إنشاء مدرسة ترقية الفتاة
كنت قد تعرفت إلى كثير من سيدات الإسكندرية في أثناء الحركة الوطنية، من أشهرهن صاحبات العصمة حرم سليمان بك يسري القاضي بمحكمة الاستئناف، ومحمد بك درويش المستشار، وعبد الرحمن بك سعد أحمد المستشار أيضًا، وغيرهن، وكن قد زرنني وأنا بمدرسة المعلمات، وأظهرن لي رغبتهن في العمل لصالح مصر، وكان ذلك في سنة ١٩١٩، فشرحت لهن أن التظاهر والمسير في الطرقات لا يناسب كرامتنا كسيدات شرقيات، وأن في استطاعتنا أن ننفع بلادنا بطرق أخرى كالسعي الجدي في نشر التعليم بين الفتيات؛ لأن البلاد كانت في أشد الحاجة إليه، ومع أن مثل هذا العمل كان عملًا سلميًّا لا يمكن أن يتعرض له أحد، فهو عمل مجيد ينفع البلاد نفعًا جزيلًا، ويبقى أثره بعد الحرب، فلما اتفقت مع المستشار على مغادرة القاهرة عدت إليهن، فوجدتهن على استعداد عظيم للعمل معي، وقد ساعدتهن الزعيمة المحترمة صاحبة العصمة هدى هانم شعراوي، وقمن بعمل حفلة عظيمة جمعن بها مبلغًا من المال، فلما أخذن رأيي في كيفية التصرف فيه قلت لهن أن يشترين بهذا المبلغ أدوات مدرسيةً، وأن يستأجرن منزلًا لفتح مدرسة أهلية للبنات، وتم الاتفاق، وذهبت أنا مع أحد أزواج صاحبات العصمة أعضاء جمعية «ترقية الفتاة»، وهو الاسم الذي اخترناه لهذه الجمعية، وأمضى عزته عقد الإيجار، وقد شعر قلبي في هذا الوقت بخطر اسْتَهْدَف أنا شخصيًّا إليه، إذا كنت أنا التي سيُعهد إليَّ بإدارة المدرسة.
ودار البحث بين أعضاء جمعية ترقية الفتاة على كيف تدار المدرسة، ومن الذي يتولى ماليتها، وغير ذلك، ثم أجمع أغلب الأعضاء رأيهن على أن تتولى الجمعية نفسها مالية المدرسة، وأن أقوم أنا بإدارتها، ولما كنت أعلم أن الجمعية تديرها سيدات بعيدات عن العمل لا بقاء لها كثيرًا لاختلافهن في الرأي، وعدم صبرهن على إدارة المدرسة، فقد رفضت، وقلت: إني أنا شخصيًّا لا أقبل أن أوظف تحت عشر سيدات لا يبعد أن يختلفن بعد شهرين، وأن يغلقن المدرسة لهذا الاختلاف، ولكني مستعدة إذا هن سلمنني الأدوات التي اشتريت أن أسلمهن إيصالًا بها على أن أردها إليهن يوم أعجز عن فتح المدرسة، أما إذا فتحت المدرسة، وسارت في طريقها، فليس لهن أن يطالبنني بتلك الأدوات ما دامت المدرسة مدرسةً، وأن أقوم أنا بإدارة المدرسة دون أن آخذ من الجمعية شيئًا، وأن أكون مسئولةً عن ماليتها، فعلي غرمها أو لي غنمها، وليس لهن حق التدخل في تلك الإدارة، ورفضت معظم السيدات هذه الشروط، كما رفضت أنا أن أشتغل معهن على غيرها، وفي صباح ليلة هذا الاجتماع جاءني جماعة من أزواجهن يناقشونني في الموضوع، فقلت لهم: إن السيدات أعضاء الجمعية ليس لهن غرض مالي، وإنما غرضهن هو إحياء تعليم الفتاة في الإسكندرية، وقد اشترين هذه الأدوات البسيطة التي لا تفي في الواقع لفتح مدرسة، ولكنها تصح أن تكون نواةً لفتح ذلك العمل العظيم.
وأنا لا أستطيع القيام بإدارة المدرسة ما لم يكن في يدي وحدي ماليتها؛ لأن الإدارة بلا مال لا يمكن أن تأتي بالنتيجة التي يرغبها المدير، وماذا يكون موقفي إذا طلبت من السيدات تعيين معلمة بمبلغ كذا من المال، أو تعيين عدد كذا من المعلمات فرفضن ذلك لقلة المال لديهن، فهل أستطيع في تلك الحالة أن أدير المدرسة بنجاح؟ كلا أيها السادة إنني أقبل أن أكون أنا من يتولى إدارة المالية دون تدخل أي شخص آخر، وأن تتولى السيدات إدارة المدرسة الفنية؛ لأني بالمال الذي بيدي أديرها بكل نجاح رغم كل معارضة منهن، أما أن يكون بيدهن المال وبيدي الإدارة، فأمر لا أفهمه؛ لأن إدارة بلا مال لا معنى لها، وتردد حضرات البكوات الذين تكلمت معهم في هذا الأمر في قبوله، ونظرًا لإصراري على عدم الاشتراك في المدرسة إلا بهذه الشروط اضطروا إلى قبولها، وكُتب عقد اتفاق بيننا أي السيدات أعضاء الجمعية على تلك الشروط، كما كتب كشف بالأدوات التي سلمت إلي، واشترطت أن أردها إليهن يوم أعجز عن الاستمرار في إدارة المدرسة.
