و… كاد «مصباح» يصرخ من الفزع
قال رقم «صفر»: هذه هي القضية. إن إشعال الحرب بين الدول لا يحدث فجأة … إنه يحدث نتيجة سلسلة من الأزمات، بين دولة وأخرى. فقيام أزمة بين الهند وباكستان، مثلًا، يمكن أن يجرَّ خلفهما دول آسيا، بل إنه يمكن أن يجرَّ القوتين الأعظم؛ أمريكا والاتحاد السوفيتي، لدخول مثل هذه الحرب، حتى ولو من بعيد، كأن تقف كل دولة منهما خلف واحدة من الدول المتنازعة.
وأنتم تذكرون الأزمة التي حدثت بين فرنسا والصين مؤخرًا، لقد أحبَّ دبلوماسي فرنسي فتاةً صينية، وأراد أن يتزوجها … فاعترضت السلطات الصينية، وحاكمت الفتاة، وحكمَت عليها بالسجن ثلاث سنوات، وقد قطع وزير الخارجية الفرنسية زيارته للصين، نتيجة لهذه الحادثة.
إن مثل هذه الأزمات العادية يمكن أن تؤديَ سلسلة منها إلى قيام حرب … بل إنها يمكن أن تؤديَ في النهاية إلى حرب عالمية ثالثة … بجوار ذلك، فهناك تجار السلاح الذين يقفون خلف هذه الحروب … إنهم يحرصون على أن تظل الحروب دائرة في أماكن متفرقة من العالم، حتى تظل تجارتهم رائجة؛ لأنهم في النهاية يجمعون من خلفها آلاف الملايين من الجنيهات … وأنتم بالطبع تابعتم عدة أزمات أخيرة حدثت بين عدد من الدول، ولم تكن أسبابها سوى مواقف عادية جدًّا، حدثت بين الأفراد العاديين.
إن عصابة «سادة العالم» تلعب هذا الدور الآن، بخَلْق أزمة بين اثنين من أكبر أصحاب شركات البترول في العالم … إن هذه الأزمة التي تلعب بالطاقة يمكن أن تشعل النار في أيِّ منطقة من العالم، وهي بذلك تفتح أمامها مجالين للتجارة التي تربح من ورائها … تجارة البترول … وأيضًا تجارة السلاح …
صمَت رقم «صفر» قليلًا، بينما كان الشياطين يتابعون باهتمام حديثَه إليهم. ثم أكملَ بعد لحظة: لقد أعطيتكم طرَف الخيط، وعليكم أن تبدءوا. إنني أعرف أنكم سوف تستفيدون من المعلومات القليلة التي وصلتنا … فقط أَلفِتُ نظرَكم إلى أن مغامرتكم الجديدة يَحكُمها الوقت، وهو قليل.
مرت دقيقتان، كان الصمت خلالهما يُخيِّم على المكان، حيث كانت قاعة الاجتماعات تغرق في ضوءٍ خافت …
أخيرًا قال: هل هناك أسئلة؟
انتظر لحظة، لم يسمع خلالها سؤالًا من أحد من الشياطين، فأنهى كلامه: دعواتي لكم بالتوفيق. وسوف أُرسل لكم أيَّ معلومات جديدة تصل إلى المقر …
أخذت خطوات رقم «صفر» تبتعد حتى اختفت تمامًا، بينما كان الشياطين لا يزالون في أماكنهم، والتقَت أعينهم في لحظة سريعة، لقد كانت بداية الخيط مجرد عنوان في مدينة «لندن» الواسعة. أما التصور النهائي فلم يكن سوى تلك الكلمات التي قالها عن الحروب والأزمات.
وقف «أحمد»، وأخذ طريقه إلى الباب، فتحرك الشياطين خلفه، كان كل شيء يتمُّ في صمت … ذهب «أحمد» إلى حجرته ليُعدَّ أشياءه … فجأة، لمع جهاز «الفيديو» في حجرته، فعرف أن هناك تعليمات من رقم «صفر».
انتظر قليلًا، حتى جاءت التعليمات مكتوبة على شاشة الجهاز، كانت التعليمات: مجموعة الشياطين المسافرة هي: «أحمد»، «مصباح»، «باسم»، «قيس»، و«ريما». قرأ «أحمد» الأسماء بسرعة، ثم انصرف.
