولكنهم قالوا لي إن أنجرام بك يريد مقابلتي. قال: ألم تطلبي ترحيل والدتك؟ قلت: نعم طلبت هذا. قال: ولكني لا أستطيع ترحيلها لأنها ليست بمعلمة، ولا طالبة. قلت: ولكنها امرأة تريد أن تصل إلى منزلها، فالعطف عليها لا يقل عن العطف على أي معلمة أو طالبة. فابتسم وقال: ولكني لا أستطيع ذلك العطف. قلت: ولِمَ طلبت مقابلتي إذن؟ قال: لأقول لكِ إني لا أستطيع ترحيل والدتك. قلت: أما كان خيرًا لي ولك أن ترسل إليَّ بذلك النبأ المحزن، فلا تؤلمني بسماعه منك، ولا تؤلم نفسك باحتجاجي؟ فضحك ضحكةً عاليةً، وقال: لا ألم، فقد أمرت لها بالتصريح. وهنا شكرت له ما صنع، وخرجت.