الصراع في مركز العصابة
فجأة ارتفعت يد العجوز ثم هوت فوق رأس «أحمد» في نفس اللحظة التي أغلق فيها الباب … وكان هذا آخر ما رآه «مصباح» من الخارج. لكن ما حدث في الداخل بعد ذلك، فلم يكن يعرف عنه شيئًا … فعندما رفع العجوز يده، كان «أحمد» قد توقَّع ذلك، ولكن قبل أن يُنزل العجوز يده التي كانت تضم قبضة حديدية، كان «أحمد» قد قفز مبتعدًا، واستدار في حركة دائرية ثم ضرب العجوز ضربة جعلته يتهاوى. وعاجله بضربة أخرى جعلته يتراجع بسرعة، ثم يصطدم بالحائط ويسقط على الأرض.
كان سقوطه فوق الأرض الخشبية قد أحدثَ صوتًا؛ ولذلك تراجع «أحمد» بسرعة، واحتمى بأحد الجدران في انتظار أن يظهر أحد. ظل هكذا دقيقة، لكن أحدًا لم يظهر؛ فأسرع يجرُّ العجوز، وفتح أول باب يقابله. كانت الحجرة مظلمة تمامًا، فلم يُشعل النور. جرَّ العجوز حتى أدخله الحجرة، ثم أخفاه خلف كنبة طويلة كانت قريبة منه. وفي لمح البصر، أغلق الحجرة، وخرج إلى الصالة.
ظل يتسمَّع لأي صوت، فلم يسمع شيئًا … رأى أمامه سُلَّمًا يصعد إلى الطابَق الثاني، ففكر بسرعة: هل يصعد، أم يمر على الحجرات الأرضية أولًا؟
قطع تفكيره صوت سقوط شيء على الأرض … كان الصوت صادرًا من الطابَق العلوي، وأخذ يتنصَّت. لكن فجأة، سمع صوت أقدام تنزل السُّلَّم الذي كان يهتز. فقد كان من الخشب. اختفى «أحمد» خلف السُّلَّم، وظل يرْقُب أصوات الخطوات أكثر.
فجأة، ظهر عملاق، جعل الدهشة تملأ وجهه. وقف العملاق عند نهاية السُّلَّم، وبصوت خشن، نادى: مستر «جو»!
تلفَّت العملاق حوله، ثم نزل عن السُّلَّم، ونادى مرة أخرى: أين أنت أيها السيد «جو»؟
ثم تحرَّك في اتجاه الحجرة، وهو يُردِّد: لماذا لا ترد؟
وعندما فتح الحجرة واختفى داخلها، أسرع «أحمد» بصعود السُّلَّم، حتى وصل إلى الطابَق الثاني … كانت هناك إضاءة خافتة، فاتجه إليها في حذَر، لكنه فجأة اصطدم بحامل خشبي، فوقه إناء للزهور. وفي خفَّةٍ، استطاع أن يمسك الحامل، لكن الإناء كان قد سقط مُحدِثًا دويًّا في صمت البيت.
أسرع «أحمد» إلى السُّلَّم، وحاول أن يرى صالة الطابَق الأول. رأى العملاق ينظر في اتجاهه، وقد ظهرت الشراسة على وجهه، فعرف أنه سوف يدخل معركة حادة مع العملاق. لكنه فكر في نفس الوقت أنه يستطيع أن يتحاشى هذه المعركة، ويغادر البيت، لكن ماذا ستكون النتيجة. إن المغامرة سوف تبدأ من «١٠٨ بركلي ستريت»، فهل تفشل المغامرة بخروجه من البيت؟
قطع تفكيره صوت السُّلَّم الخشبي الذي كان يفرقع تحت ثقل العملاق. اختفى في جانب مظلم قريبًا من نهاية السُّلَّم. كان قد وضع خُطَّة للتصرُّف. وقف متحفزًا في انتظار وصول العملاق. لحظات وظهر العملاق … وما كاد يضع قدمه على الدرجة النهائية للسُّلَّم، حتى كان «أحمد» قد أسرع إليه في حركة طائرة، ثم ضربه ضربة مزدوجة جعلته يتهاوى، ثم يسقط متدحرجًا على السُّلَّم … وتابعه «أحمد»، حتى وصل إلى الأرض، وقبل أن يفكر في الوقوف، عاجله بضربة قوية جعلته يطير في الهواء … وتابعه … لكن العملاق كان من الخفة إلى درجة أنه استطاع أن يتفادى الضربة التالية، ثم ضرب «أحمد» ضربة شديدة جعلته يطير في الهواء.
وفي رشاقة، أمسك «أحمد» بالسلسلة الحديدية التي تحمل نجفة كبيرة تتوسط الصالة، ثم ضرب العملاق بقدمَيه معًا ضربة جعلته يدور حول نفسه.
