إرهاق واستفزاز
لم يصلوا إلى ما أرادوه من اتهامي بتحريض الطالبات على الإضراب؛ لأن المدرسة خيبت ظنهم، ولم تضرب بتاتًا، فعمدوا إلى استفزازي وإرهاقي بكل الوسائل، وكانوا يعلمون أني أحرص على إبعاد المعلمين عن المعلمات، حتى إني أعددت لمعلمي مدرسة المعلمات غرفةً لها باب يفتح على الشارع مباشرةً، وبجانبها دورة مياه؛ فهي لا تتصل بالمدرسة بأية حال.
أما المدرسة الملحقة فقد كان جميع معلماتها سيدات، وكانت هي داخل الفناء، فلم يكن يدخلها رجل، وأرادوا مضايقتي فعينوا لها ناظرًا، وكان شابًّا لا بأس بجماله، أنيق الملبس، فكان عليه أن يبقى طول النهار بالمدرسة الملحقة؛ أي وسط معلماته ومعلمات مدرسة المعلمات أيضًا؛ لأن معلمات التربية كن يذهبن مع طالباتهن إلى التدريس بالملحقة، فكان هو يستطيع أن يرى أو يجالس كل من في المدرسة من معلمات أو طالبات على ما كان عليه من شباب وجمال، فساءني ذلك، وأرسلت أطلب من وزارة المعارف نقله، فلم تقبل، ثم سألتني الوزارة عن سبب النقل، وأرادت بذلك أن توقعني مع الناظر، فقلت: إن الرجل كريم الأخلاق، ولا عيب فيه إلا أنه رجل، أو بعبارة أخرى شاب جميل، وما كان للوزارة أن تضع يوسف بين الفتيات، وهي تعلم أن يوسف على فضائله وعفته قد ذهب جماله بعقول السيدات، فقالت الوزارة: إن السبب غير معقول، وأخيرًا بلغني أن هناك مركز ناظر مدرسة خاليًا، فنصحت للرجل أن يطلب تعيينه فيه، وقلت له: إنك إذا لم تظفر بذلك المركز فقد تضيع عليك الفرصة؛ لأني سأعمل على إخراجك من هنا مهما كانت الظروف، وقد يضطرون إلى إخراجك من عندي حسب طلبي في وقت لا يجدون فيه مركز ناظر خاليًا من صاحبه، فاقبل نصيحتي، وتشدَّد في طلب النقل.
ولكنهم أفهموه أني أريد به السوء، وأني لا أستطيع نقله مهما فعلت، وتصادف بعد ذلك مباشرةً أن حدد يوم لزيارة حضرة صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد أيام كان سلطانًا، وجاء رجال وزارة المعارف قبل الزيارة ليشرفوا على الترتيبات التي اتخذت، وكان في مقدمتهم المرحوم مغربي باشا، فقلت له: اعلم يا باشا أنني لا أستطيع أن أفهم معنى إصرارك على إبقاء شاب جميل بين فتياتنا طيلة النهار، وهو — والحمد لله — لا عمل له؛ لأنه ناظر، ولا أظن أن غيري يفهم ذلك، وسأعرض المسألة على حضرة صاحب العظمة عند تشريفه المدرسة لأرى إذا كنت أنا على حق أم الحق في جانبكم، وسترى سعادتك أن عظمة السلطان سيخرجه أمامك رغم كل اعتراض، ونظر مغربي باشا إلى بعض من كانوا معه، وقال: «إنها تفعل ذلك، وأكثر منه، فاستدعوا لي ذلك الناظر.» ولما حضر، وحياه قال: اسمع يا أستاذ، إننا قد قررنا نقلك اليوم من هذه المدرسة. قال: إلى أين؟ قال مغربي باشا باسمًا: لقد قررنا نقلك من هنا، أما إلى أين فهذا ما لا نعرفه الآن.
وخرج الرجل يتعثر في أذياله، ويندب سوء حظه، ويندم على عدم إطاعتي فيما رجوته فيه، ثم عُين معلمًا في مدرسة «إدكو»، ومن غريب المصادفات أنه لم يتمتع بعدها بوظيفة ناظر، وكان يرجوني كثيرًا أن أتوسط له، وكنت أجيب رجاءه، وأفعل ما أستطيع دون جدوى، وهكذا ناله من الضرر أكثر مما نالني.