كيف كانت خطتي في التدريس؟
أرى وقد نُقِلْتُ إلى التفتيش أن أذكر لقراء ذكرياتي كيف كانت خطتي في التدريس قبل أن أعمل في التفتيش.
أردت أن أجرب تدريس الحساب بنفسي لأرى نتيجة الطالبات إذا اتبعت المعلمة معهن التفكير المنطقي السليم، فدرست الحساب للسنة الأولى، وكنت آخذهن بالمنطق لا بالقواعد، فقلت لهن: إن المعاملات في الدنيا لا تخرج عن حالتين؛ إما أن يضم الإنسان شيئًا إلى سامعه، وهذا يسمى «جمعًا»، وإما أن يعطي غيره شيئًا مما معه، وهذا يسمى «طرحًا»، وليس في الحساب إلا هاتان العمليتان أخذ وعطاء، ولكننا نسمي جمع الأعداد المتشابهة ضربًا، وبدلًا من أن أجمع ٥ على نفسها ست مرات أضرب ٥ × ٦، كما نسمي طرح الأعداد المتشابهة من عدد قسمة، فإذا قسمنا ٣٠٠ على ٢٥ فنحن نطرح ٢٥ من ٣٠٠، ونبحث عن كم مرة يمكن طرح ٢٥ منه، فخارج القسمة وهو ١٢ معناه أننا استطعنا أن نطرح ٢٥ من العدد ٣٠٠ اثنتي عشرة مرةً، وهكذا سرت مع الطالبات بطرق غير مستعملة لا أرى أن أشرحها في ذكرياتي الآن، وترتكز كلها على المنطق السليم والتفكير الصحيح، فكان من نتيجة ذلك أني عندما وصلت بطالبات السنة الأولى إلى السنة الثالثة كن أقوى تفكيرًا، وأدق منطقًا في الحساب من طلاب البكالوريا.
وتصادف أن كان من بنات الإسكندرية نفسها سبع طالبات في مدرسة بولاق رسبن في امتحان الكفاءة، فنقلتهن الوزارة إلى مدرستي بالورديان، وكانت هذه أول سنة فتحت فيها المدرسة السنة الثالثة، فلم يستطعن السير مع طالباتي لا في الحساب، ولا في اللغة العربية، أما في الجغرافيا والتاريخ فكن يفهمنها حسب اعتقادهن كما يفهمها طالباتي؛ لأن درس التاريخ لا يرتكز كثيرًا على المعلومات السابقة، فقد تدرس نابليون بنجاح دون أن يعرف الطلاب تاريخ جان دارك.
أما الحساب واللغة العربية فمجهود الطالبات فيهما يرتكز على المعلومات السابقة، وكيفية فهمهن لأصول المادتين؛ ولهذا تضايقت الطالبات السبع، وظنن أنهن لا يستطعن السير مع طالباتي في الحساب واللغة العربية، كما ظنن أنهن أقوى من طالباتي في الجغرافيا والتاريخ، فكتبن إلى الوزارة يتظلمن لها، ويقلن إن طالبات مدرستي قد أنهين مقرر السنة الثالثة في الحساب في السنة الثانية، كما أنهن يقرأن في اللغة العربية في كتاب قواعد اللغة مع أن المقرر عليهن هو الجزء الثالث من الدروس النحوية.
وشاءت قدرة أعدائي أن يقوموا ويقعدوا لهذا الخبر، وأن يحرضوا جناب المستشار على إرسال مفتشة إنجليزية لتحقيق هذا الأمر، وجاءت المس بيلي، ومعها المرحوم كيلاني بك، وكان مفتشًا للتعليم الأولي بالإسكندرية، ولم يخبراني بشيء، ولكنه جلس معي ودخلت هي الفصول، وبعد ساعة أو أكثر عادت الآنسة بيلي، وهي تقول: لقد تحققت من صحة شكوى الطالبات السبع المنقولات من القاهرة إلى هنا؛ لأني رأيت في درج إحدى الطالبات كتاب قواعد اللغة العربية مفتوحًا، مما يدل على أنها تستعمله، كما عرفت من الطالبات أنفسهن أنهن أنهين مقرر السنة الثالثة في الحساب، وهن في الثانية. وأدهشني ذلك القول منها فقلت لها: ولماذا تكلفين نفسك استنباط أشياء كان في وسعك معرفتها مني أنا شخصيًّا لو تكرمت بسؤالي عنها؟ فطالبات مدرستي قد أنهين مقرر السنة الثالثة في السنة الثانية، ولا ريب في هذا، وهن أيضًا يقرأن في كتاب قواعد اللغة العربية، ولو أنك شرفت المدرسة في الحصة الأولى لوجدت الكتاب في أيديهن.