انتهز «أحمد» الفرصة، ثم قفز يتابعه … قام العملاق مُتحفِّزًا، لكن «أحمد» كان أسرع إليه من حركته … دار دورةً كاملة، أنهاها بضربة مزدوجة جعلَت العملاق يدور، ثم يصطدم بالحائط. وفي لمح البصر، جذب «أحمد» عمودًا من الحديد، كان موجودًا خلف الباب، ثم هوى على كتف العملاق، حتى إنه صرخ. عاجله بضربة ثانية على كتفه الآخر، فوقع الرجل على قدميه متألمًا. وكانت فرصة، ليتخلَّص منه فضربه بشدة فسقط على الأرض بلا حَراك.
في نفس اللحظة، خرج من الحجرة المظلمة العجوز «جو». كان يقف مذهولًا، فقد شاهد الضربة الأخيرة التي ضربها «أحمد»، للعملاق. وفي رشاقة كان العجوز «جو» قد وصل إلى العمود الحديدي الذي كان «أحمد» قد تركه ثم رفعه في الهواء لينزل به على رأس «أحمد» غير أن «أحمد» كان أسرع منه، فقد طار في الهواء، وكأنه السهم، وضرب العجوز، فسقط العمود والعجوز معًا …
شعر «أحمد» بألمٍ في يديه، بتأثير الضربات الكثيرة التي وجَّهها للعجوز، والعملاق. لكن الوقت لم يكن يسمح له بأي لحظة ألمٍ … وفي خفَّة، قفز يصعد درجات السُّلَّم اثنتين اثنتين، حتى وصل إلى الطابَق الثاني. كانت كل الحجرات مغلقة. وقف لحظة، ثم تحرَّك إلى أقرب باب منه. فتحه، فلم يجد شيئًا، كانت الحجرة خالية تمامًا. ولم يكن يُضيئها سوى ضوء الشارع الذي كان يتسرب من زجاج النافذة.
فكر لحظة، وحدد بسرعة المكان الذي سمع منه سقوط الشيء، قبل أن يظهر العملاق. وفي الجانب الآخر من الطابق، كانت هناك حجرة أخرى مغلقة. فتحها بسرعة. ثم وقفَ مذهولًا. لقد وجد رجلًا عجوزًا يجلس على أحد الكراسي، ويبدو كالنائم. اقترب منه في هدوء، دون أن يشعل النور. كانت الحجرة تقع على شارع ضيق يتسلل منه بعض الضوء. ظل يُحدِّق في العجوز لحظة، ثم تسللت ابتسامة إلى وجهه. فلم تكن بشرة العجوز متلائمة مع شعره الأبيض، أو ذقنه الطويل. كانت تبدو بشرة ناعمة لشاب صغير. مدَّ يده يهز العجوز، فتهاوى وكاد يسقط على الأرض.
غير أن «أحمد» كان أسرع إليه، ومد يده ليسنده ولم ينطق الرجل، أو يفتح عينيه. أسرع يحمله، ويخرج بسرعة من الحجرة. فكَّر: إنه يحتاج إلى سيارة الآن. أعاد العجوز إلى الكرسي، ثم أسرع إلى الحجرة الأولى التي تُطلُّ على شارع «بركلي». فتح النافذة في هدوء ثم أطلق صفير الشياطين … ظهر «مصباح» بسرعة، وبنفس الصفير تحدَّث «أحمد» إلى «مصباح» ثم أغلق النافذة.
تجاوز الحجرة خارجًا منها، لكن ضربة قوية كانت قد نزلت على رأسه. شعَر أن الدنيا تدور به، لكنه كان يستطيع أن يدخل في معركة، غير أنه لجأ إلى حيلة لا تخطئ، لقد سقط على الأرض، وكأنه قد انتهى إلى الأبد لكنه أحسَّ بقدمٍ تدفعه، فظل كما هو بلا حَراك.
سمع صوتًا عرَف أنه للعجوز، كان ينادي: «جيم»، اصْعَد بسرعة.
كانت هذه فرصة أخيرة له حتى يستغل الموقف؛ في لمح البصر، كان قد طار في الهواء، حتى إن «جو» نظر له في دهشة وهو يصيح: الشيطان!
وقبل أن ينطق كلمة أخرى، كان قد تهاوى بلا حركة. فقد ضربه «أحمد» ضربة خُطَّافية أنهت الموقف تمامًا. واختفى «أحمد» بسرعة في أحد الجوانب، لكن صوت أقدام «جيم» قد توقَّف، لقد أحدث سقوط «جو» على الأرض صوتًا، جعل العملاق يتصرَّف بحذَر. وظل «أحمد» ينتظر.
