أخيرًا … ظهر الرأس الكبير
عند أول مجموعة من الأشجار، توقَّف «باسم» ودخل بالسيارة بين الأشجار. ونزل الاثنان بسرعة.
همس «أحمد»: يبدو أننا مُراقَبان منذ أن خرجنا من فندق النجوم السبعة.
أخذا يبتعدان عن السيارة. ولم تكن هناك أيُّ حركة تُنبئ عن شيء. نظر «أحمد» حواليه. فجأة دوَّت بجواره طلقةُ رَصاص، فعرَف مصدرها.
قال ﻟ «باسم»: إنهم في منطقة الحشائش، على يميننا تمامًا.
زحف الاثنان، مبتعدَين عن المكان، غير أن الطلقات ظلَّت تُدوِّي.
قال «باسم»: هل ندخل معهم في معركة؟
لم يردَّ «أحمد» مباشرة، غير أنه قال بعد قليلٍ إن الالتحام معهم أكثر تأثيرًا.
استمرا في زحفهما، بينما كانت الطلقات تغطي المساحة كلها. كان الغروب قد بدأ يزحف على الوجود، وبدأت الأشياء تبدو كالأشباح.
همس «باسم»: إن الوقت يعطينا الفرصة للاشتباك معهم.
فقال «أحمد»: نحن في حاجة إلى التصرف بسرعة، فإن الوقت ليس في صالحنا. وربما تكون هذه الحركة من أجل تعطيلنا.
دارا دورة واسعة، ثم اتجها إلى مكان العصابة الذي كان يكشفه مصدر إطلاق الرصاص. اقتربا أكثر ثم بدآ يسمعان حوارًا.
قال واحد: ربما يكونان قد هربا.
رد آخر «لا أظن. إن السيارة توقَّفت، ثم اختفت. وهذا يعني أنهما في المنطقة.
هل تظن يا «جيم» أن الآخرين قد وصلوا إلى الباخرة الآن؟
عرَف «أحمد» أن العملاق جيم بينهم. وعرف في نفس الوقت أن «ليز» سوف تُنقَل بالباخرة كما فكَّر تمامًا، من قرية «هارتش» إلى «أوستند». ظلا يقتربان، ويقترب صوت أفراد العصابة.
سمع «أحمد» صوت «جيم» يقول: إن الباخرة كانت في الطريق من «أوستند» وأظن أنها على وشك الوصول، هكذا قال السيد «جو».
من خلال الضوء الأخير للنهار، كانت أشباح أفراد العصابة تظهر.
إن نقطة الانطلاق يجب أن تكون هذه اللحظة. هكذا قال «أحمد»، فلم تكن بين الشياطين وبين أفراد العصابة مسافة كبيرة. كانت مجرد عدة أمتار، يمكن أن يقطعاها بقفزة طويلة، لكنهما لم يفعلا ذلك. لقد اقتربا أكثر. فقد كانا يريدان التأكد من عدد الأفراد. وضَح الآن، إنهم أربعة كانوا يقفون متجاورين، وكل اثنين ينظران إلى اتجاه.
همس «أحمد»: إن ضربهم الآن سهل. إنها قفزة واحدة، ليكونوا جميعًا على الأرض.
أطلق «أحمد» صفيرًا كأنه صوت أحد الطيور الليلية، وفي لمح البصر، كانا يطيران في الهواء، وكل منهما يضرب اثنين من خلال حركة كاراتيه مُتقَنة. فجأة، تعالت صرخات الدهشة. عندما اصطدم كلُّ اثنين ببعضهما. وقبل أن يُفيقوا من دهشتهم. كان «أحمد» قد أمسك بيد «جيم»، ويدور به دورة كاملة في الهواء ثم يتركه فيصطدم باثنين. أما الرابع فقد كان «باسم» قد ضربه ضربة قوية جعلته يترنَّح على إثرها ثم عاجله بأخرى، فسقط بلا حَراك. استدار «باسم» بسرعة واشتبك مع آخر، في نفس الوقت الذي كان «أحمد» قد التحم مع العملاق الذي صرخ: لقد تمنيت أن ألقاك.
فقال «أحمد» ضاحكًا، وهو يضربه: لن تتمنى ذلك مرة أخرى.
صرخ «جيم» من الألم. وقبل أن يُجهِز «أحمد» عليه، كان الآخَر قد قفز في اتجاهه. وضرب «أحمد» ضربة قوية جعلته يترنَّح، إلا أنه استطاع أن يستفيد من الضربة … فقد قفز في اتجاه الآخر، مع قوة اندفاعه، حتى إن رجل العصابة تصوَّر أنه قد أجهزَ عليه، فأخرج مسدسه وصوَّبه في اتجاه «أحمد»، وقبل أن يضغط على الزناد كان زميله يصطدم به، وطاشت الطلقة في الهواء. لقد كان «باسم» أسرع منهما معًا، فقد ضرَب الأول حتى إنه اندفع واصطدم بزميله، ووقع الاثنان على الأرض. تمالك «جيم» نفسه فاندفع في اتجاه «أحمد»، إلا أن «باسم» كان يقِظًا تمامًا، فاعترضه بقدمه فتعثَّر فيها، وسقط على وجهه. في نفس الوقت الذي أسرع «أحمد» إليه، وضربه ضربةً جعلته لا يستطيع حَراكًا. وفي ثلث ساعة كانت المعركة قد انتهت. واستلقى الرجال الأربعة على الأرض.