كان يتردد في خاطره العنوان الذي تبدأ منه المغامرة. شارع بركلي رقم ١٠٨. وقال «أحمد» لنفسه: إنها مغامرة غامضة تمامًا، والوقت قصير، فلو أنهم نقَلوا «ليز» إلى حيث يريدون، فإن كل شيء سوف ينتهي.
أخذ طريقه إلى حيث تقف السيارة التي يركبها إلى خارج المقر السري، وهناك وجد بقية أفراد المغامرة في انتظاره؛ فدخل السيارة في صمت. كان من الواضح أن الباقين مستغرقون في التفكير مثله. جلس «مصباح» إلى عجلة القيادة … وفي دقائق كانت الأبواب الصخرية للمقر السري تُفتح في صوت مكتوم، فانطلقت السيارة بسرعة، حتى تجاوزت الأبواب التي أُغلقت من جديد.
كان الوقت منتصف النهار … الشمس تلمع في الفضاء المتَّسع. ولم يكن هناك أحد على مدى البُعد. أدار «مصباح» مفتاح راديو السيارة فانطلقت موسيقى هادئة، تملأ جو السيارة الصامت.
قطع «باسم» الصمت قائلًا: أتوقَّع أن نصل إلى لندن عند منتصف الليل.
قال «أحمد» وهو لا يزال شارد التفكير: يجب أن نكون هناك قبل ذلك، إننا يجب أن نبدأ الليلة ونلحق بالطائرة التي ستغادر المطار الآن.
فهِم «مصباح» أنه يجب أن يرفع سرعة السيارة أكثر، فضغط على البنزين، حتى إن السيارة كانت تبدو وكأنها مجنونة … وفي أقل من ساعتين، كانوا يغادرونها أمام المطار … ولم تمضِ نصف ساعة، حتى كانت الطائرة ترتفع في الجو مغادرة المطار، فموعد إقلاعها الساعة الثالثة والنصف تمامًا.
كانت كل الترتيبات جاهزة؛ فقد خرجت إشارة من المقر السري إلى عميل رقم «صفر» … فأعد كل شيء؛ تذاكر السفر، وموعد الطائرة. ولم يكن توقُّع «باسم» بعيدًا عن الصواب، فقد كان على الطائرة أن تنزل في مطار «روما» أولًا. وهناك حدث ما جعل الشياطين يضحكون وهم ينظرون إلى «باسم». فقد طلب برج المطار من الطائرة أن تدور حول المطار، حتى يتم تدبير مكان لها على أرض المطار.
واضطُرَّ قائد الطائرة أن يدور بها حول مدينة «روما» حتى يسمح له قائد المطار بالنزول. لقد كانت لحظة حرِجة. لكن أحدًا من الركاب لم يشعر بها، إلا بعد أن نزلت الطائرة، ولمست الأرض، ثم استقرَّت نهائيًّا. لقد كانت هناك بعض المشاكل في المطار؛ ولذلك تأخَّر موعد قيام الطائرة إلى لندن.
قالت «ريما»: كأن «باسم» كان يقرأ الغيب.
ابتسم «باسم» وقال: إنها فقط مجرد لحظة إلهام.
علق «قيس» ضاحكًا: إن «إلهام» ليست معنا. فضحك الباقون.
في حوالي الثامنة مساء، كانت الطائرة تهبط في مطار «هيثرو» القريب من لندن … كان الليل يغطي أرجاء المطار، لولا الإضاءة القوية التي كانت تلمع في الليل. غادروا الطائرة بسرعة. وعندما وقفوا خارج المطار، كانت برودة شتاء يناير القارسة تكاد تُجمِّد أطرافَهم. غير أن التاكسي الذي اقترب بسرعة جعلهم يُلقون أنفسهم داخله.
قال «أحمد» للسائق: فندق النجوم السبعة؟
ودون أن ينطق السائق، انطلق بسيارته يقطع الليل، وكأنه يسابق أحدًا، وفي أقل من نصف ساعة، كان التاكسي يقف أمام الفندق، وبسرعة غادروه إلى الداخل … كانت الصالة الواسعة في مدخل الفندق دافئة، وتبادل الشياطين النظرات، وعلى وجوههم ابتسامات مريحة. كانت الحجرات محجوزة، فأخذوا طريقهم إليها. وفي خلال ربع ساعة، كانوا يعقدون أول اجتماع لهم.