قالت: ولِمَ إذن تخالفين منهج التدريس؟
قلت: لم أخالفه يا سيدتي؛ لأن المنهج نص على تعليمهن الاشتغال والندبة، وجموع التكسير، وغير ذلك من الأبواب التي لا وجود لها في الكتاب الثالث الذي وزعته الوزارة عليهن، وقد رأيت بدلًا من ضياع الوقت في إملاء تلك الأبواب عليهن، ونحن في عصر السرعة أن يشترين كتاب قواعد اللغة، والكتاب ليس من تأليفي، ولا من تأليف والدي، حتى يظن أن لي غرضًا شخصيًّا من أن تشتريه الطالبات، بل هو كتاب تبيعه وزارة المعارف، فالربح عائد إليها، وغرضي هو عدم ضياع أوقات الطالبات فيما لا يفيد. قالت: ولكنك خالفت المنهج. قلت: وكيف ذلك؟ قالت: لأن المنهج نص على أن تكون هذه الأبواب حسب ما في الكتاب الثالث. قلت: إن هذه الأبواب يا سيدتي غير موجودة في الكتاب الثالث، فكيف نعطيها حسب ما في الكتاب الثالث؟ إنه كلام لا قيمة له ولا معنى، ولو أنك رجعت إلى مذكرات طالبات معلمات بولاق لوجدت أن المعلم قد أملى عليهن تلك الأبواب من كتاب قواعد اللغة بالحرف الواحد. قالت: كلا، إنه يبسطها إلى حد الكتاب الثالث. قلت: إني قد علمتك اللغة العربية يا سيدتي، ومع ذلك فيظهر لي الآن أنك تعرفين فيها أكثر مما أعرفه أنا، فهل لكِ أن تبسطي هذه الأبواب، أو تأمري معلمًا بتبسيطها لأتعلم منك ما تريدين؟ قالت: وما رأيك في الحساب، وقد خالفت فيه المنهج صراحةً؟ قلت: كلا، لم أخالفه، فإن المنهج قد ذكر أبوابًا في السنة الأولى، أو في السنة الثانية، فعلمت كل ما ذكر، وزدت عليه، فأنا لم أخالف المنهج، ولكن منهجكم ناقص، وكان الواجب أن يقول: «ومحظور إعطاء غير ما ذكر.» ولكنه لم يفعل.
قالت: ولكنك بإنهائك منهج السنوات الثلاث في سنتين تخلين بطرق التربية الصحيحة؛ لأنك لم تسيري في تدريسك خطوةً خطوةً. قلت: لك الحق في ذلك يا سيدتي، فأنا على ما يظهر قد درست مقرر السنة الأولى في أربعة شهور، بينما درستم أنتم في مدرسة بولاق على ما يظهر لي في ثلاث سنوات، وإذا كان السير بالطالبات خطوةً خطوةً مفيدًا كما تظنين، فأنا أطلب منك إجراء امتحان لطالباتي وطالباتكم في مقرر السنة الأولى فقط، فإن نجحت طالباتكم وجب عليَّ أن أغير خطتي، وإن نجحت طالباتي كان عليكم أنتم أن تغيروا خطتكم. قالت: ستنجح طالباتك لا مراء؛ لأنك موهوبة في الحساب، ولكن المدارس الأخرى لو سارت على نهجك لفشلت. قلت: وهل طلبت منكم أن تسير المدارس الأخرى على نهجي؟ وما دمت أنا ناجحةً في طريقتي، فكيف تنتقدونني فيها؟ وطال بيني وبينها الجدال، وأخيرًا كلمتُ المستر دانلوب تليفونيًّا فقلت له: «إن جناب المس بيلي تحقق معي في تهم أنا معترفة بها، ولا أرى مع هذا الاعتراف وجهًا للتحقيق؛ فالمسألة أني سرت في طريقي على كيت وكيت، والأمر بيدك إن شئت سمحت لي بالأمر فيما أفعل، وإن شئت عاقبت بما تريد، ولست أنوي التحول عن رأيي فاسحب مفتشتك، واعمل ما تراه صالحًا. قال: سأحملك في النهاية تبعة فشل هؤلاء الطالبات إذا لم تنجحي في طريقتك. قلت: وهو كذلك. وناولت سماعة التليفون للآنسة المفتشة، فطلب منها أن تترك المدرسة.