قال «أحمد»: فلنسرع.
جريا بسرعة وكانت أمامهما سيارة العصابة.
قال «أحمد»: اركب هذه السيارة، وسوف أركب سيارتنا.
قفز «باسم» في سيارة العصابة وانطلق بها. في نفس الوقت كان «أحمد» قد وصل إلى سيارة الشياطين فقفز داخلها، وانطلق هو الآخر. كان «باسم» في المقدمة وخلفه «أحمد». وكانت هناك مسافة كافية تفصل بينهما وتعطيهما فرصة التصرف إذا حدث شيء آخر … انقضت ساعة، ومن بعيد ظهرت أضواء «هارتش».
أرسل «أحمد» رسالة إلى «مصباح»: «أين أنت الآن؟»
جاءه الرد سريعًا: «عند النقطة «ﻫ». الأحداث تدور في قصْرٍ خارج المكان، حيث نُقلت «ليز».»
أرسل رسالة أخرى إلى «باسم»: انضم إلى «مصباح» وتركزا في النقطة «ﻫ»، الموجود فيها «مصباح» الآن، وسوف أتصل بكما.»
أخذت الأضواء تقترب … اتجه «باسم» اتجاهًا مختلفًا، لينضمَّ إلى «مصباح»، في الوقت الذي استمر فيه «أحمد» حتى تجاوز «هارتش» … ومن بعيد ظهَر مُرتفَع من الأرض وفوقه كان يبدو قصر يلفُّه الظلام، وإن كانت تكشفه بعض الأضواء الصادرة عنه.
فكر «أحمد»: هل يترك السيارة، أو يستمر بها. بعد لحظة، دار حول المرتفَع، كان يريد أن يصل إلى مضيق «روفر» حتى يستطيع أن يرى ما يحدث على الشاطئ … عندما اقترب … دخل بالسيارة في منطقة يُخفيها ارتفاع الهضبة العالية، ثم نزل منها. كان الجو شديد البرودة، لكن ذلك لم يكن يَثنيه عن طريقه، فأسرع جريًا في اتجاه الشاطئ. ولكن فجأة، لمعت أضواء في الماء … انحنى على الأرض، ليتسمَّع إلى أي حركة … فسمع صوتَ محرِّك وعرَف أنه لنش، وليس باخرةً كبيرة. أسرع أكثر، ورغمًا عنه تعثَّرت قدماه في بعض الأحجار فسقط على الأرض.
شعر بالألم لشدة اصطدامه. لكنه تحامل على نفسه ووقف، شدَّ نفسه، ثم تقدَّم. رأى سُلَّمًا حجريًّا يصعد من الشاطئ، إلى حيث القصر، فاتجه إلى السُّلَّم، وصعد الدرجات بسرعة. فجأة تناهى إلى سمعه صوتٌ فتوقَّف بسرعة، كان صوت أقدام تقترب. اختفى في الظلام بعيدًا عن السُّلَّم، وانتظر. كان صوت أقدام لاثنين. اقترب الصوت أكثر، ثم بدأ يسمع صوت المتكلمين.
قال واحد: لا أدري كيف خدعكم هذا الشاب.
رد آخر: لا أظن أنها خُدعة، إنها مجرد طلب لبعض المال.
عرف «أحمد» من الصوت الآخر أنه «جو» العجوز، فقال في نفسه: لا بد أن الآخر هو الرأس الكبير.
اقتربت الأصوات حتى جاوزته. التصق أكثر بالأرض، حيث كان يرقد مختفيًا. ومن خلال ضوء خافت تمامًا، عرف أنه ضوء القصر، لمح وجه العجوز ولمح وجه الآخر، كان الآخر يبدو وسيمًا جدًّا … في منتصف العمر، يكاد يقترب من الأربعين.
قال العجوز: هل ترحل معهم يا سيد «بوريف»؟
قال «بوريف»: لم أفكِّر في ذلك بعد.
تجاوزاه، فوقف ينظر في أعاقبهما. كانا يبدوان كشبحين وهما ينزلان السُّلَّم في طريقهما إلى الشاطئ … في نفس الوقت كان اللنش يقترب أكثر فأكثر. نزل خلفهما في هدوء. لم يكن يمشي على السُّلَّم، خوفًا من صدور صوت لمسَ حذائه للأحجار فقد كان ينزل على أرض المُرتفَع المنحدرة، والتي كانت طرية بتأثير الشتاء. كان يمشي خلفهما مباشرة، وهو يحاول أن يسمع منهما أيَّ شيء، يمكن أن يكشف طريقة تفكيرهما.