فجأة سمع صوت سيارة يقترب. فكَّر بسرعة: هل هي سيارة «مصباح»، أو أنها سيارة العصابة؟
ظل يتنصَّت، في نفس الوقت الذي كان يراقب فيه المكان، وتناهى إلى سمعه صوت قرص التليفون يدور، فأيقن أن العملاق يطلب النجدة من الخارج … اقترب من درابزين السُّلَّم وألقى نظرة سريعة، فرأى «جيم» يتكلم … وقبل أن ينطق، مدَّ يده إلى إناء الزهور القريب، ثم سدَّده في إحكام إلى سماعة التليفون التي سقطت من يد العملاق. وقبل أن يُفيق من دهشته، كان «أحمد» قد قفز من الطابَق الثاني، لينزل كالصاعقة فوق «جيم» … وسقط الاثنان على الأرض.
وقبل أن يمدَّ العملاق يده إلى حزامه ليسحب خنجره، كان «أحمد» قد لوى ذراعه في قوة، جعلت العملاق يستجيب، فيدور تبعًا لاتجاه لوي ذراعه. وفي حركة خاطفة، ضربه «أحمد» ضربة قوية، جعلته يسقط … على الأرض.
نزع «أحمد» حزامه بسرعة، ثم لوى ذراعيه، وربطه بإحكام ثم أخذ يجرُّه في اتجاه السُّلَّم، حتى أصبح بجوار الدرابزين، فربطه فيه.
كان العملاق لا يزال يتألم من ضربة «أحمد» الأخيرة، إلا أن «أحمد» لم يُضيِّع وقتًا … فقد قفز السُّلم بسرعة إلى حيث حجرة العجوز النائم … ثم حمَله، وأسرع عائدًا. نزل الدرجات بسرعة. فلم يكن العجوز ثقيل الوزن … مر أمام العملاق الذي نظر إليه في شراسة.
رد «أحمد» على نظرته بابتسامة. وقال: سوف نلتقي فيما بعد.
أسرع إلى الباب، وعندما فتحه، كان «مصباح» يقف بالسيارة أمام الباب مباشرة. أنزل العجوز في الكرسي الخلفي، ثم قفز بجوار «مصباح» الذي انطلق في سرعة البرق. لكنه فجأة لاحظ شيئًا في مرآة السيارة فهمس: يبدو أن هناك من يتبعنا!
ابتسم «أحمد» قائلًا: لا يهم، المؤكد أننا سنلتقي بهم أكثر من مرة.
ضغط «مصباح» على البنزين، فارتفعت سرعة السيارة أكثر، لكن فجأة، كاد يفقد السيطرة على عجلة القيادة. فقد خرجت من أحد الشوارع الجانبية سيارة مسرعة، اعترضت الطريق … إلا أن «مصباح» استطاع بالكاد أن يَمرَّ من المساحة الضيقة التي كانت بين مقدمة السيارة الأخرى ورصيف الشارع.
قال «أحمد»: لا يجب أن نذهب إلى الشقة الآن، وحاوِل أن تتخلَّص من السيارة خلفنا.
كانت السيارة المطارِدة تقترب منهم أكثر فأكثر، وهمس «مصباح»: هل نستخدم المسدسات؟
رد «أحمد» بسرعة: لا داعي الآن. فهم لن يستخدموها.
ظلت المطارَدة مستمرة فلم تتجاوز السيارة المطارِدة سرعةَ سيارة الشياطين. وفكَّر «أحمد» بسرعة، ثم أخرج جهاز الإرسال، وقال: نحتاج لمن يشغَلهم عنا.
أرسل رسالة سريعة إلى الشياطين: «نحن في شارع ٢٦ الآن. هناك مطاردة مع رجال العصابة. أرجو أن يتقدم «باسم» و«قيس» للاشتراك.»
خلال خمس دقائق، كانت هناك سيارة تقف بعيدًا، استطاع «مصباح» أن يعرفها من الإضاءة التي تكرَّرت مرتين، ثم مرة واحدة. تجاوز «مصباح» سيارة الشياطين الواقفة، فلمح «أحمد»، «باسم» و«قيس» فيها.
تحركت السيارة بسرعة خلفهما، ثم اعترضت سيارة العصابة. وسمع «أحمد» برغم سرعة سيارته، صوت فرملة قوية، ترددت في الليل، وكأنها صرخة فزع.
همس ﻟ «مصباح»: أوقِف السيارة؛ يجب أن أعود.
نظر له «مصباح» لحظة، ثم قال: إن هذه سوف تكون فرصة طيبة لهم، ليستفيدوا منك.
