عملي بالوزارة
حضرت إلى الوزارة، وعرفت مما سبق أن الإنجليز، وهم أسياد البلاد لا يريدون مجهودي كناظرة مدرسة، ولا أدري لِمَ كانت هذه الرغبة، ولعل ذلك لأني كنت أول ناظرة مصرية تولت رياسة مدرسة معلمات في الوزارة، وقد كانت مدرستي في ذلك العام أولى مدارس المعلمات الأخرى مع حداثة عهدها؛ فأخذ الناس يوازنون بين مجهود الناظرة الإنجليزية التي كانت تدير مدرسة معلمات بولاق منذ زمن بعيد، وبين الناظرة المصرية، وهي حديثة العهد بنظارة المدارس، وكتب بعضهم شيئًا من تلك الأفكار في الصحف اليومية، ولعل هذا كان السبب المباشر في تمسك الإنجليز بإخراجي من وظيفة ناظرة، وجعلي مفتشة، والمفتشة لا يمكن أن يُعرف مجهودها، أو يظهر له أثر خصوصًا إذا كانت الوزارة لا تؤيدها في عملها، على أنه قد ظهر لي فيما بعد أن ذلك لم يكن هو السبب الوحيد، بل إن خصومي من رجال الوزارة الذين كنت أندد بمسلكهم، وأعدد لهم الوقائع الصحيحة الدالة على انغماسهم في الرذائل …
أرادوا أن يظهروا للإنجليز براءتهم من تلك الرذائل، وأني أقول عنهم — أي الإنجليز — كيت وكيت، وأني أحرض الناس ضدهم ليحملوا الإنجليز على كراهيتي، وعدم تصديقي فيما أقول، وهكذا تم لهم ما أرادوا، وأيد افتراءاتهم ذلك المفتش الإنجليزي بأكاذيبه.
علمت ذلك فعلمت أنه لا يراد بي خير، وأنهم — وهم يخشون من نفوذي وقوتي في مدرسة واحدة — لا يمكن أن يقووا ذلك النفوذ في جميع المدارس، بل لا بد أن أعارَض في كل ما أريد؛ لهذا نويت أن لا أعمل، وأن أنفذ لهم رغباتهم مهما كانت رغباتي وميولي:
حضرت إلى الديوان فاستدعاني المغفور له المغربي باشا، وكان المعروف أنه يعرف من نوايا الإنجليز ما لا يعرفه غيره، وكان مستشار المعارف في ذلك الوقت المستر «باترسون» الذي كان بعد ذلك مستشارًا للمالية، فلما دخلت على المغربي باشا قال لي: «إنه مسرور جدًّا من تعييني مفتشةً لما يعلمه من انتقاداتي الدقيقة التي لا تترك من عيوب التعليم شاردةً ولا واردةً.» علمت من ذلك الكلام أنهم يريدون مني أن أنتقد المعلمين بشدة، وأن أدقق عليهم كل التدقيق، حتى إذا زرت عددًا عظيمًا من المدارس اطلعوا على تقاريري، وعاقبوا كل من ذكرت عنه شيئًا من العيوب بخصم جزء من مرتبه، وذلك بناء على ما جاء في تقرير حضرة السيدة نبوية موسى المفتشة بالوزارة.
ولا شك أن المعلمين إذا فوجئوا بذلك العقاب سَيَسْتَغِيثون بالوزارة من تلك المفتشة، ويطلبون عدم تفتيشها عليهم، وهذا كل ما تريده الوزارة؛ لأنها لا تريد مجهودي في أية ناحية من نواحي التعليم.
زرت بعد ذلك مائة مدرسة، فلم أنتقد شيئًا في تقاريري عن معلمة أو معلم، بل كنت أنصح المعلمين والمعلمات، وأنتقدهم شفويًّا، ولا أدون شيئًا عن هذا في تقاريري، وعندما قمت بتفتيش ذلك العدد من المدارس خاطبني المرحوم مغربي باشا تليفونيًّا، وقال لي: ما هذه التقارير التي كتبتها؟ قلت: وهل قرأتها سعادتك؟ قال: نعم. قلت: ذلك ما ظننت من قبل كتابتها، وهل تقرأ سعادتك كل تقارير المفتشين والمفتشات؟ قال: لا، ولكني أقرأ المهم، فقد كنت أظن أن تقاريرك مهمة، أما الآن فتقارير كهذه من شأنها أن تجعل المعلم يضع قدمه فوق رءوسنا. قلت: لعل هذا يا سعادة الباشا كل ما أردته أنا. قال: ولكني بعد هذه التقارير قد غيرت فكري في جهودك وذكائك. قلت: لا يجوز لك هذا، والله لولا ذكائي ما كتبتها على تلك الصورة؛ لأني إنما كتبتها لك لا للمعلمين حتى لا أعطيك فرصة عقابهم، ودفعهم بذلك العقاب إلى الشكوى مني. وضحك المرحوم ضحكةً عاليةً، وقال: «الله يجازيكِ هو أنت بتسحري.» ثم استمر يقول: ولكنك على كل حال قد ضيعت اعتقاد الناس فيك بهذه التقارير. قلت: سأرد ذلك الاعتقاد إلى ما كان عليه بكتابة تقرير إجمالي أشرح فيه عيوب تدريس المواد المختلفة بمدارسكم دون أن تستطيعوا عقاب أحد، وكتبت تقريرًا مطولًا عن تدريس جميع المواد بالمدارس أظهرت فيه أن الرقابة على تدريس تلك المواد غير موجودة، وأن التدريس غير مجدٍ، وأن ذلك كله يرجع إلى تصرفات غريبة من ولاة الأمور أنفسهم. وأطلعوا المستشار على ذلك التقرير بعد أن ترجموه له، وكان كما أظن لا يريد أن أفتش أنا على المدارس، فأراد أن يتخذ من ذلك التقرير وسيلةً إلى بلوغ ما يريد من إبعادي إبعادًا كليًّا عن التعليم، فاستدعاني، وقال لي في شيء من الشدة: إ … هذا التقرير لا يتفق وآراء المس بيلي. قلت: أتعلم جنابك أني أنا التي علمت المس بيلي اللغة العربية؟ قال: لا. قلت: سلها، فهي لا تنكر ذلك. قال: وما أهمية ذلك في الموضوع؟ قلت: إن الدروس التي أنتقدها هي اللغة العربية، وما يدرس بها، وعلى مس بيلي أن تتبعني فيها لا أن أتبعها أنا. قال: ولكنها المفتشة الأولى. قلت: وماذا تريد مني جنابك؟ قال: أريد أن تنتقدي الدروس حسب آرائها لا حسب آرائك أنت. قلت: وكيف يتسنى لي ذلك؟ أمعنى هذا أني أفتش المدرسة، ثم أعود فأخبر المس بيلي عن كل ما رأيته فيها لتملي عليَّ انتقاداتها هي عما رأيته أنا؟ ولو أني فعلت ذلك لكان عمل المفتشتَيْن هو عمل مفتشة واحدة، كما أنه يصبح عملًا معقدًا لا قيمة له، وإني بناء على ما تقول أظن أن جنابك لا تريد أن أعمل في التفتيش. قال: أوَتقبلين ذلك؟ قلت: ولِمَ لا أقبله ما دامت هذه إرادتك أنت، وما دمت تعطيني مرتبي كاملًا؟! قال: نعم، سأعطيك المرتب كاملًا، وسأمتعك أيضًا بالعلاوات دون أن تعملي. قلت: لك مني ألف شكر على هذا. وسُرَّ الرجل من الاتفاق الذي تم بيننا، وشكرني جزيل الشكر، وأوصلني إلى خارج باب غرفته، وهو يضغط على يدي، ويقول: أشكرك.
وكانت الوزارة قد أعدت لي مكتبًا خاصًّا وساعيًا خاصًّا، فبقيت في ذلك المكتب ٦ شهور لا أعمل شيئًا للوزارة، ولكني كنت أكتب في الأهرام مقالات أنتقد فيها نظم التعليم في وزارة المعارف، وأمهرها بإمضاء «ضمير»، وأخيرًا استدلوا على كاتبة المقالات، وأخبروا المستشار بذلك، وقدموا له مقالةً منها منشورة في الأهرام فاستدعاني، وقدم لي المقال بعد أن لفت نظري إلى الإمضاء، وقال: مَنْ كاتب هذا المقال؟ وكان جنابه يظن أني سأتنصل منه؛ ولهذا أعد الإجابة على جوابي شيئًا من السب والاحتقار كقوله: «إنكم أنتم المصريين كذابون جبناء.» وكم كانت دهشته شديدةً عندما أجبته بعدم اكتراث: إني أنا كاتبة ذلك المقال. وقد أخذته الدهشة، فبقي بضع دقائق دون أن يقول شيئًا، ثم قال بعد أن خفت دهشته: وهل تبقين بعد هذا في وظيفتك؟ قلت: ولِمَ لا يا سيدي؟ وهذا مقالي يشهد أني لم أقل فيه من سفيه الألفاظ أو المعاني ما يعيب شخصًا، أو يقلل من كماله، إنه نقد بريء لطرق التعليم يا سيدي، فإذا كان قد ترجم خطأ فاتركني أترجمه لك، وأنت هنا مستشار التعليم تقول إنك ما جئت إلا لإصلاحه، فهل يغضبك أني أرشدك إلى ذلك الإصلاح، أو أمهده لك كشخص من أتباعك يهمه أن يمهد لك ما تريد؟ قال: ولكني لا أريد أن تكتبي في الصحف. قلت: ولكنك لم تخبرني بذلك حتى الآن. قال: لا بأس وأنا أمنعك من الآن من الكتابة. قلت: ولكنك يا سيدي تطلب مني دائمًا المستحيل، إنك منعتني من العمل في التعليم الذي أعدتني ثقافتي له، وجعلتني أقيم في غرفة كسجينة لا عمل لها، وأنا أسلي نفسي بتلك المقالات، وأعدها واجبًا من واجبات التعليم التي يجب عليَّ القيام بها، ومن الصعب بل من المستحيل أن أبقى في غرفة بالوزارة بلا عمل، فإذا كنت تريد مني أن لا أكتب فاسمح لي أن أخرج من تلك الغرفة، وأن أذهب إلى حيث أريد، وأن أعمل ما أريد، وما دمت أنت في غنًى عن مجهودي دون ذنب مني، فيجب يا سيدي أن تصرف لي مرتبي كاملًا دون أن أحضر إلى الوزارة، بل ودون أن أرتبط بالبقاء في القاهرة. قال: لكِ هذا، اذهبي حيث تريدين، واعملي ما تريدين، ومرتبك مضمون لك. وحفظ الرجل وعده هذا فلم يُخِلَّ به، وخرجت من عنده على هذا الاتفاق، وفي اليوم التالي تركت القاهرة إلى الإسكندرية.