فجأة، انزلقت قدمه، فسقط يتهاوى من ارتفاع في اتجاه الشاطئ. توقَّف «بوريف» و«جو» عندما سمعا صوتًا مكتومًا.
وقال «بوريف»: هل سمعت شيئًا؟
قال «جو»: أظن ذلك.
كان «أحمد» قد تشبَّث بالأرض الطينية، واستطاع أن يوقف انزلاقه. وسمع حوارهما الذي استمر.
بوريف: هل معك مصباح؟
أخرج «جو» مصباحًا صغيرًا، وأضاءه، ثم أخذا يُفتِّشان المكان. كان «بوريف» يمسك مسدسًا، ويبدو عليه القلق. غير أن «أحمد» كان قد اختفى داخل حفرة وقع فيها بالصدفة. اتجه الضوء ناحيته، ففكر بسرعة: قد تكون هذه هي النهاية.
شعر أن الضوء يقترب أكثر، وقال «جو»: لا أظن أن أحدًا هنا.
فردَّ «بوريف»: لكنني متأكد أنني سمعت صوتًا.
قال «جو»: لعله صوت رياح مفاجئة.
قال «بوريف»: لا. إنه صوت سقوط شيء.
توقف زحف الضوء. فتنفَّس «أحمد» بارتياح. بدأ الضوء يتراجع، ومعه يتراجع الصوت.
قال «أحمد» لنفسه: لولا هذه الحفرة، لكانت طلقة من مسدس «بوريف» كفيلة بأن تُنهي الموقف.
أخرج رأسه من الحفرة في حذرٍ. رأى الشبحين يتحركان على السُّلَّم الحجري، و«جو» يمسك بالمصباح. زحف خارجًا، ثم أخذ يتبعهما، كانا أمامه تمامًا، في اتجاه الشاطئ. فلمع ضوء اللنش وهو يقترب، وصوته يخفت، فعرف أن اللنش يكاد يتوقف.
تساءل بينه وبين نفسه: تُرى أين «ليز» الآن؟ هل لا تزال في القصر، أو أنها في مكان آخر؟ … فكر لحظة، ثم أرسل رسالة إلى الشياطين: «ما الموقف عندكما الآن؟»
جاءته الرسالة ترد: «المنطقة محاصرة تمامًا. «ليز» لا تزال في القصر.»
أرسل لهما رسالة يشرح موقفه ثم أنهى الرسالة بقوله: إننا نقترب من النهاية.
توقَّف في مكانه، فقد بدأ صوت الأمواج يصل إلى أذنيه. فرأى «بوريف» والعجوز يقفان عند نهاية السُّلَّم الذي ينتهي عند مياه الشاطئ. كان اللنش يقترب منهما، ويبدو على سطحه بعض الرجال. فقد كانت إضاءته تكشف كل شيء. في نفس الوقت، كانت الأصوات تصل إلى سمعه في وضوح.
توقَّف اللنش، وظهر رجل عجوز عند مؤخرته. قال: هل كل شيء على ما يرام يا «بوريف»؟
رد «بوريف»: نعم يا سيدي.
قال الرجل: متى يمكن أن نرحل؟
أجاب «بوريف»: الآن إذا أردت يا سيدي.
قال الرجل يخاطب «جو»: كيف حالك يا «جو»؟
ردَّ «جو» على ما يرام يا سيد «ويللي». لقد انتهينا من كل شيء.
عرَف «أحمد» أن «ويللي» هو الرأس الكبير. التفت «ويللي» يخاطب أحد الرجال في اللنش: هل نستطيع أن نرحل الآن، أيها الكابتن «كوك»؟
أجاب الصوت من الداخل: أعتقد أننا نستطيع أن نرحل بعد ساعة يا سيدي. فنحن في حاجة إلى إعداد بعض الأشياء فالرحلة طويلة.
قال «ويللي»: لا بأس. تستطيع أن تصعد أنت والرجال بعض الوقت.
قفز «ويللي» من اللنش إلى الشاطئ في رشاقةِ شابٍّ، وأخذ الجميع يتجهون إلى القصر.
سأل «بوريف»: هل الباخرة جاهزة يا سيدي؟
ضحك «ويللي» وهو يقول: نعم. إن الباخرة واقفة في عُرْض البحر.
ثم نزل بحارة اللنش، بعد أن بسطوه على الشاطئ، وبدءوا يتَّجهون خلفهم إلى القصر أيضًا.
فكَّر «أحمد»: هذه فرصة لا يجب أن تفوت.
وبينما كانوا هم يبتعدون عن الشاطئ، كان هو يقترب منه. فقد فكَّر في خُطَّة سريعة.