وبعد أسبوع من ذلك التاريخ زار المدرسة مفتش إنجليزي لا أعرفه، وكانت مهمته امتحان السنة الثالثة، ودهش لسرعة الطالبات في الإجابة مع صحة الجواب، بقي معهن ما يزيد على حصة كاملة، ثم انتقل إلى مكتبي، فقال: لقد تحققت أن لكِ طريقةً شاذةً في تدريس الحساب لا تتبعها المدارس الأخرى؛ ولهذا أرجو أن تسيري على نهج المدارس الأخرى حتى يكون بينكم وحدة في التعليم. قلت: أرجو أن تخبرني عن رأيك في طالباتي وطالبات المدارس الأخرى، أيهن أقوى تفكيرًا وأكثر استعدادًا؟ قال: إن طالباتك أقوى من المدارس الأخرى بلا جدال. قلت: إذن فاطلب من المدارس الأخرى أن تتبعني. قال: لقد استدرجتني إلى ما لا أريده. قلت: إنما استدرجتك الحقيقة التي لا مراء فيها.
أخذت الوزارة تتكلم في مسألة قوة طالباتي في اللغة العربية والحساب، وضعفهن في التاريخ والجغرافيا حسب ما كانوا يظنون، وأجمعوا رأيهم على أن يكون امتحان الكفاءة سهلًا جدًّا في اللغة العربية والحساب، وصعبًا في التاريخ والجغرافيا إلى حد الإعجاز حتى ترسب جميع طالباتي، وفات منطقهم الصحيح أن صعوبة أسئلة التاريخ تأتي من أن يختار واضع الأسئلة موضوعًا عقليًّا لا وجود له في الكتب التي بأيدي التلاميذ، أقصد لا وجود له في صفحة واحدة؛ لأنه يتطلب مقارنة أعمال الملك فلان بأعمال غيره من وجهة كذا وكذا، ومثل هذه الأسئلة تحتاج إلى فكر وإلى مقدرة في الإنشاء، وهو ما كان في طالباتي دون غيرهن؛ ولهذا ما كادت أسئلة التاريخ توزع على الطالبات في مدرسة معلمات بولاق حتى صرخن وولولن قائلات إنهن لم يأخذن شيئًا منها، وأخذ المفتشون يهدئون روعهن، ويشرحون لهن الأسئلة دون جدوى، وأخيرًا اتصل رئيس لجنة مدرسة بولاق برئيس لجنة مدرستي بالإسكندرية، وسأله عما تم له في لجنتي، فأجابه لا شيء والطالبات تكتب كتابةً قيمةً بلا انقطاع، فعجبوا لذلك، وكان رسوب طالبات معلمات بولاق ٤٠ طالبة من ٨٠ في التاريخ وحده، ولم ترسب من مدرستي واحدة، وما كان يعثر أحد من المصححين على ورقة جيدة في التاريخ حتى يقول هذه ورقة من الإسكندرية.
وهكذا خاب ظنهم.
ولعل هذا كان من بين الأسباب التي جعلتهم يفكرون في نقلي من ناظرة مدرسة الورديان إلى التفتيش.