طرائف
قبل أن أترك مرحلة تعليمي الابتدائي أذكر بعض المفارقات الكثيرة التي كانت تحصل في تلك المرحلة.
فقد دخلت كما قدمت المدرسة السنية في السنة الثالثة الابتدائية، وكان ذلك في سنة ١٩٠١، وكانت المرحومة مَلَك حفني ناصف في السنة الثانية من معلمات السنية؛ أي كان بيني وبينها فرق دراسة ثلاث سنوات، وكانت المرحومة مشهورةً بجودة الإنشاء في اللغة العربية، وهي موهبة ورثتها عن المرحوم والدها حفني بك ناصف؛ فلما دخلت أنا اتجهت أفكار المعلمين إلى الموازنة بيني وبينها، وأخيرًا قرَّ رأيهم على أن يعطي معلم السنة الثالثة الابتدائية نفس موضوع الإنشاء الذي يعطيه معلم السنة الثانية من قسم المعلمات، وتم هذا، وعُرض الموضوعان على مدرسي اللغة العربية في القسمين الابتدائي والثانوي، فمال أغلبهم إلى تفضيل موضوعي، وقالت الأقلية إن الموضوعين متساويان في الجودة، وأغضب ذلك المرحومة مَلَك، وكانت طيبة القلب، وقد نمت بيني وبينها صداقة؛ فكانت تميل إلى مجالستي، فجاءتني بعد هذه الموازنة تشكو إليَّ سوء تقدير المعلمين في وقع موازنة كهذه بين تلميذة في السنة الثالثة الابتدائية، وطالبة في السنة الثانية من قسم المعلمات، وقالت إنها تظن أن اهتمامهم بي؛ لأني في السنة الثالثة الابتدائية يجعلهم يقدرون إنشائي فوق ما يستحق، وأنها تريد أن تعرض الأمر على والدها، وطلبت مني أن أكتب قصيدةً في مدح الخديوي، وأن تكتب هي أخرى، وأن تعرض القصيدتين على والدها ففعلت وفعلت، ثم جاءتني بعد ذلك على وجهها علامة عدم الرضا، وقالت: لقد انضم والدي إلى رأيهم، ويظهر أنك محظوظة. فقلت لها مازحةً: ولكني عرضت القصيدتين على أخي، ففضل قصيدتك، وبهذا أصبحنا خالصتين، واحدة بواحدة. وفي السنة الرابعة قالت هي قصيدة مدح في الخديوي، وقلت أنا أخرى، ولكنها لم تعرض قصيدتها علي، بل فوجئت بها على صفحات المؤيد، وأعجبني بيت فيها أيما إعجاب، وكنت خارجية، وكانت المرحومة داخلية، فلما رأيتها في الصباح قرأت لها البيت فقالت: لمن هذا؟ قلت: عجبًا، ألا تعرفين؟ قالت: لا. قلت: إنه من قصيدتك المنشورة اليوم في المؤيد. قالت: لعل والدي وضعه. ومن هذا علمت أن المرحوم حفني بك كان يساعدها فيما تكتب أثناء دراستها.
وحدث مرةً أن السيدة فيكتوريا عوض — الآن مدام هنري بك بدير مدير مخازن وزارة الصحة، وكان زميلة المرحومة ملك — شكت إليَّ من أن المعلمين أخذوا فكرةً ثابتةً عن تفوق المرحومة عليها في الإنشاء، فمهما اجتهدت ومهما كتبت فهم يضعون لها درجة أقل من درجة المرحومة ملك حفني، وأنها لهذا تريد أن أكتب لها أنا موضوعًا لترى هل يقدره المعلم، ويرفع درجته عن درجة موضوع زميلتها، فأجبتها إلى ما طلبت، فلما قرأ المعلم الموضوع سألها بعض أسئلة تتعلق ببعض المراجع التي قرأت فيها عندما أرادت أن تكتب ذلك الموضوع، فلم تعرف؛ لأنها لم تكن كتبت ولا قرأت، وهنا اتضح أنه كتب لها، فجاءتني ضاحكةً، وقالت لقد ضبطت السرقة، ولم نفلح فيما أردنا.
وأخذت طالبات قسم المعلمات يطلبن مني أن أكتب لهن مواضيع الإنشاء، وضايقني هذا فأقسمت أن لا أصرف وقتًا من أوقات فراغي في إملاء إنشاء لطالبة مهما كانت، وأنهن إذا أردن مني ذلك، فعلى التي تريد أن أملي عليها الإنشاء أن تقف على باب المرحاض عندما أكون أنا داخله، وهناك أستطيع أن أملي عليها دون أن يضيع من وقت فراغي شيئًا، وهكذا تم الاتفاق؛ فقل بالطبع عدد طالبات المواضيع؛ إذ لم أكن أستطيع أن أملي أكثر من موضوع في اليوم، وعلى طالبته أن تقف تلك الوقفة التي لا يرغبها أحد.
ومن طريف ما حدث أن طالبةً كانت متأخرةً جدًّا في اللغة العربية، فأمليتها موضوع إنشاء كلفها به المعلم، فلما صحح الإنشاء معلم الفصل دهش لتقدمها في الإنشاء، ومدحها على هذا التقدم السريع، وهنا تعالت الضحكات من جوانب الفصل، وسدت كل طالبة أنفها، بينما كان المعلم يقرأ موضوع هذه الطالبة؛ لأنهن اعتقدن أنني أنا صاحبة الموضوع لا هي، وعندما سألهن المعلم عن سبب سد الأنوف، قالوا: إننا واثقات أن هذا الموضوع إنما خرج من مرحاض! وحاول المعلم أن يفهم ما أردن، فاستعصى عليه الأمر، وأصرت الطالبات على أن رائحة الموضوع كريهة بالرغم من أنه هو لا يشم شيئًا.
وكان لي في ذلك العهد شهرة في حل المسائل الحسابية العقلية بسرعة مدهشة، وكانت مدرسة الحساب في قسم المعلمات معلمة إنجليزية، وكان فصلا السنة الثالثة الابتدائية والثانية معلمات متقابلين في فناء صغير، وفي ذات يوم خرجت من فصلي عندما انتهت الدراسة، فنادتني المرحومة ملك حفني من فصلها، فلما ذهبت إليها عرضت عليَّ مسألةً فحللتها على السبورة، وكتبت الجواب فدهشت الطالبات، وأسرعت إحداهن وراء معلمة الحساب التي كانت قد خرجت من الفصل، وردتها إليه ثانيًا، وأظهرت المعلمة دهشتها، وكل ذلك وأنا لا أكاد أعرف سبب هذه الدهشة، وأخيرًا قالت لي المرحومة مَلَك: إن معلمة الحساب صرفت الحصة بأكملها في حل المسألة، ولم تستطع أن تأتي بالجواب المدون في كتاب الحساب، وأخيرًا أكدت لهن أن الجواب المكتوب في كتاب الحساب خطأ. فلما أتيت أنا الجواب المذكور في كتاب الحساب دهشت الطالبات، ونادين المعلمة ليظهرن لها الخطأ الذي ذهبت إليه، وهكذا حللن المسألة بالطريقة التي كتبتها لهن على السبورة، ومن ذلك اليوم زادت مشاغلي، إذ كنت أحل لقسم المعلمات كل مسألة تستعصي عليهن.