قال «أحمد»: سوف نبدأ الآن، إن شارع «بركلي» ليس بعيدًا عنا كثيرًا. سأخرج أنا و«مصباح» لنرى ماذا سوف نفعل … إن خطتنا سوف تعتمد كثيرًا على الظروف، فليست لدينا خُطَّة مسبقة … لأننا لا نعرف كل التفاصيل، وأنتم تعرفون أن المعلومات التي لدينا لا تزيد على بعض أسماء، وعنوان بيت العجوز «جو». وشارع «بركلي» رقم ١٠٨. هذا كل ما لدينا، بجوار اسم «ليز» التي ستكون العميل الذي سيصنع الأزمة، بين «لانج» صاحب آبار البترول … و«جونار» صاحب شركات البترول ومناجم الفضة، ووالد «ليز» في نفس الوقت … أما ما سيفعلونه فإننا لا نعرفه.
دقَّ جرس التليفون، فرفعت «ريما» السماعة، وبدأت تسمع دون أن ترد … طالت المكالمة، و«ريما» تهز رأسها بين لحظة وأخرى. وعندما وضعت السماعة، نقلت للشياطين تفاصيلَها.
إن «ليز» ووالدها مدعوَّان في حفل الليلة في قصر بشارع «بارك»، وهناك معلومات تفيد بأن خُطَّةً ما سوف تُنفَّذ هذه الليلة … إن الحفل سوف يضم مجموعة كبيرة من الأثرياء ورجال الأعمال، وسوف يكون من بينهم بعض رجال عصابة «سادة العالم». ومن المتوقع أن يقوم رجال العصابة بخطف «ليز»، بطريقة أو بأخرى. إن الحفلة يقيمها مستر «لانج» صاحب آبار البترول، وعندما تختفي «ليز» من قصره، فإن ذلك سوف يثير أزمة بين والدها، وبين «لانج» … ويكون هذا هو بداية الخيط … إن «لانج» كما هو معروف بلجيكي الجنسية … وهذا يعني أن هناك أزمة في الطريق، بين بلجيكا وإنجلترا؛ لأن «جونار» مواطن إنجليزي. وهذه الأزمة لن تكون مجرد أزمة دبلوماسية … إنها سوف تخرج إلى محيط البترول ليكسب في النهاية رجال العصابة.
سمع الشياطين هذه التفاصيل … وعندما دار الحوار بين «باسم» و«مصباح» و«قيس»، كان «أحمد» قد استغرق في تفكير عميق … إلا أن «باسم» سأله: هل نذهب إلى الحفلة؟
نظر «أحمد» لحظة ثم قال: لا. سوف نذهب إلى شارع «بركلي» … إن الخُطَّة سوف تنتهي هناك.
نظروا له جميعًا، لكنه كان قد وقف، وهو يقول: ينبغي أن ننتقل إلى شقة بعيدة عن الفندق. إن المتوقع أن تحدث أشياء كثيرة.
صمَت لحظة، ثم أضاف: لكن هذا لا يمنع أن نظل محتفظين بحجراتنا هنا. وتنفَّس بعمقٍ ثم قال: سوف أنطلق أنا و«مصباح» الآن، وعليكم أن تُدبِّروا الشقة، وأن تخبرونا بالعنوان، بأسرع ما يمكن.
اتجه إلى باب الخروج، فأسرع «مصباح» خلفه هو الآخر. كانا قد استعدَّا لبرودة الليل، فلبسا ملابس ثقيلة لذلك عندما خرجا، كان البرد محتملًا … سارا في خطوات نشِطة، حتى يسريَ الدفء في جسميهما.
قال «أحمد» وهو ينظر إلى البخار المتصاعد من فمه: إن خُطَّة العصابة أن يخطفوا «ليز»، ثم ينقلوها إلى بلجيكا. وعندما تظهر هناك — سواء كانت على قيد الحياة، أو كانت قد فقدتها — سوف تقوم الأزمة، ويبدأ الصراع الحقيقي. فسوف يظن مستر «جونار» أن مستر «لانج» قد أقام الحفل من أجل خطف «ليز»؛ ولذلك لن يغفر له ذلك أبدًا، بل إنه سيحاول أن يحطمه بأي شكل.
كان «مصباح» يستمع إلى حديث «أحمد» وهو مستغرق في التفكير … لقد كانت الخُطَّة كما يرويها «أحمد»، تكاد تكون حقيقية.
وانقضت نصف ساعة عندما وقفوا على ناصية الشارع. وقال «مصباح»: ها نحن في شارع «بركلي».