ابتسم «أحمد» وقال: أرجو أن يحدث ذلك.
أوقف «مصباح» السيارة فنزل «أحمد» وهو يقول: خذ العجوز إلى الشقة، وسوف ألحق بك.
في لحظة كانت سيارة «مصباح» قد اختفت. ورأى «أحمد» من بعيد مطارَدة عنيفة بين سيارة «باسم» وسيارة العصابة. أرسل رسالة سريعة إلى الشياطين: «سوف أنتظِركم في الشارع الموازي، عند النقطة «ن».»
قطع الشارع العرضي، ثم وقف عند النقطة التي حدَّدها وفي أقل من خمس دقائق … كانت السيارتان تتسابقان في المطاردة، وسط الشوارع التي خلت الآن، وعرَف أن «باسم» لن يستطيع إيقاف السيارة الآن، لالتقاطه، فأخذ يسير على رصيف الشارع في هدوء.
كانت السيارتان قد اختفتا تمامًا، فكَّر «أحمد»: هل يتجه إلى الشقة الآن أم ينتظر؟ وقبل أن يجد إجابة كانت سيارة الشياطين في طريقها إليه. وتحفَّز حتى لا تتوقف السيارة، فتلحق بها سيارة العصابة، وعندما اقتربت منه السيارة تمامًا، فتح «قيس» الباب، وهي سائرة، وفي خفة، قفز «أحمد» إلى داخلها وبذلك لم تتوقف لحظة.
أسرع «باسم» أكثر، فأسرعت السيارة الأخرى.
قال «أحمد»: اتَّجِه بنا بسرعة إلى الفندق.
دار «باسم» دورة كاملة، حول ميدان صغير يتوسط الشارعين ثم عاد إلى حيث فندق النجوم السبعة. كانت سيارة العصابة لا تزال تتبعهم.
قال «قيس»: ينبغي أن نتخلص من السيارة، قبل أن نصل الفندق.
قال «أحمد»: هذا ما أفكِّر فيه.
في نفس اللحظة، كان «باسم» يفكر نفس التفكير؛ ولذلك، فعند أول شارع عرضي قابله، انحرف داخله، ثم أوقف السيارة بسرعة، وغادروها في لمح البصر. كانت السيارة تقف أمام باب عمارة ضخمة، فهمس «أحمد» وهم يبتعدون: سوف يظنون أننا دخلنا العمارة الآن، لا بد أن نختفي.
عندما سمعوا صوت سيارة العصابة ينحرف إلى الشارع خلفهم، انبطحوا جميعًا على الأرض واختفى كلٌّ منهم تحت سيارة من السيارات الواقفة في الشارع. توقَّفت السيارة بجوارهم تمامًا بعد أن أطفأت أنوارها. وسمعوا أحدهم يقول: لا بد أنهم دخلوا هذه العمارة.
أسرع اثنان منهم يدخلون العمارة بينما بقي الآخرون في السيارة.
سمع الشياطين واحدًا يقول: إن «بورين» سوف يقلب «لندن» الليلة، إذا لم نعد بهم.
رد آخر: لقد تأخَّر «جو» في الاتصال بنا.
رد ثالث: ماذا سيقول «بورين» ﻟ «ويللي»، إذ لم تعد «ليز»؟
بدأ الشياطين يزحفون مبتعدين عن المكان، في نفس اللحظة التي ارتفع فيها صوت أقدام العائدين من العمارة.
قال أحدهم: يجب أن تنفجر السيارة، ما داموا قد اختفَوا. ومن المؤكد أنهم سوف يعودون إليها.
سمع «أحمد» هذه الكلمات فابتسم. وفي هدوء رفع رأسه يراقبهم وهم يعالجون أبواب سيارة الشياطين … ومن جديد، عاد يزحف … مضت خمس دقائق، كانوا خلالها قد ابتعدوا تمامًا عن المكان.
وقف الشياطين ثم تحركوا في هدوء، فقال «أحمد»: هل سمعتم؟
رد «باسم»: دعهم يُفجِّرونها.
قال «أحمد»: تحدَّث إلى عميل رقم «صفر»، واتركه يتصرَّف.
كان الليل قد مضى في طريقه إلى الفجر، الذي أوشك على الطلوع، فقال «أحمد»: علينا الآن أن نعود إلى الفندق … وسوف أتجه إلى الشقة.
افترق الشياطين … كان الفندق قريبًا من المكان، فمشى «أحمد» وحده قليلًا، ثم استقل تاكسيًا، واتجه إلى الشقة. وما إن وضع يده على جرس الباب، حتى فتح «مصباح» … وعندما دخل وتَقدَّم خطوة واحدة، علت الدهشة وجهه … فقد رأى شيئًا لا يخطر على بال.