شاب ريفي
نجحت في الشهادة الابتدائية في يونيه سنة ١٩٠٣ كما قدمت، ولم ينجح في البلاد المصرية كلها غيري في ذلك العام إلا ثلاث فتيات، وأنا رابعتهن؛ تلميذتان من المدرسة السنية، واثنتان من مدرسة عباس، ولا غرابة بعد هذا أن يقوم شبان قريتنا وأن يقعدوا ابتهاجًا بهذا النبأ، وتقديرًا لتلك العبقرية في نظرهم إذ ذاك؛ أي العبقرية التي استطاعت بها فتاة من قريتهم أن تنجح في الشهادة الابتدائية، مع أن الناس الآن لا يعلقون أهمية ما لمن ينجحن في الشهادات العالية، فسبحان مغير الأحول، كنت في القرية حسب عادتي عندما ظهرت نتيجة الابتدائية، فتوافد الناس على دارنا أفواجًا للتهنئة، وإظهار إعجابهم بذلك النبوغ النادر كما كانوا يسمونه، وعلى أثر ذلك أرسل إليَّ أحد مشايخ القرية كريمته، وهي في نفس سني لتتعلم من معاشرتي المدنية، وظلت عندي مدة شهر كنا نخيط معًا بعض الملابس، وفي أحد الأيام جاءتني «ناعسة»، وهو اسم تلك الفتاة، وعلى وجهها شيء من علامات القلق، وما كادت تخلو بي حتى قدمت إليَّ خطابًا من أخيها، يقول لي فيه إنه أحبني دون أن يراني، كما يحب الناس الجنة دون أن يروها.
ساءتني جرأة هذه الفتاة، وهالني استهتار أخيها بالآداب في تلك القرية الصغيرة التي رأس مال أهلها الدين والكمال، وخشيت إن أنا أطلعت شقيقي على الخطاب أن يغضب لهذا، وأن يضرب ذلك الشاب، ويصبح ذِكري أُحدوثة بين أهل القرية جميعًا، فكظمت غيظي من الفتاة وأخيها، ومزقت الخطاب إربًا إربًا حتى لا يستطيع أحد قراءته، ووضعته في الظرف، ولم يكن الظرف معنونًا، وأعطيته لها، وقلت لها: لقد ساءني جدًّا أن يرسل أخوك هذا الخطاب، وأن تكوني أيتها الصديقة الرسول؛ ولهذا أرجوك أن تذهبي الآن وأن تخبريه بأني لا أعرف شيئًا عن الحب، وأني أحتقر كل من يعرفه، كما أرجو أن لا تعودي إلى دارنا مرةً أخرى.
خرجت الفتاة تتعثر في أذيال الخجل والأسف، وهي لا تكاد تقوى على جر قدميها، ومضت أيام ولم تعد «ناعسة» إلى دارنا، فسأل أخي ووالدتي عن السبب، فقلت لهما: لقد تم تمدينها، ولم تعد في حاجة إليَّ. وفي ذات يوم جاءني أخي، وقال لي في شيء من الحدة: كيف عرفك فلان؟ وذكر اسم ذلك الشاب، وخشيت في تلك اللحظة أن يكون ذلك الشاب قد أغضبه رفضي لصداقته فاختلق عليَّ من الأكاذيب ما يغضب أخي، ولكني تمهلت، وقلت لأخي: ومن أين عرفت أنه يعرفني؟ قال: لقد كنت أمس في فرح فلان، وكان هذا الشاب يجلس أمامي، ولكنه لم يشعر بوجودي، وسمعته يتحدث مع بعض شبان القرية، فقال أحدهم إن فتيات المدن فاسدات الأخلاق ماجنات، وهنا انبرى له ذلك الشاب يكذبه ويقول: إن كريمة موسى أفندي محمد، وهي من فتيات المدن، ومن أولى الناجحات في الابتدائية هذا العام على جانب عظيم من الأخلاق والكمال. فقال له ذلك الشاب المنتقد: وما يدريك فقد تكون كباقي فتيات المدن ماجنةً فاسدةً، ولكنا لا نعرف من أمرها شيئًا؟ فقال أخو ناعسة: لقد خبرتها بنفسي، وأعلم أنها أكثر النساء عصمةً واستقامةً. وهنا تبسمت، وقلت لأخي: وهل كلامه هذا يدل على أنه يعرفني؟ قال: لقد قال إنه خبر ذلك بنفسه. قلت: هذا تعبير يدل على تأكده مما يقول، وهل نسيت أن ناعسة أخته بقيت معي مدةً تخالطني وأخالطها، وعرفت من أخلاقي ما لا يعرفه غيرها؟ وأظن أن هذا ما أراده أخوها بقوله إنه خبر ذلك بنفسه، ولم يشأ أن يذكر اسم أخته. فزالت آثار الغضب عن ملامح أخي، وقال: «صدقت، لقد نسيت مسألة ناعسة.»
وهكذا كان ذلك الشاب الريفي مثال الشمم والصدق، مع أن غيره من رجال المدن الفاسدين ينتقمون أشد الانتقام ممن تتمسك بأهداب الفضيلة، وتخيب مطامعهم الفاسدة فيما أرادوه منها، نعم يتفننون في الانتقام من الفتاة لا لسبب سوى أنها امتنعت عن إجابة مطالبهم فيدبرون لها كل وسائل الكيد، ويدفعهم الغيظ إلى تَسْويء سمعتها ووصفها بما هي بريئة منه، لا لسبب سوى حقدهم عليها لتمسكها بالفضيلة والعصمة.
أما القرويون فيمجدون الفضيلة، ولا يسمحون لأحد أن يفخر بالرذيلة والفساد من سكر وعربدة وغيرها كما يفعل المدنيون، ومن يفعل ذلك منهم فإنما يعرض نفسه لسخط أهل القرية عامةً، واحتقارهم له وبعدهم عنه، فلا تسمع من القرويين عادةً من يروي لك في شيء من الفخر والزهو رواية سكره وعربدته، وهو لو فعل ذلك لما أصغى أحد إليه، ولما كان جوابه على ما يقوله إلا الضرب، وهكذا لا تجد الفضيلة أنصارًا إلا في وسط الريف الساذج البريء.