قال «أحمد»: أتوقَّع أن يتأخر التنفيذ بعض الوقت، فكلما تأخَّر الليل، كلما كانت اللحظات أنسب.
كان الشارع خاليًا تمامًا من المارة … ولم يكن يظهر من بعيد إلا أحد رجال الشرطة … نظر «أحمد» في ساعته، كانت تقترب من العاشرة … ألقى نظرة على واجهة أحد البيوت، ثم قرأ الرقم، وكان ١٨.
همس «أحمد» ﻟ «مصباح»: لا يزال البيت بعيدًا.
استمرَّا في سيرهما، وتتالت الأرقام حتى وصلا إلى رقم ١٠٠. كان هذا يعني أن هناك ثلاثة بيوت ثم يأتي رقم ١٠٨، اقتربا من البيت أكثر، كان بيتًا قديمًا من طابَقين فقط … يبدو عليه الغموض، بلونه الداكن … نظر «أحمد» خلفه، حتى يرى إن كان هناك مارة في الطريق، لكنه لم يرَ سوى الشرطي، لا يزال يمشي بخطوات ثقيلة.
همس «أحمد» ﻟ «مصباح»: يَحسُن أن نفترق الآن، على أن نظل على اتصال؛ حتى نكون أقدرَ على المراقبة.
فجأة، شعَر بدفء جهاز الاستقبال، فعرَف أن هناك رسالة ما. تلقَّى الرسالة التي كانت من الشياطين، وحددت الرسالة مكان الشقة التي نزلوا فيها. كانت في شارع «بليك» الذي لا يبعد كثيرًا عن شارع «بارك»، حيث يقع فندق النجوم السبعة.
أرسل إليهم رسالة سريعة: غادِروا الشقة، وانتظِروا بالفندق حتى تعليمات أخرى.
نقل الرسالتين إلى «مصباح» الذي سمِعهما، ثم انصرف في خطوات هادئة.
عندما ابتعد «مصباح»، أسرع «أحمد» هو الآخر إلى الرصيف المقابل للبيت، فقد سمع سيارة تقترب. اختفى خلف أحد الأعمدة بعد أن ظهر نور السيارة … ظلت السيارة تقترب، حتى توقفت أمام البيت مباشرة. وفي لمح البصر كان ثلاثة من الرجال ينزلون منها، في نفس اللحظة التي فتح فيها باب البيت … ولمح «أحمد» رجلًا عجوزًا محمولًا بين أيدي الرجال الثلاثة، الذين دخلوا البيت بسرعة. وحاول أن يرى مَن الذي فتح الباب، لكنه لم يستطع. فكَّر بسرعة: هل هذا العجوز هو نفسه «جو»؟
مرَّت دقيقتان، قبل أن يخرج الرجال الثلاثة. فركبوا السيارة، ثم انصرفوا بسرعة. فكَّر «أحمد» وهو ينظر في اتجاه «مصباح» الذي كان يقترب … وعندما أصبح الاثنان بجوار بعضهما، همس «أحمد»: وهل رأيت؟!
رد «مصباح»: لم أتبين جيدًا، فقد كنت بعيدًا.
شرح له «أحمد» ما رآه، ثم قال في النهاية: عليك أن تراقبني، سوف أدخل البيت الآن، إنها البداية.
أسرع «أحمد» إلى رقم ١٠٨، ثم دقَّ الجرس بسرعة.
لحظة ثم فتح الباب … كادت الدهشة تعلو وجه «أحمد» إلا أنه استطاع أن يُخفيَ دهشته. لقد فتح الباب رجل عجوز نظر إليه في حدَّة، ثم سأل: ماذا تريد؟
أجاب «أحمد» في بساطة: أريد السيد «جو».
اتسعت عينا الرجل. وظلَّ لعدة ثوانٍ لا يقول شيئًا. ثم أخيرًا سأله في شكٍّ: ولماذا تريده؟
وبنفس البساطة قال «أحمد»: هناك رسالة هامة يجب أن أنقُلها إليه.
ابتسم الرجل ابتسامة صفراء، وهو يقول: هل تعرفه؟
كانت لحظة حرِجة، تَحدَّد خلالها موقف «أحمد» تمامًا فقال بلا تردُّد: لا. لم ألتقِ به من قبل؛ ولهذا سألت عنه.
مرة أخرى قال في هدوء: ادخل.
ولم يكد «أحمد» يخطو خطوة واحدة إلى الداخل حتى رأى «مصباح» ما جعله يكاد يصرخ من الفزع.