أقمنا حفلة افتتاح باهرةً حضرها كثير من أعيان الإسكندرية بفضل نفوذ السيدات أعضاء جمعية «ترقية الفتاة»، وجعلت مصروفات تلك المدرسة أكثر من مصروفات مدارس الحكومة نفسها، ومع ذلك فقد كان الإقبال عليها عظيمًا جدًّا، ونشرت الجرائد أخبار تلك الحفلة مشيرةً إلى أن نبوية موسى المفتشة بوزارة المعارف هي التي تتولى وحدها إدارة المدرسة، وقرأ رجال وزارة المعارف الخبر، واندهشوا له؛ لأنه في نظر كل شخص غريب مدهش، فأرسل المرحوم المغربي باشا يستدعيني إليه، ولما حضرت عنده عرض عليَّ مجموعة من الصحف، وقال: ما هذا الذي تفعلينه في الإسكندرية؟ قلت: أقوم هناك بما أعدتني له وزارة المعارف، فقد علمتموني أن أكون معلمةً فناظرةً، وأنا الآن أساعدكم على نشر التعليم ما دمتم أنتم في غنًى عن جهودي في الوزارة، وإني أشعر أني أؤدي خدمة للأمة نظير المرتب العظيم الذي يصرف لي، أما قبل ذلك فكثيرًا ما كان يؤنبني ضميري على أخذ مرتب من الحكومة، وأنا لا أعمل شيئًا لصالح البلاد.
وها أنا اليوم قد أصلحت ذلك الخطأ فأنا آخذ مرتبي نظير عمل جليل أقوم به في تربية الناشئات، قال: إذن فادخلي إلى المستشار عسى أن تستطيعي مواجهته بهذا الكلام. قلت: إني أستطيع إقناعه أكثر مما أستطيع إقناعك أنت. قال: سنرى. ودخلت على المستر باترسون في مكتبه فقال لي قبل أن يحييني: ما هذا الذي صنعت؟ قلت: ليس لك حق في هذا السؤال، إنما هذا السؤال يستطيع أن يقوله حضرة صاحب السعادة المغربي باشا؛ لأنه لا يعلم اتفاقي معك، أما أنت فلا حق لك فيه، أبعد هذا الاتفاق تسألني ماذا صنعت؟ صنعت يا سيدي ما اتفقنا عليه، وهو أن أذهب أنى شئت، وأفعل ما شئت، ما دمت لا أكتب بقلمي في الصحف. قال: ولكني لم أكن أعلم أنك ستفتحين مدرسةً. قلت: وما الذي كنت تعلمه حين قلت لك أني سأترك الوزارة لأعمل خارجها ما دمتم في غنًى عن جهودي، فهل كنت تظن أني سأفتح منجمًا للفحم أم متجرًا للخشب، وأنا لا أعرف من هذا شيئًا؟!
إني معلمة يا سيدي، فإذا عملت فإنما أعمل للتعليم، وإذا كنتَ أنت قد جهلت ذلك فليس هذا من خطئي أنا، بل الخطأ راجع إليك. قال: وماذا نصنع الآن؟ قلت: لا شيء، فإني بناء على وعدك لي صرفت كل ما أملك من المال في فتح تلك المدرسة، ولا سبيل إلى إغلاقها. قال: أوَتبرين أنت بوعدك من عدم الكتابة في الصحف؟ قلت: نعم يا سيدي إذا حفظت أنت وعدك معي، على أن عملي في تلك المدرسة محال أن يترك لي وقتًا للكتابة، فاطمئن من تلك الجهة. قال: فليكن ما أراده الله. ولم يكن المغفور له مغربي باشا يعلم شيئًا مما تم بيني وبين المستشار سابقًا؛ ولهذا ظن أني سألقى من المستشار عنفًا، فلما عدت إليه قال: كيف رأيت جناب المستشار؟ قلت: على خير ما يرى الرجال، إنه ألين من سعادتك عريكةً، وأرق قلبًا، وقد قابلته مقابلة الأصدقاء، وافترقنا على ذلك. قال: إنك غريبة مدهشة في تصرفك. قلت: هكذا أراد الله أن ألقى المدهشات في حياتي، وأن أقابلها بمثلها. ثم تركته وعدت إلى الإسكندرية في الحال.